رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


وليكن «حجر رشيد» هو حجر الأساس للعودة

25-9-2022 | 00:19


مها محسن,

يفتتح المتحف المصري بالتحرير أبوابه مجاناً أمام الجمهور المصري والعربي والإفريقي وغيرهم يوم الثلاثاء المقبل الموافق 27 سبتمبر الجاري، وذلك احتفالاً بمرور 200 عام على فك رموز حجر رشيد ونشأة علم المصريات، تلك الرموز التي عُوملت معاملة الطلاسم والتعاويذ لعهود، وذلك الحجر الذي ضم مفاتيح اللغة المصرية القديمة، ولولاه لظلت الحضارة المصرية غامضة لا ندري عنها شيئاً، وكنت أتمنى كأي مواطن مصري صميم إتمام الاحتفال بوجود الحجر ذاته في أحضان المتحف المصري إلى حيث يجب أن ينتمي، لا المتحف البريطاني إلى حيث لا يجب أن يكون.

وهي مشاعر أصعب من أن توصف على قلب أي مصري غيور على تاريخ وحضارة وطنه المتفردة والمستباحة آثاره في سائر بلدان العالم، فتبعات وآثار الاستعمارات المتعددة التي توالت على مصر على مدار آلاف السنوات لا فقط المئات، تتخطى مجرد فكرة احتلال جغرافيا الأرض ولكنها كانت أيضاً سرقة لتاريخ جغرافيا هذه الأرض.

 فحجر رشيد المُكتَشَف في مدينة رشيد من قبل جنود الحملة الفرنسية لنابليون بونابرت القائد الفرنسي (الإيطالي الأصل) عام 1799، والذي فك رموزه العالم الفرنسي الشهير/ جان فرانسوا شامبليون عام 1822، هو حجر مصنوع من حجر الجرانوديوريت شديد الصلادة، وهو غير منتظم الشكل ارتفاعه 113 سم وعرضه 75 سم وسمكه 27.5 سم، وقد فُقدت أجزاء منه في أعلاه وأسفله. 

ويتضمن الحجر مرسوماً من الكهنة المجتمعين في مدينة منف (ميت رهينة- مركز البدرشين– محافظة الجيزة) يشكرون فيه الملك بطليموس الخامس حوالي عام 196 ق.م، وذلك لقيامه بوقف الأوقاف على المعابد وإعفاء الكهنة من بعض الالتزامات، وسُجِّل هذا المرسوم بثلاثة خطوط هي حسب ترتيب كتابتها من أعلى إلى أسفل، بدءً باللغة الهيروغليفية (وهي اللغة الدينية المقدسة في المعابد)، ثم اللغة الديموطيقية (وهي العامية المصرية)، ثم اليونانية القديمة (وهي لغة الحكام الإغريق).

كان الإنجليز قد استولوا على الحجر من الفرنسيين بعد هزيمة نابليون، فتم تسليمه إلى بريطانيا وغيره من الآثار التي وجدها الفرنسيون بموجب شروط معاهدة الإسكندرية التي وُقِّعَت بينهما عام 1801 م، وتم شحن جميع الآثار إلى إنجلترا حيث وصلت بورتسموث في فبراير 1802، وسرعان ما تم عرض الحجر وغيره من الآثار المسروقة في المتحف البريطاني.

تلك المعركة التي كانت دائرة بين قطبي استعمارات الماضي على تَمَلُك آثار لا تنتمي إلى أرض أحدهما على أية حال، والتي ما زالت دائرة بمعايير العصر، هي التي تجعل من الأمر شديد الفجاجة إلى الدرجة التي يرفض معها أبناء المُستَعمِر الإنجليزي إسترجاع أرض مصر لحجر رشيد إبن مدينة رشيد الباسلة.

كانت زيارتي لمتحف اللوفر بباريس والمتحف البريطاني بلندن هي الأصعب على الإطلاق، رغم عشقي للسفر والقيام بسياحة المتاحف إشباعاً لقيمة الفضول الإنساني، وبالرغم من عدم امتلائي بالمشاعر أو اقتناعي بكامل قيمة أي متحف يتضمن آثاراً حضارية لا فنية مقارنة بعظمة المتحف المصري ومحتوياته التي تتخطى مئات الآلاف من القطع، فكانت مشاعر الحنق تحاصرني وتنطق بالنيابة عن لسان حالي في كل لحظة "أنتم لا تنتمون إلى هذا المكان مهما طال الزمان"، الكل يعلم الأصل والمنبع والأولى بحق الرعاية والولاية ... بل والعرض والمنفعة.

كان الدكتور خالد العناني، وزير السياحة والآثار السابق، قد صرّح فيما سبق أن مصر حاولت كثيراً في مسألة استرجاع "حجر رشيد" لكن المشكلة كانت دائماً في قواعد القانون الدولي لا القانون المصري، فاتفاقية اليونسكو هي التي تعيق التحرك تجاه استرجاع كل آثارنا المنهوبة لا فقط حجر رشيد باعتبار أن الآثار المهداة أو المباعة لا ترد، وبرغم أن اتفاقية عام 1970 قننت الاستيلاء على تلك الآثار، إلا أن الآثار المصرية كانت ما تزال تباع رسمياً في مصر حتى عام 1983، ومازال المهربون والتجار الدوليين يستغلون الثغرات لتهريبها وبيعها، وذلك نظراً لكون عملية الاسترداد فائقة التعقيد، فهي نزاع بين دولتين يحملان قوانين وتشريعات بل واتفاقيات مختلفة، لا شخصين يحكمهما قانون واحد.

وبرغم كل تلك المعوقات إلا أن الدولة المصرية مُمَثَلَة في وزارة السياحة والآثار بالتنسيق مع وزارة الخارجية والنائب العام والإنتربول الدولي، قد نجحت في استرجاع الآلاف من القطع الأثرية التي سبق خروجها بشكل غير شرعي من البلاد سواء في عام 2011 أو قبله أو بعده، في حقائب دبلوماسية أجنبية أو بطرق أخرى غير مشروعة.

حيث يوجد ارتفاع في معدلات تهريب الآثار في العالم التي أصبحت تمثل المصدر الثالث لتمويل العمليات الإرهابية في العالم بعد البترول والمخدرات، وشراء الأسلحة والمتفجرات، وتعمل وزارة الآثار من جانبها بالتعاون مع منظمة اليونسكو لوضع حد لعمليات ما تعرف باسم "غسيل الآثار"، بحيث يتم إلزام الدول بأن يكون الاعتراف بشهادات التصدير من بلد المنشأ وليس من البلد المصدر، الأمر الذي يسمح بسهولة استردادها.

ومن هنا، أجدد ومعي ملايين المصريين، وكل العقلاء في هذا العالم، المطلب المُبَرَر والمشروع لاسترجاع حجر رشيد الذي يزين صدر المتحف البريطاني وتتباهى به دولة التاج البريطان بل وتحصل من خلاله على النِسَب الأعلى في إجمالي دخل زيارات المتحف، تماماً كما الحال بالنسبة لرأس الجميلة نفرتيتي في متحف برلين التي خرجت بشكل غير شرعي من البلاد منذ زمن بعيد بعد أن تم عمل غطاء من الجبس لها، وكذا القسم المصري الذي يحتل دوراً بأكمله بل وأكثر في متحف اللوفر الفرنسي.

لذا، فالحملة المصرية المُطالِبة بالاسترجاع لابد وأن تشمل إدماج المجتمع الدولي وشعوبه من الأسوياء المحبين للحضارة المصرية القديمة، والقانعين بضرورة الحفاظ على التراث الحضاري الإنساني في بيئته التي وُجِدَ بها واسترجاع أصحاب الحق لحقوقهم، ولاسيما بعد دحض كل المزاعم والمبررات الغربية بعدم سابق قدرتنا على الحفاظ على تلك الآثار وعرضها بالشكل المناسب والملائم لها.

فقرب افتتاح المتحف المصري الكبير بنهاية هذا العام باعتباره أكبر متحفاً على مستوى العالم من حيث المساحة وعدد القطع الأثرية المعروضة، لهو خير رسالة أمان وسلام وقدرة فائقة للدولة المصرية على مواكبة العالم واحتفاظها بالحق الأصيل في عرض آثارها المختلفة، ولاسيما أنها الدولة التي تمتلك "منفردة" ثلثي آثار العالم نصفهم فقط في الأقصر.

فأضم صوتي لصوت الدكتور طارق توفيق، المشرف العام على مشروع المتحف المصري الكبير مخاطباً بريطانيا أنه "سيكون من الرائع إعادة حجر الرشيد إلى مصر"، واستبداله بنسخة افتراضية، فهذا الحجر المصري الكريم أصبح يحمل دلائل ذنوب السارق كلما مر الزمن، تماماً كما خطايا البشر على الحجر الأسود.

كما أتمنى إيلاء نظرة إلى قوتنا الناعمة من شباب الفنانين كوسيلة إقناعية وهم كُثر، ففنان كالنحات المصري العالمي الشهرة ذائع الصيت إبراهيم بلال، إبن مدينة رشيد، قد صنع منحوتته العظيمة محاكاة "لحجر رشيد" على سن قلم رصاص في مساحة لا تتعدَ النصف مللي، في مبادرة شخصية ومنفردة منه تطلق العنان لرسالة تُعَبِّر عن صدق رغبته كما الملايين لعودة الحجر لحضن الوطن الأم.

وهو ذاته على سبيل الصدفة العظيمة الذي تحدثت عنه -وعن أعماله الفريدة لمنحوتات تمثل محاكاة دقيقة لآثار مصرية قديمة على سنون الأقلام الرصاص- الوكالات والصحف البريطانية الأشهر على الإطلاق، مثل صحيفة ذا إندبندنت والجارديان، ووكالات ررويترز، وبي بي سي، وصنعت من أجله تقاريراً مصوره باعتباره سفيراً لآثار بلاده.

فلنجعل من تلك المنحوتة متناهية الصغر، مستصغر الشرر الذي نطلق منه حملتنا الشعبية كبيرة التأثير عظيمة الأثر لمخاطبة شعوب العالم، ولتعلو لغة المنطق ولغة الفنون على صوت معركة الاسترداد بلغة القانون.

هذا التراث الحضاري الإنساني، هو ملكيتنا الفكرية الفريدة، وهو آثارنا الحضارية المستدامة، وهو في الأصل حق وفرض الأجداد والأحفاد علينا.