فلسفة التربية.. البرنامج التربوي بين أفلاطون وابن رشد (2 – 2)
انتهينا في مقالنا السابق الذي حمل عنوان "فلسفة التربية.. المفهوم والدلالة"، عند تساؤل هل قدمت لنا الفلسفة أنظمة تربوية يمكننا أن نستعين بها، حيث تُقدم لنا أجوبة عما يواجهنا الآن في عالمنا؟ وذكرنا أيضًا أن الإجابة عن هذا التساؤل تقتضي بنا عرض نموذجين لفيلسوفين من عصرين مختلفين، حتى نستطيع أن نقف على إجابة صحيحة ومرضية، وهذا ما سنُبينه الآن خلال هذا المقال. إلا أن الأمر يتطلب منا أن نُلقي نظرة عما يدور حولنا؛ خاصة فيما يتعلق بطريقة حل المشكلات والتحديات التي تظهر أمام النظم التعليمية.
نعيش الآن في أجواء إخبارية تتصارع بها القضايا والرؤى حول التعليم، وكيفية النهوض بالعملية التعلمية وتطويرها، ونلمس ذلك بوضوح عند بداية كل عام دراسي جديد. ولكننا اعتدنا على هذه الضجة غير المدوية شكلاً والفارغة موضوعاً، فلم تفلح برامج التوك شو وغيرها من وسائل التواصل مع المواطنين في حل هذه القضية، بل زادتها تعقيداً، كل هذا لأننا ببساطة نواجه ونتحدث حول قضية أمن قومي، قضية شائكة وملتهبة، تحتاج المتخصص والباحث في شؤنِها. كفانا مهاترات وأحاديث لا تثمن ولا تُغني من جوع، ولأننا نؤمن بهذه المسلمة – المتخصص أولى بتخصصه وبقضتيه – لن نتحدث هنا عن قضية التعليم في وقتنا الحالي، ولكننا سنأخذ فسحة من الوقت ونقرأ سويًا ما كانت عليه العملية التربوية مُنذُ آلف السنين، كيف كانت، وماهي مطالبتها وما هو النتاج الذي خرجت لنا به في ذلك الوقت؟ وباختصار شديد، هل نجحت البرامج التربوية القديمة مُنذُ آلف السنين، بتلبية احتياج المجتمع وسوق العمل آنذاك؟ وما الذي يمكننا أن نستفيده من هذه البرامج القديمة؟
عزيزي القارئ، سينصب حديثنا ونسلط الضوء على القضية التعليمية عند علمين من أعلام الفكر الإنساني هما، الفيلسوف اليوناني "أفلاطون" أحد أقطاب الفكر الفلسفي اليوناني، والفيلسوف الإسلامي "ابن رشد" المٌلقب بالشارح الأكبر لأرسطو. وذلك بعرض الفلسفة التربوية التي وصل إليها كل منهما في مجتمعه وحسب بيئته، وهل كان للنظام السياسي يد في تسيير هذه البرامج التربوية أم لا؟
يرتبط نشوء أي نظام سياسي جديد بفلسفة التربية، لأن لكل حكم طبيعته الخاصة التي تفرض وجود نوع من التربية يعمل على تدعيم السلطة والحفاظ على أيديولوجيتها. والمسألة التربوية منذ القدم اعتبرت جوهر الصراع بين القوي التي تحلم بالسلطة وتأسيس الدول والمدن.
بحث أفلاطون في الاجتماع واعتبر أن الإنسان مدني بالطبع، فهو يجتمع في الأسرة ثم في الدولة من أجل تلبية ضروريات الحياة التي لا يقوي فرد على القيام بها وحده، مما يجعل المجتمع قائماً على التكافل والتضامن وعلى قيام كل فرد بأداء وظيفة معينة. ويعتبر أن التخصص وتقسيم العمل أساس الحياة الاجتماعية مما يؤدي إلى ظهور المهن والحرف والفنون. فالدولة المثالية في رأي أفلاطون يجب أن تكون على النحو التالي:
أولاً: أن تكون عادلة. ثانياً: أن تتم كل طبقة بدقة؛ أي بأكمل شكل ممكن، أي ما هي مصنوعة له. وأخيراً تنظيم الانسجام الداخلي كما كان الحال في ملاحقة الفضيلة، أما طبقات هذه المدينة فتضم ثلاث طبقات، طبقة الحرفيين، وطبقة التجار، وطبقة المساعدين للحاكم، وأخيراً طبقة الحراس.
لذلك تتصف دولة أفلاطون بأنها دولة كلية شمولية Totalitarian أي أن الدولة ليست مجرد مجموع أفرداها، فأول ما يتميز به هذا النظام أن يشبه الدولة بالجسم العضوي، الرأس فيه ترمز لطبقة الحكام، لها القيادة والسيطرة على باقي الأعضاء. والفرد فيه كالأصبع أو أي عضو آخر ينفذ ما يمليه الرأس من تعليمات. والسؤال الآن، كيف نهيئ للدولة هذه الطبقة من الحكام الفلاسفة؟
وضع أفلاطون منهجاً تربوياً وتعليمياً طويل المدي لإعداد الملك / الفيلسوف الذي يحوز رجاحة العقل وسلامة الطبع، ويسلك في رعايته مسلك الفضيلة والخير. كما أن برنامج التربية هذا والذي يشغل عرضه قسماً كبيراً من حوار الجمهورية والكتابين الأولين للشرائع، يفرق بين حقيقتين كبيرتين. الأولى، تلك التي تُعنى بالطفل وبالفتى، حتى سن العشرين، تحتوي على، أولاً: التمرن على الموسيقى، ونعني بذلك كل أشكال الفن، لأنها مرتبطة "بالموز "Muses" وبخاصة الشعر والموسيقى بالمعنى الحصري (مع نبذ صارم لكل ما يشين الأخلاق، مثلاً القصائد التي تمثل الآلهة مع شهوات إنسانية)؛ مع التمرن على الموسيقى، تنضم تمارين الرياضة البدنية، التي إذ تلين وتشدد قوة الجسد، تسهم في إعداد النفس. مع الاعتناء بعد إبعاد الطب، كحماية جسدية. في النهاية. في فترة الفتوة، بعد فرز الذين هم اقل كفاءة عقلية من سواهم، ليصيروا "محاربين"، يتلقى الآخرون العلوم الأساسية التي هي علم الرياضيات، والهندسة، والفلك، والموسيقي.
أما المرحلة الثانية من التربية سوف تشغل من سن العشرين إلى الثلاثين، بالدرس المعمق، ثم من سن الثلاثين إلى سن الخامسة والثلاثين يتم التدريب على الجدلية، كمنهج لعلم الكيان، وبالتالي الصلاح، ثم بعد ذلك يعودوا ليمارسوا وظائف الحكم في الدولة.
يبدو من خلال الفقرات السابقة، أنه في كل مرحلة تربوية يكون هناك ما هو ضروري ومرغوب فيه، وهكذا كانت الرياضة والموسيقي مطلوبتين في المرحلة الأولى، وفي المرحلة الثانية أصبحت الرياضيات هي المطلوبة، وإذا كان التصور الأسطوري مرفوضاً في المرحلة الأولى، فإن "الديالكتيك "Dialectic، ذلك أن الجدل في المنظور الأفلاطوني يمكن أن يكون ذا قيمة عليا معرفياً، بل هو غاية كل تعليم عال، ولكنه يمكن أن يتحول إلى معرفة دنيئة لا تهدف إلا إلى المغالطة.
وحتى تكون التربية سليمة مثلما يرى أفلاطون لابد للشخصية الإنسانية أن تحافظ على مبادئ كل نفس من الأنفس الثلاثة فالنفس العاقلة "ينبغي أن تكون لها الغلبة تستعين بالقوى الغضبية من أجل إخضاع القوى الشهوانية وقهر رغباتها"، كما آمن أيضاً بأن هذه التربية هي الكفيلة بالوصول إلى مجتمع عادل يلتزم فيه كل فرد بطبقته التي يعيش فيها، ذلك هو المجتمع الذي يدعو فيه أفلاطون إلى إلغاء الزواج وهدم الأسرة وينادي بشيوعية النساء والأطفال.
وبهذا نجد أن الحديث عن التربية عند الإغريق ارتبط كثيراً بأفلاطون وكانت محوراً لكتابه الجمهورية وتميزه التربية عنده بغايتها المثالية وتبدأ بتهيئة الفرد لأن يصبح عضوا صالحاً في المجتمع لتحقيق الغاية الكبرى وهي سعادة القصوى والتي لا تتم إلا بالتعاون مادام الإنسان اجتماعي بطبعه مما يستوجب منه التعاون مع غيره لإشباع حاجاته، والتربية تقوم على إعداد الجسم والرّوح معا لبلوغ الجمال والكمال، ولهذا الأساس ركّز "أفلاطون" على تنمية الذوق الجمالي لدى الطفل عن طريق التربية الموسيقية، وتقوية الجانب البدني بالتركيز على التربية البدنية وبهذا يرى أفلاطون أنّ العملية متكاملة ووظيفية بين الرّياضة والموسيقى. هذا عن الوضع التربوي في العصر الأفلاطوني أو بعبارة أدق، البرنامج التربوي الذي أرسى أفلاطون حجر أساسه، والسؤال الآن، هل اختلف الفكر الإغريقي عن الفكر الإسلامي في وضع الأسس التربوي اللازمة للمجتمع؟ للإجابة عن هذا السؤال، سنتناول الفكر التربوي عند الشارح الأكبر الفيلسوف الإسلامي العظيم شأنًا والذي يتبوأ مكانة علمية مرموقة هو "ابن رشد".
والسؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن، هل اختلف برنامج ابن رشد التربوي عن مثيله الأفلاطوني؟ يري ابن رشد أن الحديث عن المدن وعن طبائعها يستلزم الحديث عن التربية التي يعاد بها إنتاج الأفراد، ومن هنا يحدد ابن رشد منطقا للعمل التربوي بموجبه ينشأ خاصة صنفا الحفظة والفلاسفة؛ الصنف الأول توكل إليه مهمة حفظ المدينة وحراستها، وهو الصنف الذي خصص له ابن رشد المقالة الأولى، والصنف الثاني توكل إليه مهمة رئاسة المدينة. ولابن رشد عناية خاصة بهما.
إن الفيلسوف عند ابن رشد شخص نشأ على الموسيقى، وارتاض بركوب الخيل إلى أن بلغ العشرين من عمره، ثم بعد ذلك تعمق في الكتب الفلسفية على الترتيب الذي يراه ابن رشد مبتدئاً بالمنطق، ثم علم العدد، ثم الهندسة، ثم الهيئة، ثم الموسيقى، ثم علم المناظر، ثم علم الأوزان، ثم العلم الطبيعي ثم ما بعد الطبيعة. وقد حذر ابن رشد من البدء بالفلسفة قبل هذا السن خوفاً من الانحرافات الفكرية والأخلاقية كما وقع لمتفلسفة زمان ابن رشد. ثم عند سن الثلاثين ينتهي نظرهم الفلسفي لتوضع تحت إمرتهم، في سن الخامسة والثلاثين، قيادة الجيش قبل أن يستحقوا الرياسة والحكم في سن الخمسين، لينتقلوا عند التعب بفعل السنين إلى جزيرة السعداء، حلم ابن باجة القديم.
أضف إلى ذلك عزيزي القارئ، لقد قدم لنا ابن رشد مجموعة من النصائح التربوية، نُجملها على النحو التالي:
أ- يجب أن نُجنبهم أشعار الغزل فلا يسمعونها.
ب- ألا يحزن أصلا لوفاة قريب له، كائن من يكون هذا الفقيد محبوباً أو صاحباً أو نسيباً، وإذا تألم فليكن حزنه خفيفاً، بل ينبغي إذا ما حدث ذلك أن يتحمل ويقوي من عزمه ويصبر صبراً جميلاً، وأيضاً فإن البكاء عمل النساء وضعاف النفوس وهو بعيد جداً عن طبع الحافظ وأيضاً لا ينبغي أن يتصف الرؤساء بالخوف.
ج- ينبغي أن لا يستغرقوا في الضحك؛ إذا كان عود المرء نفسه على هذا الخلق صعب عليه التخلص منه ولم يمكنه ذلك إلا بجهد شديد، لا ينبغي أن يتصف الرجال الصالحون ولا الرؤساء بالإفراط في الضحك.
د- ينبغي أن يحث الحفظة على الصدق وأن يحرصوا عليه ذلك لأن الكذب لا يليق بالصالحين ولا بالملوك ولا بالجمهور، أعني أنه لا ينبغي أن تكون لهم به صلة فإذا حدث ووجد من بين أهل الصنائع أو غيرهم من يكذب فأنه يجب معاقبته، بل ينبغي أن يعرف الجمهور.
هــ - ينبغي على الحفظة أن يتجنبوا أكثر من أي شيء آخر الأقاويل المحركة إلى الذات، وهذه موجودة كثيراً في أشعار العرب. والأولى أن نسمعهم الأقاويل التي تحذر من الاقتراب منها ومن أثرها، لأن ضبط النفس كما يقول أفلاطون، إنما يكون مع العرفة والابتعاد عن اللذات الحسية.
ح- ينبغي أيضاً أن لا يصغوا السمع إلى الأقاويل التي تحدث على الكسب وجمع المال، لأن الأموال هي أكثر الأشياء إعاقة لهذه الصنائع، فينبغي أن يحذروا الصبيان من سماعه، وأنت تعلم أن شعر العرب مملوء بهذه الأمور الساقطة، ولذلك فأن أشد الأشياء ضرراً أن يربى الصبيان والأحداث عليها منذ نعومة أظافرهم.
سواء اختلفنا أم اتفقنا مع هذه النصائح التي قدمها لنا ابن رشد، إلا أننا نجد أن التربية في المشروع الرشدي لا تختلف من حيث المراحل عن أفلاطون وإن كان هناك اختلاف في التقديم والتأخير، لكن يبقي العامل المشترك بينهما أن التربية تبدأ مع الأطفال باعتبارهم هم من تتحقق بوجودهم المدينة المرتقبة.
وفي الختام، إذا أردنا حقًا أن نعبر هذا المنعطف الذي ظل هو الهاجس الأعظم لنا في هذه الأيام، علينا أولاً وقبل كل شيء أن نردم ونغلق تلك الفجوة الذي حفرناها بأيدينا بيننا وبين الماضي، تمثلت في إهمال التاريخ من حيث فهمه ودراسته بما يقتضيه الواقع. علينا أن نعي تمامًا أن في قراءة التاريخ عبرة اليوم ومستقبل الغد، وفي كلمة واحدة، التاريخ هو مفتاح عبورنا وسيرنا نحو التقدم المنشود.