يا نيل.. أنا واللِّي أحبُّه نِشْبِهكْ!
ويتهادى صوت كوكب الشرق كما يكون الدلال في مطلع (شمس الأصيل) للعظيم بيرم التونسي والقدير السنباطي، وأنا أدير مؤشر الراديو حال سفري مجاوراً نهر النيل تعابث وجهي نسمةٌ شقيَّةٌ، وتتخللَّ منابت الشعر الذي ما زال يقاوح ًضدّ عوامل التعرية.. يتهادى صوتها مصافحاً سمعي فتهدأ الروح، وتنفتح أقفال القلب لأحلِّق في مدارات من الروعة رغم ما يحيط بنا من مظاهر القبح لغة ًولحناً وأصواتاً، تصرّ التكاتك والتروسيكلات على تصديرها لنا رغم أنوفنا، والأفدح أنك إذا أردت الذهاب تلبيةً لدعوة خطوبةٍ أوعقد قران أو حتى عيد ميلاد، تجد هذا الغناء الهابط المسمى بالمهرجانات يطاردك مطاردة السباع لفرائسهم، ولك أن تتصور أن هذه المهرجانات صارت الفن الرسمي لكل الأوساط يستوي في ذلك ساكنو الكومباونات (إنْ صحَّتْ اللفظة والجمْع) وشاغلو العشوائيات (وليس في اللفظة استهانةٌ واستعلاءٌ)؛ بل خطرت المقارنة على ذهني للتعجب من هذا التوافق الفني الذي وحّد بين الأضداد، ووفّق بين المتناقضين فترى الجميع رقصاتهم وحركات أيديهم وتثنِّي خصورهم لا تشذُّ،وكأنهم من شدة الإجادة تذهب بك الظنون مذاهبها؛فتتوقَّع أنهم تلقوا تدريباتٍ صارمةً في أحد معاهد الرقص،وينتابك الأسى في هذا الجو الجماهيري الوحْدوي حين يمر ببالك هذا التفرُّق العربي الذي ما استفاد من تجربة المهرجانات الوحدوية!!!
والعجيب هذا التجاوب الجماهيري الذي يعطي الطرب روحاً لا تستشعرها حال سماعك ذات الأغنية في الاستوديو؛ إنه ترمومتر الإبداع رغم أن الأغنية عاطفية إلا أن العظيم بيرم التونسي ببساطةٍ وعمقٍ بديعين استطاع مزج صوره العاطفية بعناصر البيئة المصرية أرضاً ونهراً وشجراً؛لتتراكب صوره البديعة راسمةً لوحةً شديدة الخصوصية لا يتمكن منها إلا مبدعًٌ حقيقيٌ.
ورغم البداية بهذا التركيب (شمس الأصيل) إلا أن التونسي قصر خطابه ونداءه من أول أبياته على النيل،ولعله أراد الربط ما بين الحب الحقيقي والنيل رمز الحياة وأساس الحضارة،فكلاهما -الحب والنهر- يستحيل الاستغناء عنهما.
والبديع قدرة التونسي الفائقة على عبور الذائقة العربية منذ العصر الجاهلي حتى العصر الحديث التي ترى في شمس الأصيل توقيتاً حزيناً، يستجلب الوداع وإثارة الأحزان حيث تضطر الشمس لمفارقة أفقها تاركة ذيلاً داميا من الشفق الأحمر يملأ القلب حسرةً والعين دمعاً مثلما أجاد مطران في نص المساء؛لكن انظر إلى إبداع بيرم العظيم (شمس الأصيل دهّبتْ خوص النخيل.. يا نيل / تحفة ومتصورة في صفحتك ياجميل / والناي على الشط غنّى والقدود بتميل / على هبوب الهوى لمَّا يمر عليل) كيف بريشته أضفى كل عناصر الجمال الحركي والصوتي واللوني دون افتعال؟، مازجاً بين المكان والزمان والإنسان في تكامل ٍشديد الروعة،مانحاً المتلقي مساحاتٍ رحبةً من الخيال والتأمل؛ لتستمر الأغنية على مدى أربعة مقاطع شديدة البساطة والعمق،مازجةً بين النيل والحبيبين مزجاً عبقرياً،ورغم مولد التونسي وطفولته السكندرية- منطقة بحري الأنفوشي وما يجاورها- إلا أنه ببراعته يجعلك لا تراه إلا فلاحاً تربى في أحضان الريف.
ليختم الأغنية بمقطعٍ زادته أم كلثوم بأدائها العبقري دونما إيقاعٍ بمساحاتٍ صوتية تطريبية، تجعلنا نغمض أعيننا، ونغيب معها طويلاً؛ لننتبه على ما لا يمكن الفرار منه إنها تقلبات الحظ،فنرضى بما اقتنصته أصابعنا من سعادة لحظية ونتمتم (أنا وحبيبي يانيل غايبين عن الوجدان / يطلع علينا القمر ويغيب كأنه ماكان / بايتين حوالينا نسمع ضحكة الكروان / على سواقي بتنعي عا اللي حظّه قليل...) آه على صاحب الحظ القليل!!!.