وثيقة قندهار.. محاولة بائسة
فى أحد خطابات عيد النصر بمدينة بورسعيد منتصف الستينيات وقف الرئيس عبد الناصر يشرح علاقة ثورة يوليو بجماعة الإخوان الفاشية وشرح عبد الناصر بشكل دقيق علاقة هذه العصابة بخدمة أغراض الاستعمار وكيف أنها أداة فى تنفيذ مخططاته وعملت بكل خسة من أجل عدم تنفيذ اتفاقية الجلاء.
فى البدايات الأولى للثورة كما يروى عبد الناصر فى خطابه التاريخى التقى بمرشد هذه الجماعة وكان وقتها الهضيبى وكما يقول ناصر فى خطابه إن النية من قبل ثوار يوليو كانت خالصة وهدفها التعاون مع كافة القوى الموجودة على الساحة، لم يتناقش الهضيبى مع عبد الناصر فى أى أمور سياسية أو اقتصادية أو كيفية مواجهة حالة الفقر والعوز والأمية التى سببتها الملكية أو حتى كيفية مواجهة الاحتلال البريطانى الذى يجثم على صدر الأمة منذ سبعين عامًا.
فوجئ عبد الناصر بالهضيبى يطلب منه طلبات غريبة بأن يصدر قانونًا بفرض الحجاب على نساء مصر وألا تعمل المرأة ويغلق السينمات والمسارح بمعنى آخر أن ينهى الحياة الاجتماعية الطبيعية فى مصر ويترك الفاشيست الإخوان يمارسون سيادة باسم الدين على المجتمع والدين منهم براء.
كان رد عبد الناصر حاضرًا ومدركًا مايريده مرشد الفاشية من سيطرة اجتماعية باسم الدين يعقبها سيطرة سياسية، تعجب عبد الناصر من طلبات مرشدهم قائلا إن ابنتك قاصدًا ابنة الهضيبى طالبة فى كلية الطب ولاترتدى الحجاب فكيف تريد منى أن أفرض الحجاب على عشرة ملايين من المصريات بواقع أن تعداد مصر فى هذا الوقت 20 مليون نسمة والمرأة نصف المجتمع أما بالنسبة لبقية الطلبات الغريبة الأخرى من غلق السينمات والمسارح فقال عبد الناصر" يعنى نخليها ضلمة وأبقى زى الحاكم بأمر الله اللى كان بيخلى الناس تمشى باليل ويمنعها بالنهار".
يكمل عبد الناصر شرح الخيانة والإجرام الإخوانى بأنهم حاولوا اغتياله فى المنشية بالإسكندرية فى عام 54 وتم الاصطدام بهم لأنهم لايعرفون إلا الإرهاب كحل لتنفيذ مخططاتهم، رغم ذلك ففى عام 64 كما يقول عبد الناصر قررنا التصالح معهم والإفراج عن كل المتورطين فى القضايا بل إعادتهم إلى أعمالهم ووظائفهم لكن تم اكتشاف ماكانوا يحضرونه من مؤامرة تخريبية ضد منشآت الدولة وعمليات اغتيال فى العام 65 بقيادة سيد قطب منظر الإرهاب الأول للجماعة الفاشية.
لم تتغير وسائل الجماعة الفاشية فى السيطرة على المجتمع باسم الدين والدين منهم براء من أجل الهدف الخفى والرئيسى فى مخططاتهم وهو الوصول إلى السلطة بأى طريق لتحقيق أغراض من يمولونهم ويحركونهم، ففى السبعينيات عقب صفقتهم مع السادات انطلقوا بالتحالف مع المتسلفة لتنفيذ مخططهم فى السيطرة على المجتمع بنفس المطالب التى أرادها مرشدهم فى الخمسينيات من أجل مسخ الهوية المصرية الأصيلة حتى تسهل هذه السيطرة ولسبب آخر فهم لا يمتلكون أى مشروع سياسى أو اقتصادى من أجل إدارة السلطة التى يريدونها لذلك فالطريقة الأسهل هى ادعاء الفضيلة والشرف لأنه عندما يكتشف المجتمع حقيقتهم وأنهم مجموعة من المدعين سيوجهون اللوم للمجتمع بأن ذنوبه هى سبب الأزمة وليس جهلهم لأنهم يريدون أن تعيش المجتمعات فى عقدة ذنب مستمرة ومن خلالها ينفذون مخططاتهم ومخططات من يحركهم.
اكتشف الرئيس السادات الحقيقة قبل استشهاده بشهر واحد وفى خطاب سبتمبر الشهير اعترف بخطأه بل كرر هذا الاعتراف ثلاث مرات مؤكدًا أن مكان هذه العصابة هو السجون وليس مكانًا آخر، استطاع الفاشيست التسلل إلى السلطة فى 2012 وبدأت خطة السيطرة على المجتمع باسم الدين تعمل فى سرعة بمساعدة المتسلفة لكن الأمة لم تمهلهم طويلا فجاءت ثورة الـ 30 من يونيو لتقضى على كل ماكانوا يخططون له.
يتصور البعض أن هذه الجماعة وأتباعها من المتسلفة أو هذا التيار الفاشى بشكل عام يمكن أن يغيروا من مخططاتهم أو أسلوبهم فى محاولة السيطرة على المجتمعات ومحاصرتها حتى تتحول إلى مجتمعات منقادة لهم باسم الدين وتغطى فى نفس الوقت على فشلهم السياسى المتوقع حال تسللهم إلى السلطة فى أى بلد تواجدوا فيه.
نفس لعبة السيطرة باسم الدين من قبل هذا التيار الفاشى تمارس الآن فى دولة الكويت الشقيقة، منذ استقلال الكويت وهى حالة فريدة ورائعة فى عالمنا العربى من خلال التعامل مع الديمقراطية فهى مجتمع منفتح سياسيًا واجتماعيًا ويمتلك أدواته من التعبير السلمى برحابة كبيرة وتشهد حراكًا برلمانيًا مستمرًا وصحافة وإعلام على درجة كبيرة من الوعى وتمتلك وسائل الإعلام بها مساحات غير محدودة من الحرية فى مناقشة قضايا المجتمع الكويتى وحتى بعد محنة الغزو المقيت والجائر لم تتخل الكويت عن حريتها وانفتاحها ولم تكفر بالديمقراطية وظل المجتمع معتزًا بانفتاحه ومكانة المرأة المميزة داخله.
استطاعت الحركة الثقافية والمثقفون داخل الكويت استثمار هذه الحالة من الانفتاح والحريات السياسية فى تفعيل حركتهم لتصبح الكويت غنية بتيارات ثقافية متعددة وقدرات إبداعية متميزة فى كافة المجالات الفكرية والأدبية والفنية لكن أمام هذه الحالة الكويتية الفريدة والمميزة تتربص الفاشية بالحريات والانفتاح المجتمعى وتريد إحكام سيطرتها على هذا المجتمع الحر والذى رغم حريته يحافظ على قيمه ومثله العليا ويرفض التطرف فى الحريات التى تؤدى إلى الانحلال.
فى 29 من الشهر الجارى ستجرى الانتخابات النيابية فى الكويت ومنذ الإعلان عن موعد الانتخابات وهناك حراك سياسى قوى فى المجتمع الكويتى ومساحات رحبة لكافة المرشحين من أجل عرض برامجهم دون رقابة حتى لو أصاب بعضها الشطط ولكنها العملية الانتخابية التى تسمح بالكثير حتى لوكان غريبًا ووسط هذا العرس الديمقراطى يظهر الوجه الفاشى القبيح ولم يختلف المخطط فى السيطرة على المجتمعات وإن اختلف فقط الاسلوب تبعًا لكل حالة ووقت التنفيذ.
فوجئ الكويتيون بهذا التيار يصدر وثيقة باسم وثيقة القيم ويوقع عليها المرشحون المنتمون إليه مع التحريض ضد كل المرشحين الآخرين بأن رافض التوقيع سيعتبر خارجًا عن الدين وعدوًا للبلاد والعباد، عندما تطالع بنود هذه الوثيقة الغرائبية ستجد أن بنودها لا تخرج عن مطالبات مرشد الجماعة الفاشية الهضيبى من عبد الناصر فى بداية الخمسينيات، نفس المخطط فى السيطرة على المجتمع باسم الدين مع اختلاف الأسلوب.
يعطى عنوان هذه الوثيقة فى حد ذاته إشارة هامة إلى حجم الجنون الذى يسيطر على الفاشية وأتباعها كأن المجتمع الكويتى عاش تاريخه كله بلا قيم ولم يعرفها من قبل..!! ثم جاءوا هم ليخترعوا القيم المفتقدة، إنها حالة من الفصام الواضح عن المجتمع و احتياجاته يعانى منها التيار الفاشى وأتباعه.
بعيدًا عن العنوان المستفز الذى وضعه الفاشيست لوثيقتهم فإن العنوان الأدق هو وثيقة قندهار وهو عنوان الهشتاج الذى دشنه أحرار الكويت وتصدر وسائط السوشيال ميديا للدفاع عن حريتهم وانفتاحهم وقيمهم ومجتمعهم، ووصف وزير الإعلام الكويتى السابق سعد بن طفلة العجمى الوثيقة "أنها وثيقة داعشية بامتياز وعلى كل حريص على دولة القانون والدستور والحريات العامة والخاصة أن يرفض هذه الوثيقة بلا تردد"و غرد الكاتب الكويتى أحمد الصراف "وثيقة القيم التي يتحدثون عنها تعني باختصار تعيين لجنة أو تأسيس هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتطبيق بنودها، وهي الهيئة التي رفضتها وألغتها بقية الدول الإسلامية، فأى كارثة يتحدث عنها مؤيدو بنود هذه الوثيقة " وغردت الدكتورة ملك الرشيد الاستاذ بجامعة الكويت ساخرة "أن من يقرأها سيتبادر لذهنه أن المجتمع الكويتي مجتمع فاسق منحل اخلاقيًا، ولهذا يحتاج ممثلوه إلى إصدار مثل هذه الوثيقة، لانتشاله من الوحل كأولوية قبل التعليم والصحة".
ومن خلال حملة التعليقات الواعية من أحرار ومثقفى الكويت والرفض الشديد فى الشارع الكويتى لهذا الجنون يظهر فهم عميق للغرض الرئيسى لوثيقة قندهار وهى محاولة بائسة لسيطرة هذا التيار على الناخبين ثم على الحياة السياسية.
يظن البعض أن تيار الفاشية الدينية يستعيد قوته بالدعاية السوداء و إصدار مثل هذه الوثائق الداعشية لكن الوصف الدقيق هو ماوصفه الكويتيون أنها محاولة بائسة من الفاشية لاستعادة حضورها بأى وسيلة و الحقيقة تؤكد إن الفاشية الدينية سواء الإخوانية والمتسلفة تندحر فى كل أرجاء الوطن العربى من تونس الخضراء إلى الرياض إلى الجزائر وفى الكويت الآن لقد كانت بداية النهاية للفاشية الإخوانية من القاهرة فى يوم الـ 30 من يونيو.
يستوقفنى البند الأخير فى هذه الوثيقة الداعشية بأن معدى الوثيقة سيفتحون خطًا ساخنًا لتلقى المخالفات الشرعية والأخلاقية لمواجهتها، بمعنى آخر إلغاء الدولة أو تحويل الشعب بكامله إلى مخبرين على بعضهم البعض باسم الفضيلة!