فلسفة التربية.. المفهوم والدلالة (1 – 2)
إن من أهم الجوانب التي تهتم بها الفلسفة اهتمامًا لا مثيل له هو التربية. فنلاحظ أن فلسفة التربية هي تطبيق النظرة الفلسفية والطريقة الفلسفية في ميدان الخبرة الإنسانية الذي نسميه التربية. إنها نظرة تربوية منبثقة من نظريات وأفكار فلسفية في إطار حضاري معين.
عزيزي القارئ نجد أن كلمة "التربية" تُستخدم أحيانًا للدلالة على نشاط ما أو مؤسسة للتثقيف والتعليم، وأحيانًا تستخدم للدلالة على الانضباط أو الإشارة إلى إحدى المجالات التعليمية، وبوصفها نشاط إنساني قد يكون ذلك التثقيف والتعليم رسمي أو غير رسمي؛ عام أو خاص؛ فردي أو اجتماعي، ولكنها دائمًا تتمثل في غرس السلوكيات والقدرات والمهارات والمعرفة والمعتقدات، وأيضًا المواقف والقيم والصفات الشخصية، وذلك بأساليب ومناهج محددة. وببساطة شديدة وفي عبارة موجزة، إن التربية عملية شاملة لجوانب الإنسان فهي تربية لجسمه وعقله، وضميره، وخلقه، وعواطفه. أما التربية كتخصص نجدها تعكس أو تعبر عن نشاط مؤسسة ما من خلال طرح أسئلة خاصة بالأهداف والمناهج والنتائج والقيم والعلاقات الاجتماعية. أما عن تعريف فليفة التربية فيمكن أن نطلق عليها هي فلسفة (عملية التعليم) أو فلسفة (الانضباط في التعليم).
إن فلسفة التربية هي مسمي ينطبق على دراسة غرض وعملية وطبيعة التعليم والمثل العليا الخاصة به، ويمكن تعريفها بكونها تدريس وتعلم مهارات محددة، ونقل المعرفة والحكمة، وهو مفهوم أوسع من تلك المؤسسات التعليمية الاجتماعية التي كثيرًا ما نتحدث عنها. وعلي الرغم من كون التربويون ينظرون إلى تلك الفلسفة نعني فلسفة التربية أو (التعليم)، باعتبارها حقل ضعيف وبعيد كل البعد عن التطبيقات العملية للعالم الواقعي، إلا أن هذه النظرة يُجانبها الصواب إلى حد كبير، وذلك لأن هناك الكثير من الفلاسفة بداية من سقراط وأفلاطون؛ قد أعطوا لهذا المجال الكثير من الاهتمام والتفكير، وليس هناك شك أن إسهاماتهم الفكرية النظرية قد ساعدت بشكل كبير في تشكيل الممارسة الفلسفية في مجال التعليم على مدي آلاف السنين.
فقد كان منهج سقراط في التعليم على سبيل المثال، هو إشراك الآخرون في الحوار والمناقشة وليس منهجه بالكتابة، وذلك ما جعل تلاميذه يقرنون اسمه بمنهجه. وهذا المنهج في التعليم؛ يعد مشهورًا خاصة في مدارس القانون، حيث يبدأ المنهج بطرح المعلم لسؤال مُخادع بسيط؛ مثل ما هي الحقيقة؟ أو ماذا يعني أن تكن عادلًا؟ وعندما يُجيب المتلقي، يبدأ المعلم بطرح سؤال آخر أعمق ليجعله يفكر تفكيرًا أعمق وذلك لتقديم إجابة جديدة لم تكن معروفة. وهذه العملية يطلق عليها أيضًا (الاستجواب الهدام) حيث تستمر تلك العملية إلى أن يشعر إما المعلم أو التلميذ بأن تلك التحليلات قد وصلت إلى ذروتها في تلك اللحظة.
وهنا يتضح لنا عزيزي القارئ أن فلسفة التربية هي فلسفة موجهة للعمل التربوي وهمزة وصل بين المستوى النظري للتحليل الفلسفي والمستوى العملي للقرارات والاختيارات التربوية. واضف إلى ذلك ايضًا انه يرتبط حقلا التعليم والفلسفة ببعضهما بقوة، حتى أنهما يتدخلان في مجالات كثيرة. فكثيرًا ما يقال إن الفلسفة والتعليم هما وجهان لعملة واحدة، وقيل أيضًا أن "التعليم هو الجانب الديناميكي أو الحركي للفلسفة". فلا يمكن أبدًا التفكير في إحداهما على انفراد، حيث إن وجود أيًا منهما لا يكتمل بدون الآخر.
إن التعليم هو عملي بطبيعته، أما الفلسفة فهي نظرية، وليس من الغريب القول إن النظرية والتطبيق متشابهان. فالفلسفة هي طريقة حياة، وبمعني أوسع هي طريقة في النظر إلى الحياة والطبيعة والواقع. فهي تضع مُثل للفرد لينجزها أثناء حياته. بينما التعليم هو الجانب الديناميكي أو الحركي للفلسفة. بعبارة أخري؛ هو المظهر النشط والوسيلة التطبيقية لإدراك مُثل الحياة. فالتعليم ضرورة مقدسة للحياة، سواء من وجهة النظر البيولوجية أو السوسيولوجيا. ومن الواضح أن التعليم يجدد ويعيد بناء الهيكل الاجتماعي وفق نموذج من المُثل الفلسفية.
وفي حقيقة الأمر، نُلاحظ أن الفلاسفة الكبار في جميع الأوقات هم معلمين كبار. حيث نجد سقراط وأفلاطون كانا أيضًا معلمين مشهورين، والمعلم هنا ليس معلمًا بالمعني الحقيقي إن لم يكن قادرًا على اكتشاف العلاقة بين الفلسفة والتربية. وطبقًا لويليام طومسون – الفيلسوف الأيرلندي – فكل معلم يجب أن يُدرك أهمية الفلسفة في التعليم. ولهذا فإن الفلسفة الجيدة ليست فقط تتخيل نوع المجتمع المطلوب، بل هي تعطي للمعلم إحساسًا بالمغامرة.
ولعلنا نجد في المجال التربوي، أن الفلسفة تلعب دورًا مهمًا وبارزًا لا غني عنه، لذلك احتلت فلسفة التربية قديمًا وحديثًا دورًا لا ينسي في فهم العملية التربوية، وتجنب التناقضات التي قد تنشأ فيها، أو اقتراح خطوط جديدة للنمو التربوي، ويتعلم الجيل المتعلم بواسطتها كيفية إثارة الأسئلة ومعرفة الشيء الصحيح من الخطأ. ومن ناحية أخري نجد أن الفلسفة تركز على المجال التربوي لأهمية هذا المجال وعلاقته بتربية الجيل الصاعد، فالتربية تلعب دورًا هامًا في بناء الأفراد والمجتمعات البشرية، وفي تقدم التراث الحضاري، وتطوره، وإغنائه، وتنقيحه.
صفوة القول، تتمثل فلسفة التربية في المجتمعات البشرية في مجموعة الأفكار الكلية العامة والمبادئ الكلية التي تُحدد نمط الحياة التي يريد الإنسان أن يحيياها، وأن مجموع تلك الأفكار والمبادئ التي توجه التربية والتعليم تسمي الفلسفة التربوية. فالفلسفة إذن ضرورية لفهم التربية وأهدافها وأسسها والأساليب المتبعة دون سواها، وأن أي عمل تربوي غير موجه فلسفيًا، يفقد أرضيته المتينة، إذن يتضح مما سبق أن العلاقة بين الفلسفة والتربية هي علاقة متينة لا غني لإحداهما عن الأخرى.
أي أن الفلسفة وثيقة الصلة بالتربية، فعندما يصل المجتمع أو الأفراد إلى أفكار، ومعتقدات وتصاغ في صورة أحكام ومسلمات بعد الدراسة، والبحث فإن ذلك من وظيفة الفلسفة. اما ترجمة تلك الأفكار والمعتقدات وتحويلها إلى اتجاهات وأنماط سلوك ومهارات فهو من عمل التربية.
وختامًا، لا شك أن "فلسفة التربية" هي كل خطاب يقدمه الفيلسوف عن العملية التربوية في نطاق عصر فعلي من عصور تاريخ العالم، علي أن يستوعب هذا الخطاب المستجدات والمعطيات والتحولات التي يمر بها العصر، لا سيما تلك التي تُحدِث تغيراً في نظامه الاجتماعي وقواعد لعبه، إذ إن عليها أن تقدم جديدًا للطبيعة البشرية يتلاءم مع القيم الجديدة التي تفرزها هذه التحولات، وإن هذا الفهم الجديد لا يتحقق إلا عبر وضع استراتيجية معينة للعملية التربوية تهدف إلي فحص هذه العملية استناداً إلي الخبرات التربوية والإمكانات الجديدة التي يتوفر عليها العصر عند كل تحول كبير. والسؤال الآن، هل قدمت لنا الفلسفة أنظمة تربوية يمكننا ان نستعين بها، حيث تُقدم لنا أجوبة عما يواجهنا الآن في عالمنا؟ الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي بنا عرض نموذجان لفيلسوفان من عصرنا مختلفان، حتى نستطيع ان نقف على إجابة صحيحة ومرضية، وسيكون هذا هو موضوع مقالنا القادم.