حديث النفس.. الإخراج الأخير لرواية حياتك
أشياء قديمة.. أفعال غبية.. وأقوال تافهة ظننا فيها القيمة.. أماكن عشقناها وأخرى كرهناها.. بشر وضعناهم تاج فوق رؤوسنا وآخرون ظلمناهم.. صباحات.. مساءات.. تناقضات الفعل والقلب والجسد والروح.. بقاء ورحيل.. صور وأصوات.. كلها مشاهد من رواية فيلم حياتنا.. تأخذنا.. تستحوذ علينا.. تداعب فينا الحنين.. تحمل مسميات لقصص البؤساء والسعداء وفرضية النجاح الوحيد وخيبات الفشل والإخفاق ما بين مقدمات تحمل أمانى ومتن يحمل أعاصير.. نحلق أو لا نحلق فيجمدنا الانتظار.. يجبرنا الحنين دائما فنقول هل لنا أن نعد لمشاهد ودعناها بعدما عز فى حياتنا الجديد.. وأخرى ننادى أيها المخرج أعد إخراجها فهى ثقوب فى وجه شريط حياتنا!!
بشر يولدون وآخرون يرحلون.. يتزاحمون على أرصفة العمر.. باحثون عن نفق آمن ينعمون فيه بجماليات الحياة.. منتقلون بين مرحلة وأخرى فى رحلة العمر الماضية.. تغرينا قوتنا ويدفعنا شبابنا لخطوات سريعة ندب بها فوق الأرض.. ننتقل فيها بين طفل وشاب وشيخ.. تتناقص قوانا وتنهد عافيتنا.. تأخذنا النجاحات وتغرينا الخيبات فى خطواتنا على طريق الحياة.. نضحك على الدنيا وتضحك علينا.. تطوى أعمارنا سريعا فى نهاية لكل ما هو جميل يجف معه الغصن وينحنى الظهر فى مسارات الوجع والأنين فى قصص من الواقع بحلوه ومره تضم الجميع أنا وأنت والكون كله.. البطل صاحب القصة حتى وإن لم يكتب نصوصها.. فالأيام والسنون تسير ونحن جزء منها تأبى أن تتركنا إلا وهى تاركة بصماتها وتجاعيدها فينا.. تغيرنا وتأخذ منا أكثر مما تعطى وربما تعطينا ما لا نطلبه.. تجعلنا نلاحقها لكن لا ننالها ولا نلحق بها.. لهاث وركض.. تأكل منا وتقتص منا حماسنا والرغبة فيها.. نظن أن النهاية بعيدة والصحة دائمة والذاكرة قوية والعمر طويل.. تراوغنا ما بين حسرة وشوق لمتعة فى محاولات لتجاهل الألم والحزن.. تدفعنا لتعلم الصمت والشجن.. يصبح الحزن واستدعاؤه أقرب من الفرح.. ومهما أخذت منا الأيام نصبر أنفسنا أن الباقى يكفينا!!.
كل مشهد من مشاهد حياتك يحمل المعركة والذكرى.. فالحياة تنازلنا فى جولات.. تبارزنا ونتوهم أننا نتبادل النزال.. وفى الحقيقة أننا ننازلها فى خيالاتنا فقط.. نبحث عن الراحة والاستقرار وننسى أنها تسحب بساطها الحريرى من تحت أقدامنا.
حياتنا مثلها مثل ما حواه الكون تمتلئ بفصول تأتى وتذهب وحيوات وأشخاص تأتى وترحل فى بدايات ونهايات.. قد نجيد كتابة بعضها وقد نترك للآخرين وللقدر ملء صفحاتها.. فلا يسمح لك أن تنتقل لفصل جديد من رواية حياتك تاركا خلفه صفحات بيضاء.
فى مشاهدنا الأولى تتملكنا الأمانى، لكن الواقع يفرض علينا أمره فى مغامرات أو حتى قصص البؤساء والنجاح والفشل.
وما بين نهاية فصل وبداية آخر تصبح معلقًا، يقلقك الانتقال الإجبارى الذى قد يكون مفاجئا.. فيفرض عليك الخوف والقلق وما يصاحبه من شقاء للروح وتسارع نبضات القلب وأنفاس ضائعة خوفا من الفشل، لأنك تعلم أنك متكبد فاتورة الإخفاق.. فتحوى حياتنا مشاهد عديدة من القلق والخوف ننكرها معتبرين أنها منافذ معطلة.. على الرغم أنه بالخطأ والنقصان نكتمل.. فأى كمال هو نسبى يتوارى خلفه عيوب.. فمن غير المعقول أن ننكر أى محاولات فاشلة وراءها خطأ مقصود أو غير مقصود، وكأن كل ما نفعله يلزمه النجاح فقط.. فلا نجد خطأ واحدا أو عيبا يطل من هنا أو هناك فى محاولات متزنة بدقة مخيفة تتناقض مع قوانين العقل وحتمية الخطأ التى تمنحها الحياة.
ولا أنكر قسوة مشاهد الفشل وما يصاحبها من ثغرة فى نفس صاحبها.. ربما تسبب فوضى داخل نفسه خاصة مع تكرارها، إلا أنها واردة ويجب أن يتعامل معها الإنسان بمواجهة حاسمة لا تجعله يتوقف عندها كثيرا، بل يجب تجاوزها متعلما من خطئه وإلا أصبحت غصة العمر التى لا تفارق شريط حياته.
وما أكثر مشاهد النجاح والفشل إلا أنه يجب أن نعلم أنهما غير مطلقين ففى رأيى النجاح نسبى والفشل أيضا.. نحن من نخلع عليهما لباس المثالية المستحيلة التحقيق.. وننسى أننا لسنا ملائكة ولا بإمكاننا أن نخلق فرصا منشودة.. قد نكتب لأنفسنا فصولا فى رواية حياتنا، لكن لا تتحقق كلها فتصبح مجرد نصوص حلمنا بها نكتبها لأنفسنا فقط.. على الرغم أن ذلك التعثر يؤلمنا لكننا لا نكف عن الأمل ورفع سقف طموحاتنا.
ويحلو لنا أن نرقب مشاهد من قصة حياتنا نقارن فيها بين أحوالنا وغيرنا أملا فى مشهد يخرجنا مما نحن فيه ولا تخلو المتابعة من تكرار سؤال على أنفسنا هل أخطأنا؟!.. هل تمادينا فى أحلامنا؟!.. أم نسينا أن نحلم؟!.. محاولين استرجاع شريط حياتنا وكأننا مشاهدون ولسنا أطرافا أصيلة.. وأحيانا ندخل أنفسنا فى شرائط غيرنا.. ورغم ذلك ففى تصورى أن لا أحد يمتلك الشجاعة ليشاهد فيلم حياته فنحن نمتلك ذاكرة الاختزال وشخصية الجلاد والضحية فتصبح كل محاولات المشاهدة مؤلمة تملؤها الحسرة.
ولا أعلم لماذا يخيم شبح الخطأ على كل صفحات حياتنا وكأننا أطفال نعشقه ونكرره.. يدفعنا فراغ ويجذبنا آخر.. حائرين بأحلام وبدون أحلام.. تلاحقنا مسارات الوجع التى تكتمل ذروتها على عتبات نهاية أعمارنا.. فيطحنا الوهن.. نحاول الأمل ويغلبنا الاستسلام والفشل.. نحكم على معارك حياتنا بكلمة واحدة إما النجاح أو الفشل، وننسى أنها جولات بين هذا وذاك.. مترنحين تقترب حالاتنا من الجنون وسط أحلام مستحيلة نعانى من مطاردتها لنا كالكوابيس.. نفشل ونسخر ونضحك.. ننجح ونغتر ويمتلكنا الكبر.. نخطئ العنوان ويطول مكوثنا فى أماكننا فى قصص تحوى صورا وأصواتا وموسيقى فى الخلفية ما بين حزينة ومفرحة.. تملؤها حوارات لك ولشخصيات روايتك.. تتزاحم فيها أقدام البشر باحثين عن ممرات الأمان.. فيها تضحك وترقص وتبكى.. بطل وأبطال وجموع وأشياء وأماكن تحت وطأة الحياة.
ولا تخلو قصة من مشاهد فقدنا فيها الوعى أو هكذا نتوهم أو حتى تظاهرنا بفقداننا له علنا نستعطف غيرنا وتحملنا الأيادى من فوق الأرض.. فما أكثر من سقوطنا وسط جاذبية عالم يجبرنا على تذوق عذاباته وإجرام أهله.
فكم من قصص ضمت مشاهد مؤثرة.. حوت قلوبا ممزقة ودموعا عالقة بالأجفان.. شعرنا معها من شدة الألم أن الأجل قد حان ولا مفر منه ، ونتساءل هل للجسد انتفاضات أخرى أم حان الأجل؟!.. وفى الحقيقة أننا نمر بهذه الحالة فى كل مراحل حياتنا نشعر معها أننا على مشارف الموت، أو هكذا يصور لنا شدة الألم.. يداعبنا الموت لنعرف قيمة الحياة ونلعن لحظات تفوهنا فيها بلفظ الانتحار ونرضى بمحن الحياة.. وقد نتخلى ونتنازل عن أشياء محببة لنا أو وربما من ذواتنا وأمانينا لمواصلة الحياة.
وقد تأتى علينا فترات يغلبنا الصمت.. و نقرر فيها اعتزال كل شيء يفتح علينا أبواب الجدل وأعمال عقولنا والتفتيش عن الحقائق.. وتصبح هذه الفترات بمثابة هدنات نعقدها مع أنفسنا.. مشوبة بالحذر نحاول أن نتحلى بفضيلة النسيان أو حتى التظاهر به لكنها تبوء بالفشل فإغراء مغامرة الحياة يدفعنا أن نعود، كما تعودت نفوسنا مهما تألمنا وباغتتنا الخسائر وملأت الخيبات صفحات حياتنا.
وتبقى لنا دائما أياما نصفها بأيامنا الحلوة نكتبها على صفحات محببة لدينا.. نتوقف عندها رافضين أية بدايات جديدة حتى يجبرنا الزمن أن ننتقل لغيرها.. يحلو لنا أن نعاود هذه المشاهد.. فى وقت كلما تقدمنا فى العمر تقل قدراتنا على صنع الجديد.. ويغدو القديم أكثر من الجديد.. وتصبح مشاهد حياتنا مكررة.. أنت وحدك من تكررها بعدما رحل أطرافها.. حتى تلك التى تحوى مشاهد حزينة نحتفظ بها عاجزين عن نسيانها، لأننا غير قادرين على الصفح والغفران.. قساة فى حق أنفسنا وغيرنا!!.. ورغم أن رواية حياتنا نسخة واحدة، لكننا نحاول أن ننسخ نسخا عديدة منها وتركها فى أماكن ومع أشخاص نحبهم فقدناهم، نحاول بعدها أن نخلع الشبه معهم على آخرين.. محاولين عقد الألفة الزائفة.
ومشاهد حوت سيرنا فى شوارع الحياة، لكننا ننشغل بالطريق خلفنا أكثر من ذلك الذى يأخذنا للأمام ونتحجج برغبتنا فى معرفة أننا على الطريق الصحيح منكرين الحنين الذى يدفعنا للنظر خلفنا.. نعلم أننا نكذب!!.. ربما!!.. لكن علينا أن نتحدى أنفسنا واليأس وما نلاقيه من مفاجآت فى طريق مجهول.. فى وقت تتناقص قدراتنا على تغيير أنفسنا أو أى أشياء حولنا.
وكما يحوى شريط حياتتا مشاهد واقعية فإنه يحوى مشاهد كتبناها وأخرجناها فى مخيلتنا من أحلام وأمنيات فشلنا فى الوصول إليها.. احتفظنا بها داخلنا كمشاهد لأحلام مكررة.. مشاهد من التصفيق والإعجاب والحفاوة لنجاح أو حتى لقوة امتلكناها فنحن فى مجتمعات تمجد الأقوياء مهما كان وضعهم.
نسيت أن أذكر لكم أن بدايات قصص حياتنا كلها واحدة.. تبدأ بصرخة وبعدها نكبر شيئا فشيئا، ونفقد فطرتنا وبراءتنا.. وتتوالى الأيام وتتلاحق ونرضخ لأمر الواقع ونصوصه حتى لا يغضب منا القدر.. فيها نادرا ما نبحث عن الاستثناء فى مواجهة قطيع يحملك أن تسير مثله.. لنحيا نفس المخاوف ونفس الأوهام فى نسخ متماثلة من حب وزواج وإنجاب وموت.. نهاية تغادر فيها الروح الجسد.. ببطء أو بسرعة.. فى انفصال وفراق مخلف وراءك شريطا مهما بلغ طوله لا يعدو مجرد لحظات.
وماذا يحوى هذا الشريط؟!.. أفراح وأحزان.. أمواج تنازلنا ونتداوى بصفعها.. أسرار ومرارة الكتمان.. صمت واحتراق.. طرق مالت فى هدوء.. أو حتى انهارت بنا فابتلعتنا الأرض.. أحداث غريبة أو حتى مألوفة.. اهتزازات وسكون وعقل واع وجنون.. وهم وسراب.. حماقات انتظار لمصباح سحري.. مخاوف الوحدة وارتجاف المواجهة وصدمة وبلاهة.. اشتياق لمشاهد تحوى طبيعة خلابة ونسمات الصباح وتغريد الطيور.. ورياح حب هاربة وفصول من الفقد والهجران.. رحلة البحث عن الأمان.. حكاية كل إنسان لا جديد فيها.. يوم مد وآخر جزر وثالث أمر منهما.. عناوين كل اختياراتنا فيها الندم!
والسؤال على أى وجه ستكون النهاية؟! قد يساعد صاحب الرواية فى وضع النهاية وقد يضعها الآخرون ونقول القدر أطلق كلمته.. وتمضى الأيام سريعا.. تتآكل سنون عمرك ولسان حالك ما بالك يا فيلم حياتى مررت سريعا كالضوء، واخترت عرضا مسرعا.. لم نلبث أن نقف عند شيء ولم يستطع أحد إيقافك.. لا اختار عنوان روايتى ولا أملك الإهداء.. طامحا أن تحتفظ ذاكرة السينما بفيلمى.. ناسيا أن كلنا سنغدو ذكري والقليل من يخلد.. راجيا مخرج الفيلم أن يعيد إخراج مشاهد أخطائي بعدما شوهت شريطى بالثقوب.. مخيبا رجائى قائلا عفوا ليس بإمكان أي مخرج ذلك!.. لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت.. فقد سحبنا الزمن فى طواحين الحياة نتقفى الاحتضار.. والآن لم يعد ينفع معه إعادة إخراج الرواية فالماضى لا يعود!