بقلم : أشرف غريب
منذ نهاية السبعينيات وأنا أعرف المطرب مدحت صالح ، كان يجمعنا صديقنا المشترك، ضابط الإيقاع، هشام حامد بصحبة الفنانين المعروفين سمير الإسكندرانى وفيصل خورشيد .. كنت فى المرحلة الثانوية أعشق الفن وأمارس هواية العزف على الجيتار ، وكان هو طالبا جامعيا يتنفس طربا ويقطر حماسا ويحلم باليوم الذى يقدم فيه فنه للناس ، كان صوت محمد صالح الذى أصبح " مدحت " بعد ذلك - ولا يزال - من أجمل الأصوات التى أنجبتها مصر فى الخمسين عاما الأخيرة ، وهو فوق جمال الصوت صاحب شخصية غنائية خاصة ونبرات مميزة لا تخطئها الأذن، وسيطرة تامة على مفاتيح الغناء العربى الصحيح ، وأشهد أننى فى المرات العديدة التى استمعت فيها إليه قبل الشهرة والاحتراف كنت أجلس أمامه منبهرا بأدائه الرصين وقدرته على التطريب والانتقال السلس بين المقامات الموسيقية المختلفة ، وأشهد أيضا أن مشوار مدحت صالح لم يكن سهلا نحو أذن المستمع ، وأنه أضاع سنوات من عمره فى معية الملحن الدكتور يوسف شوقى بحثا عن فرصة الغناء أمام الجماهير ، إلى أن عوضه الله بالموسيقار محمد سلطان الذى آمن بموهبته وتولاه بالرعاية وقام بتقديمه فى حفل مهرجان الإسكندرية السينمائى بلحن من ألحانه هو " زى ما قالوا عينيك " ثم شق مدحت طريقه وسط الأسماء الكبيرة التى كانت تغص بها الساحة الغنائية منذ بداية الثمانينيات وما بعدها، متحديا كل الظروف الصعبة وآليات السوق التى كانت تتجه نحو تسطيح الكلمة، والألحان الإيقاعية السريعة فى ظل غياب الدور الفعلى للإذاعة المصرية فى بسط حمايتها على الأصوات الجادة تاركة إياهم لحيتان سوق الكاسيت وأباطرة " الهجص " الغنائى ، ومع ذلك لم يتنازل مدحت صالح أو يحيد عن حلمه القديم بأن يكون امتدادا لكل العمالقة الذين تربى على أغنياتهم وتشكل ذوقه العام على عمق كلماتهم ورصانة ألحانهم ، وأعلم أنه بذل مجهودا كبيرا كى يصل إلى الصيغة التى مكنته من الحفاظ على نجاحه طوال هذه السنوات ، تلك الصيغة التى تأخذ من الحديث إيقاعه وأسلوب تنفيذ العمل دون التنا زل عن موروثنا القديم فى الغناء المتأصل داخل هذا المطرب المتمرس ، هكذا فعل مدحت وهو يقدم : لا أنا يا حبيبتى ياسين ، المزمار ، كوكب تانى ، السهرة تحلى ، ورسمت قلب بألف جناح، باحلم على قدى ، ولا تسوى دموع ، قلب واحد ، عيونك الرحيل ، آسف على الأحلام ، حبيبى يا عاشق ، وغيرها من عشرات الأغنيات التى خلقت تلك المساحة الخاصة جدا لمدحت صالح فى وجدان كل مستمع عربى .
كتبت هذه المقدمة الطويلة لأعبر لكم عن تلك الدهشة بل والصدمة التى أصابتنى وأنا أستمع إلى مدحت صالح يقدم عملا مسخا اسمه " تعرفى تسكتى " لا أريد أن أعرف من هو كاتبه أو ملحنه، يكفى حسرة أنه يخص مدحت صالح ذلك الذى قلت فيه كل ما قيل فى الأسطر السابقة .. تخيلوا أن الذى غنى " رافضك يا زمانى يا مكانى يا أوانى أنا عاوز أعيش فى كوكب تانى " و" باحلم على قدى بشراع يعدينى ، بشموع تدفينى ، بعيون تصون ودى " و " ورسمت قلب بألف جناح وفضلت طاير بيكى لفوق " و " الحلم ده حلمنا ، والحب من حقنا ، مين اللى يمنع طير إنه يطير فى السما " هو نفسه الذى يغنى اليوم " تعرفى تسكتى ولا أسكتك ، ولا انتى الحالة خلاص مسكتك، بتقولى حتقدر تعمل ايه، يعنى استفزاز عاوزة تكملى، وانا حاعمل ايه لو ما سكيتيش، حاديكى الكلمة اللى تسكتك " تخيلوا ..
يا خسارة يا مدحت .