اشتهر الشاعر اللبناني المهجري رشيد سليم الخوري بلقب "الشاعر القروي" وقد طغى هذا اللقب على اسمه. ولد في بلدة البربارة (لبنان) سنة 1887، وهاجر إلى البرازيل وأقام فيها 57 عاما، وعاد إلى بلده ومات فيه سنة 1984.
كما اشتهر بين معاصريه بأنه من أصلبهم دفاعا عن العروبة، وقد كانت دليله إلى حبّ الدين الإسلامي ورسول الله (ص). وقد عبّر بصراحة عن تعصّبه للغة العربية بقوله "هي هذه اللغة الخصبة الخلاقة المطواع. لغة أهل الجنة، اللغة التي اتسعت لرسالة الرحمن، اللغة التي ملكت فصحاها ألسنة أفذاذ الأدب العربي، وألّفت بين قلوبهم في كل قطر سحيق".
وقد صاغ قناعته هذه بقوله "شغلتُ نفسي بحبّ المصطفى، وغدت عروبتي مثلي الأعلى والإسلامي". وتردد أصداء هذا الإعجاب في العديد من قصائده، كقوله في قصيدة "الناخلة": "مَنْ ينبئ الملأ الذين أحبّهم/ فيكافئون الحبّ بالعدوانِ/ إنّي على دين العروبة واقفٌ/ قلبي على سُبُحاتها ولساني/ إنجيلي الحبّ المقيم لأهلها/ والذودُ عن حُرُماتها فُرقاني/ أرضيتُ أحمدَ والمسيحَ بثورتي/ وحماستي وتسامحي وحناني/ يا مسلمون ويا نصارى دينكم/ دينُ العروبة واحدٌ لا اثنان". أو أبياته في قصيدة "عيد البريّة" وقد كتبها بمناسبة عيد المولد النبوي، وافتتحها قائلا: "عيد البريّة عيد المولد النبويّ/ في المشرقين له والمغربين دويّ/عيد النبيّ ابن عبد الله من طلعتْ/ شمسُ الهداية من قرآنه العلوي. واختتمها: "يا قومُ هذا مسيحيٌّ يذكركم/ لا يُنهض الشرقَ إلا حبّنا الأخويّ/ فإن ذكرتم رسول الله تكرمةً/ فبلّغوه سلام الشاعر القرويّ".
والأطرف في سيرة هذا الشاعر البليغ ما كتبه في وصيّته التي حررها سنة 1977، وفيها أعلن انتقاله من الأرثوذكسية الأنطاكية، إلى أرثوذكسية آريوس (الذي كان مناهضا لفكرة الأقانيم الثلاثة، والذي طرده من الكنيسة أول مجمع مسكوني عقد في نيقية سنة 325. ونظرية آريوس في تفسير المسيحية هي الأقرب إلى الإسلام). وفي الوصية أيضاً: "لقد كان في نيتي إعجابا مني بالقرآن الكريم، وإيمانا بصدق نبينا العربي ووضوح سيرته، أن أكون قدوة لإخواني أدباء النصرانية، فأدخل في دين الله. ولكن بدا لي أن الدعوة إلى تصحيحنا خطأ طارئ على ديننا، تكون أكثر قبولا وشمولا من الدعوة إلى عدولنا عنه إلى سواه (...) وأطلب في وصيتي هذه أن يصلي على جثماني شيخ وكاهن فيقتصران على تلاوة الفاتحة والصلاة الربانية لا أكثر ولا أقل.
*
وكما كانت اللغة العربية الباب الذي دخل منه الشاعر القروي إلى فضاء محبة الإسلام، كانت هناك عوامل أخرى أدّت إلى الموقف نفسه. منها عيش المسيحيين المشترك مع إخوتهم المسلمين في الوطن الواحد، والاطلاع على آيات القرآن الكريم البيّنات وعلى السيرة النبوية الحميدة. وقد عُرف عن البطريرك الأرثوذكسي غريغوريوس حداد (1869-1928) بعدم التمييز في محبته لأبناء الوطن المسلمين منهم كما المسيحيين، حتى لقّبه البعض "محمد غريغوريوس" و"أبو الفقراء" و"إمام المسلمين". وقد رُوي عنه أن ربطته صداقة بشيخ دمشقي مسلم، وكان عندما يزوره الشيخ، وهو صاحب صوت رخيم، يرجوه أن يرتل له سورة مريم، فتنهمر دموع التأثر من عينيّ البطريرك.
والمسيحيون الذين يقرأون ما ذكر عن مريم في القرآن الكريم، لا يمكن إلاّ أن تترك القراءة في نفوسهم أطيب الأثر. لقد رفعها القرآن الكريم إلى أعلى المنازل، وكرّمها بسورة باسمها، وأخرى باسم أهلها آل عمران، وهي المرأة الوحيدة المذكورة باسمها في القرآن الكريم، والتي قيل عنها في إحدى الآيات ﴿وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين﴾ (سورة آل عمران، الآية 42).
ولقد قرن البطريرك القول بالفعل. كتب المؤرخ والأديب محمد كرد علي في مذكراته: "بسبب المجاعة التي أصابت شعوب هذه المنطقة أثناء الحرب العالمية الأولى، استنهض البطريرك الهمم لمساعدة الجائعين والبائسين، وباع أملاك وأوقاف الطائفة الكثيرة في سوريا ولبنان ليشتري بها طعاما للمحتاجين". والواقع أنه باع قسما ورهن قسما آخر من الأواني الذهبية والفضية التي تملكها الكنيسة ومن الأوقاف، ليصنع خبزا يوزعه يوميا على كل سائل من دون تمييز لديانته. وذات يوم اشتكى القسيس الذي يوزع الخبز من غلبة المسلمين فسأله البطريرك "هل كُتب على الرغيف أنه للمسيحيين فقط؟". وفي مرة أخرى طلب سائل حسنة من البطريرك، فسأله القسيس المرافق عن ديانته، فنهره البطريرك "هل تمنع عنه الصدقة إذا كان من طائفة غير طائفتك؟". كأنما استعاد البطريرك الآية 10 من سورة الضحى ﴿أما السائل فلا تنهر﴾.
تبادل مسلمو بلاد الشام مع البطريرك المحبة. ولدى وفاته شيّعه في دمشق خمسون ألفاً من المسلمين. قال العلامة الشيخ اللبناني مصطفى الغلاييني "نعيتُ إلى أمي العجوز نبأ مفاده: لقد أصاب العرب مصاب عظيم أليم. فأجابتني: هل مات البطريرك أبو الفقراء؟".
أما الشاعر اللبناني المهجري فوزي المعلوف فرثاه بقصيدة بليغة عنوانها "بطريرك العرب" قال في مطلعها: " بلدٌ مشى بسهوله وجباله/ متدفقًا بنسائه ورجالهِ/ وَشَّى لياليه بريقُ دموعه/ وسَرى الأسى لهبًا على آصالهِ". وقال في ختامها مشيرا إلى حادثة إطعام الناس: "المُطْعِمُ الطّاوِينَ جُلَّ طعامهِ/ والواهب البؤساء باقي مالِهِ/ لا أطلبُ الرحمات مِنْ ربّي لهُ/ فأنا على ثقةٍ بِحُسْنِ مآلِهِ/ فالخَلْقُ كلُّهُمُ عيالُ اللهِ/ أقْربُهُمْ إليه أبرُّهُمْ بعيالهِ".
*
وفي أزمان الأحداث الوطنية الكبرى تبرز مواقف التعاضد بين المسلمين والمسيحيين على نوح أكثر وضوحا. ففي أيام ثورة سنة 1919 التي عمّت مصر وحرّكت جماهير الشعب، كان القمّص القبطي سرجيوس (1882-1964) أول رجل دين مسيحي يخطب من منبر الجامع الأزهر الشريف، مرافقا الشيخ المسلم محمود أبو العبر، مناديا بالوحدة الوطنية ومقاومة المحتلين الإنجليز، يوميا لمدة ثلاثة أشهر، ومعلنا أنه مصري أولاً وثانيًا وثالثًا، وأن لا فرق بين المسلم والقبطي في ضرورة الجهاد في سبيل الوطن.
وقد نشأ القمص سرجيوس على مقاومة الإنجليز. في سنة 1912 كان منتدبا للكنيسة القبطية في العاصمة السودانية الخرطوم. وكان يحثّ السودانيين الأقباط على رفض الاحتلال، فكان أن طردته السلطات الإنجليزية من السودان. ولم يغيّر موقفه بعد عودته إلى مصر. وذات يوم، وقف برفقة الشيخ مصطفى القاياتي مؤسس "جمعية الدفاع عن مصر" في منبر مسجد ابن طولون، وخطب في الحشود منددا بالاحتلال، فما كان من السلطات الإنجليزية، إلا أن أمرت بنفي الشيخ والقمّص إلى رفح في سيناء. وبعد ثمانين يوما من الاعتقال، عادا إلى القاهرة، وعاود القمّص سرجيوس خطاباته النارية من منابر الكنائس والمساجد.
*
وفي السياق نفسه، لا بد من ذكر الزعيم السوري فارس الخوري، اللبناني المولد والنشأة الأولى (بلدة الكفير، جنوب لبنان، سنة 1873) الذي بعد تخرّجه في الجامعة الأمريكية في بيروت، اختار سوريا موطنا، وأمضى فيها جلّ سنوات عمره، مناضلا صريحا لأجل الاستقلال وعروبة البلاد، منددا، وهو البروتستانتي المسيحي، بالاحتلال الفرنسي لبلاد الشام. وفي دمشق كانت وفاته سنة 1962. هذا المناضل العروبي تولّى رياسة مجلس النواب، ثم رياسة الحكومة في سوريا ثلاث مرات. وكانت العروبة مدخله إلى حبّ الإسلام.
كان المفوض السامي الفرنسي الجنرال جورو في بداية الانتداب الفرنسي قد زعم بأن فرنسا احتلت سوريا لحماية مسيحيي الشرق، وذلك بقصد كسب تأييد هؤلاء للاحتلال. لكن العكس هو الذي حدث، وكان فارس الخوري أبرز الذين اتخذوا المواقف الصريحة. توجّه يوم الجمعة إلى المسجد الأموي الكبير في دمشق، ومن على منبر المسجد ألقى خطبة قال فيها "إذا كانت فرنسا تدّعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري. وأنا كمسيحي أهتف من هذا المنبر: لا إله إلا الله". ولدى خروجه حمله المصلّون على الأكتاف وطافوا به في شوارع دمشق.
لم يكن اعتناق فارس الخوري المسيحية دافعًا يجعله مؤيدا للاحتلال الفرنسي برغم "مسيحية" فرنسا. بل ظل معارضا ومطالبا باستقلال البلاد برغم اعتقاله غير مرة. ويوم كان مندوب فرنسا لدى الأمم المتحدة في منتصف أربعينات القرن العشرين اتخذ موقفا لافتا للنظر. دخل القاعة وجلس في مقعد المندوب الفرنسي، وترك مقعد المندوب السوري خاليا. ولما دخل المندوب الفرنسي القاعة ورآه طلب منه بنبرة غاضبة: انهض واجلس في المقعد المخصص لكم. تجاهل فارس الخوري الطلب وأخرج ساعة من جيبه وراح يعدّ الدقائق بصوت مسموع. زاد حنق المندوب الفرنسي وكرر طلبه بلهجة بها شيء من الأمر، ردّ عليه فارس الخوري قائلا: "مهلا. لقد جلست في مقعدك 25 دقيقة وكدت تقتلني حنقا، وقد احتملت سوريا احتلاكم خمسة وعشرين عاما، وآن أوان استقلالها".
فارس الخوري، المسيحي، عندما تسلم رياسة الحكومة للمرة الثالثة عام 1954 احتفظ لنفسه بوزارة الأوقاف! وهي حالة فريدة! وعندما اعترض بعض النواب في البرلمان على ذلك، دافع عنه نائب الكتلة الإسلامية الشيخ عبد الحميد الطبّاع قائلا: إننا نؤمّن فارس بك على أوقافنا أكثر مما نؤمّن أنفسنا".
*
ولم يكن فارس الخوري المسيحي الوحيد الذي خطب من منبر مسجد، إذ سبقه القمص القبطي سرجيوس، وتبعه الشاعر اللبناني حليم دموس سنة 1947 عندما ألقى قصيدته "إذا تكلّم السيف سكت القلم" من منبر المسجد الأموي في دمشق، وهي لنصرة القضية الفلسطينية. وقد اهتزّ لسماعها المصلّون المسلمون وهتفوا "الله أكبر، الله أكبر". قال الشاعر في مطلعها: "تكلّم السيف فاسكت أيها القلمُ/ وسِرْ مع الجيش وأخفق أيها العلمُ/ سيروا إلى المسجد الأقصى لساحته/ سرى محمّدُ ليلا وهو يبتسمُ".
بديهي ومنطقي أن يقدّس المسلم القرآن الكريم ويوقّر سيرة رسول الله (ص)، لكن أن تصدر هذه الأقوال والمواقف الإيجابية عن أدباء وسياسيين ورجال دين مسيحيين، فذلك دليلٌ على وحدة أبناء الشعب الواحد.
***
د. رنا أحمد الأزاز: نالت درجة الدكتوراه من جامعة القديس يوسف، بيروت. وأطروحتها عن "نظرية التلقي في مسرح الطفل". أستاذة في "الجامعة الدولية اللبنانية" بيروت وطرابلس – لبنان، ورئيسة قسم الإعلام فيها.