بقلم – يوسف القعيد
ما من مرة أذهب فيها إلى أحد البنوك حتى أسمع النداء على أصحاب الحسابات مسبوقة بكلمة العميل.. يقول لك الميكروفون: العميل رقم كذا يتقدم إلى شباك رقم كذا.. وما من مرة إلا وأدخل لمدير الفرع، وألفت نظره إلى أن كلمة العميل تعنى الجاسوس، وأطلب منه تغييرها.. والبعض يغلق باب المناقشة قائلًا: أن هذه هى تعليمات البنك الرئيسى.. وإذا كنت أريد أن أعترض فلأذهب إلى هناك.. بعض المديرين من الذين “يأخذون ويعطون” يناقشوننى فى طلبى. ويقولون لى إن كلمة عميل حتى إن كانت لها دلالات سيئة من وجهة نظرى. فهى لا تعنى هنا نفس الدلالات.. ثم إنها أصبحت تراثًا فى كل البنوك. ولا يمكن تغييرها بسهولة.. والبعض الثالث يطلب منى كلمات بديلة. فأقول له مفردات من عندى مثل: صاحب الحساب أو المتعامل أو الزبون، فيقولون لى ربما كانت كلمة العميل أسهل من هذا.. ومن باب الطمأنة يشرحون لى أنه لن يسمعها أحد بالدلالات، التى وصلتنى بها. ربما كانت حساسيتى تجاه اللغة العرية الزائدة عن الحد هى السبب فى هذا.
الآن أكتب عن العملاء الذين يندسون وسطنا ليسمموا حياتنا ويحولوا رضانا إلى رفض، ومشاركتنا إلى امتناع، وحماسنا إلى فتور.. وهيهات أن يحققوا ما يحلمون به. لأن مصر بلدنا ونحن نتحمس لمصر التى هى الأصل والأساس ولو عبّر الحماس عن نفسه بأننا نتحمس لرئيس مصر، الرئيس عبد الفتاح السيسى، فلا تفرقة بين مصر والرئيس.. فإننى أقول – وبضمير مستريح – أنه حدثت حالة توحد بين الرئيس والوطن تمامًا.
ومن يذكر السنوات من ١٩٦٧ إلى ١٩٧٣، ومن يعد إلى صحافة تلك الأيام، وإلى كتابات هذا الزمان، وإلى ما كنا نقوله فى وسائل الإعلام وما كنا نتبادله من أحاديث فيما بيننا كانت تتردد بيننا تعبيرات: العميل والعملاء، وكانت هناك مفردات ما زلت أذكرها كأنها كانت تقال فى الأمس القريب مثل: عميل نائم، عميل لاجئ، عميل ولكن، عميل مزدوج، عميل غير شرعى، عميل متحد، عميل مؤثر، عميل مخترق، عميل مقابل مبلغ مالى.
كان زمن الحرب وكنا فى حالة حرب. وكنا نتحدث عن العميل باعتباره أقل درجة من الجاسوس، لأنه – للأسف الشديد – يمكن أن يكون من أبناء الوطن. ومثلما تنجب الأرض أبناء مخلصين يدركون قيمة الارتباط بالوطن، ففى بعض الأحيان يأتى من أبناء البلاد من يخون ومن يبرر لنفسه هذه الخيانة ويقدم عليها. ولكننا والحمد لله أن هؤلاء الخونة سواء كانوا من الجواسيس أو أقل درجة من العملاء يكونون قلة شديدة. فمصر ربما كانت هى الوطن الوحيد التى يدرك المصريون فيها أن حبها شرعٌ شرَّعه الله، وأنها ليست مسألة وطنية ولا مواطنة فقط. بقدر ما هى مسألة دينية مرتبطة بعلاقة الإنسان بربه.
أصل إلى أيامنا وأسأل عن حقيقة وضعنا الراهن ونسأل: ما هى الصفة التى يمكن أن نطلقها على أيامنا هذه؟ هل هى أيام سلم؟ هل هى أيام سلام؟ أم أنها تنتمى لزمن الحرب؟ من ناحية الشكل العام فمصر ليست فى حالة حرب مع دولة أخرى. بل إن جيش مصر العظيم منذ تأسيسه وحتى الآن، فإن إستراتيجيته الجوهرية قائمة على فكرة الدفاع عن الأرض. وليس العدوان على أراضى الآخرين.
نحن إذن لسنا فى حالة حرب مع دولة أخرى بمعناها الكلاسيكى والتقليدى. أى حرب الجيوش فى ميادين القتال. ولكننا فى حالة حرب وجود مع قوى الظلام التى تحركها دولة بعينها. ينام الضمير العالمى عنها. ولا توجد لديه – حتى الآن – نية حقيقية فى محاسبتها وردعها ومنعها من الاستمرار فيما تقوم به من محاولات عرقلة للشعب المصرى حتى لا يتمكن من استكمال دولته الحديثة.
لكل مكان حروبه. ولكل حروب أشكالها ومن يقومون بها. وأنا أعتبر أن مصر فى حالة حرب. وهى حرب وجود لا يقوم بها جيش معادٍ لنا. لكنها حرب تهدف إلى الأساس المعنوى للشعب المصرى. وإلى تماسك نسيج المصريين ووحدتهم سواء كانوا فى الشمال أو الجنوب، فى الشرق أو الغرب، وبالتالى فإن الظروف تفرض علينا كل ما تفرضه الحروب.
ما نمر به ربما كان أخطر من الحروب النظامية. ففى حروب الميادين والقتال قوات فى مواجهة قوات. وجيش أمام جيش. تكون الأمور أسهل وأبسط ويمكن أن تقاد المعارك بطريقة أفضل من الذى يجرى أمامنا الآن. فالحرب لا تتم فى ميدان القتال. لكنها تجرى فى حياتنا اليومية، فى الشوارع والحوارى والميادين والباحات وعلى المقاهى وفى البيوت وعبر أجهزة الإعلام.
اتساع رقعة الأعداء الذين لا بد أن يكون لهم عملاء فى الداخل يجعل الحرب أصعب بكثير من الحروب النظامية التى عرفتها البشرية. فأنت لا تعرف عدوك إلا بعد أن تسمعه. وتتعامل معه. وتتعرف على وجهات نظره. أما قبل هذا فهو مواطن مصرى عادى لا تعرف عنه أى شئ. ولا تأمن شره.وتتعامل معه باعتباره مواطنا حاصلا – كما نتوهم – على بعض شروط أو كل شروط المواطنة.
كل مجال من مجالات الحياة فى مصر يوجد بداخله من يمكن أن نقول عنهم بضمير مستريح: عملاء مندسون فى وسط الوطن. لا أريد أن أصل فى وصفهم اللغوى إلى جواسيس. مع أن الفارق بين العميل والجاسوس ضئيل لدرجة لا يمكن أن يتباينها الإنسان. لكن تعالوا نتكلم عنهم باعتبارهم عملاء.
فعندما أفتح جهاز التليفزيون وبسبب الريموت كنترول، ليس بسبب فضل الريموت كونترول، ولكن بسبب أضرار الريموت كونترول، تذهب الأمور بى إلى قنوات خمس تبث إما من الدوحة أو من إسطنبول أو من لندن. وأسمع ما يقولونه. ليس مهمًا ما فيه من أكاذيب وافتراءات ولى لأعناق الحقائق. لكن الغريب والذى يثير دهشتى وحزنى أن معظم من يقومون بهذا مصريون. أو ربما كان كل ما يفعلون هذا.
كانوا زملاء لنا قبل ثورة الثلاثين من يونيه. وكانوا يعيشون بيننا. ولكل واحد منهم تجربة معنا. لكنهم تركوا البلاد لم يطردهم أحد. لم يضايقهم أحد. لم يجبرهم أحد على الهجرة. لكنهم أصبحوا هناك. لكل منهم قصة. ومثل البشر فى كل زمان ومكان ربما كانت لبعضهم مزايا. وربما كانت فى أعماق البعض الآخر جراح شخصية لا أحب الاقتراب منها لأن الموضوع ليس موضوع فضائح. ولا يمكن أن أقابل فضائحهم اليومية بفضائح من عندنا. لأن أقدار الأوطان أكبر من أن يتناولها الإنسان بمنطق الفضيحة الشخصية.
يطلون علينا كل ليلة. يقولون ما لا يصدقه عقل. يلوون أعناق الحقائق. وأنا لا أردد ما يقولونه حتى لا أقدم لهم خدمة - سواء وأنا أدرى أو حتى دون أن أدرى - ولا أريد أن أجعل لما يرددونه حالة من الشيوع بين الناس. لكنى أعيش حالة ذهول من هؤلاء. خاصة الذين عرفتهم وتعاملت معهم عندما كانوا على أرض الوطن قبل أن يقابلوا فشلهم الداخلى بنجاح وهمى فى الخارج. حتى لو كان هذا النجاح على جثة الوطن. رغم أنها مصر، أحب الأوطان التى خلقها الله منذ فجر البشرية وحتى قيام الساعة.
هؤلاء هم عملاء الخارج. وتأثيرهم أقل. ووصول رسالتهم – وآسف أننى أسمى الهذيان الذى يقدمونه بالرسالة – أقول إن وصول الرسالة مشكوك فيه. لكن أخطر من الخطورة الذين يعيشون بيننا. ويندسون فى أوساطنا. ويحاولون كما لو كانوا جزءًا من تجربة الحاضر فى حياتنا.
أنا لا أقصد أبدًا من يعارض. فمن يعارض من حقه أن يعارض. وهناك فارق بين المعارض وبين الهدام. وبين المعارض وبين من لا يرى فى الواقع الراهن أى إنجاز. ينطبق عليه المثل الذى يقول: «لم ير فى الورد عيبًا فقال له يا أحمر الخدين».
بدأت الكتابة وعينى على المناعة الشعبية فى مواجهة هؤلاء. كيف نوجد هذه المناعة؟ أعتقد أنها موجودة، وإن كانت لا تعبر عن نفسها بالقوة التى يقوم بها هؤلاء بالمطلوب منهم تجاه بلادهم. لكن علينا أن نقويها. وأن نعتبرها حصن أمان. وأن نتعامل معها باعتبارها خط الدفاع الأول وربما الأخير عن مستقبل مصر وتأمين حاضرهم. والحفاظ على منجزات ماضيهم. لأن الغارة الظلامية تستهدف الوطن الراهن ومستقبله وماضيه.
الحل الذى لا حل سواه الذى هو المناعة الشعبية.
أن يكون لكل إنسان مناعته ضد ما يقال. وعندما نجمع مناعات الأفراد نصل فى النهاية إلى المناعة الشعبية.