تراثنا.. ميراثنا النابض بالحياة
كعادتي في حبي لكل ما هو قديم وأصيل ويحمل عبق الماضي وروحه ورائحته، حرصت على زيارة معرضي المفضل والأقرب لقلبي وعيني "تراثنا"، هذا برغم كل مصاعب العمل ومواعيده والتزاماته، هي تحديات كانت لتحول دون ذهابي بأي حال، حالي حال العديدين غيري. لكنه الاحتياج إلى هذه الحالة وتلك الأجواء التي كنا لا نراها إلا فرادى في القاهرة العتيقة وأحيائها العريقة، كخان الخليلي والحسين والجمالية والدراسة والموسكي وحارة اليهود وحي مصر القديمة. وكلها بالطبع مناطق يصعب الوصول إليها بمعايير الزمان والمكان نظراً لازدحامها المعتاد وصعوبة الوصول إليها بالسيارات الخاصة التي يفضل أصحابها استخدامها في تلك الحالات لتسهيل حمل مشترياتهم بها، وهو الأمر الذي قام بتيسيره هذا المعرض بكل حرفية واقتدار، فمجرد استجماع واحتضان كل تلك المحال والورش، وأماكن عمل هؤلاء المبدعون تحت سقف واحد في معزوفة حرفية جميلة، لهو أمر ترفع له القبعة احتراماً من قبل كلا الطرفين عارضين وجمهور، وهما المستفيدان الأساسيان من تلك الحالة المتبادلة والمتناغمة، فالعارض هدفه الأساسي هو الوصول بمنتجه إلى الجمهور بأيسر وأقصر طريقة ممكنة، والعكس بالعكس.
ويمكنني الجزم أنه مع زيارتي للعام الثاني على التوالي لمعرض "تراثنا" برغم انتظامه منذ عدد من السنوات، فإن هناك من يسمع الآراء وردود الأفعال، ويشاهد ويحلل ويقوم بكتابة الملاحظات ووضعها في الاعتبار عاماً تلو الآخر، فالحادث العام الماضي مما قد نسميه بعض السلبيات تم تفاديها هذا العام، بل على العكس فهناك بعض الملامح التي وجب عليّ أن أُثني عليها بعين المراقبة والملاحظة والمتابعة للتفاصيل، كزيادة عدد الأتوبيسات الناقلة للجمهور من أماكن ساحة انتظار السيارات إلى قاعة العرض، وأيضاً استحداث منطقة انتظار وجلوس في منتصف قاعة العرض تماماً بما يتيح الفرصة لكبار السن وذوي الهمم وغيرهم من الجمهور العادي حتى الجلوس والحصول على جزء من الراحة حتى يمكن استكمال الجولة المقررة، خاصة وأنه من الملاحظ أن الجميع يتجول وهو يحمل معه العديد من المشتريات الخفيفة والثقيلة الصغيرة والكبيرة، وهو الأمر الذي يصعب معه استكمال مهمة الاطلاع على كامل المعرض بكل تلك الأحمال.
الأمر اللافت للنظر والذي أرجوه من القائمين على المعرض هو تخصيص منطقة قريبة ومجهزة للصلاة بالنسبة للسيدات، بحيث تكون بمكان مغلق وبه مكان للوضوء تيسيراً على كلا العارضات والمترددات على المعرض، تماماً كما تم مراعاة وجود مكان لصلاة الرجال، خاصة وأن المعرض يقام على مدار اليوم الأمر الذي يصعب معه تأجيل فريضة الصلاة الهامة للجميع وعلى رأسهم السيدات وهن القوام الأساسي للمعرض والأعلى نسبة بكل يقين. ومن ناحية أخرى، قمت بالتجول على فترات على أروقة المعرض، ورأيت التقسيم المتقارب لكل حرفة وصنعة، كالحرف الخشبية والمعدنية والإكسسورارات المختلفة ومنتجات النسيج من أقطان وكتان وأصواف وغيرهم، والسجاد بكل أنواعه، تحدثت مع بائعين من صعيد مصر العامر بالخيرات، وتحديداً من قرية أخميم بمحافظة قنا، يصنعون شالات مختلفة من القطن والكتان غاية في الروعة، وآخرون من سيوة يعرضون منتجاتهم المختلفة والبديعة من الملح الصخري المعروف كمنتج أساسي بالمحافظة، تحدثت أيضاً إلى العديد من السيدات اللائي يعرضون منتجاتهم المختلفة من إكسسوارات، ومشغولات معدنية وخشبية، وغزل ونسيج يدوي، معظمهن يقيمون ويديرون أشغالهم من بيوتهن على أعلى مستوى من الكفاءة والحرفية، فليس من السهولة بمكان الحصول على مكان لإقامة ورشهم والانتظام مع عمالة محددة وتوسيع دائرة الإنفاق على أعمالهن الصغيرة والمتوسطة.
لكن إجمالاً يمكن القول أن المعرض الثري بتراثنا وميراثنا العامر بكل التفاصيل والألوان والأفكار والكثير من الهوية المصرية الخالصة، قد أثرى جمهوره بحالة عظيمة من الطاقة الإيجابية حتى قبيل المرور ببوابة الدخول الأساسية، فشاشة العرض التي تذيع الأغنية التي تم إعدادها خصيصاً للمعرض، وقامت بغنائها المطربة هلا رشدي بحيوية وعذوبة، تُدخِل الجميع إجبارياً في حالة من النشوة وتسحبه لإرادياً إلى الداخل الزاخر بالكثير من الكنوز المصرية. أقولها مراراً، نحن نمتلك من المقومات التي تجعلنا في مصاف الدول المتقدمة بتحقيقنا لمبدأ الاكتفاء الذاتي، في حالة ما إذا تم الاعتماد حصرياً على العامل المصري (المحترف والمنتظم)، والمنتج المصري المصنوع بمقومات ومواد مصرية خالصة، ولا سيما وأن شكل إدارة المعرض أعطتنا الثقة أن حتى عنصر الإدارة -المفتَقَد عادة- حاضر بقوة هذه المرة، وهو الأمر الذي تؤول مسؤوليته بالتبعية إلى جهاز تنمية المشروعات التابع لمجلس الوزراء باعتباره الجهة المنظمة للمعرض، والتي تستقبل من بعد انتهاء المعرض طرف الخيط لاستكمال مشوار دعم الحرف التراثية والقائمين عليها. فتحية من القلب لكل القائمين والمشاركين وحتى الحضور، فقد خلقتم حالة من الطاقة الإيجابية شديدة الاحتياج عند الجميع؛ ففي الوقت الذي تراجعت فيه معدلات النمو والتنمية في دول صناعية كبرى ودول عظمى بعينها، كنا نحن نصنع تراثنا بأيدينا وننظم به معارضنا ونستقبل فيها المصريين وغيرهم. وليبقَ الأمل حاضراً، فمادمنا نصنع قُوتنا بأيدينا فنحن نملك حاضرنا ومستقبلنا، والمجد كل المجد لكل صانع ولكل داعم لهذا الصانع. يا كل مصري.. اشتري مصري.