وباغتني كصفعةٍ لم أستعد لها، وحين بدأت أستجمع أفكاري لأرد إذا بي تحاصرني أسئلةٌ لها وقع السؤال الأول..!! صحيحٌ أننا دولةٌ أفريقية بحكم الموقع وأصول الأنساب، مع الاعتراف باستحالة وجود أجناس بشرية صافية بنسبة 100% ما الذي نعرفه عن الأدب الأفريقي شعراً وسرداً ؟!! وصحيحٌ أننا قصرنا اهتمامنا على الأدب الأوروبي محاولين استنساخ مراحل تطوره بصورة فجّة، ولم ندرك مدى خصوصية كل بيئة وقدرتها على إفراز صور أدبية تنتمي إليها فيها من الخصوصية ما يجعلها مرآة حقيقية تعكس أفكار ومشاعر هؤلاء الذين يتعايشون على جنباتها.
وصحيح أيضاً أننا في العقود الثلاثة الأخيرة انشغل الكثيرون من المبدعين بجوائز البترودولار التي تمنح حائزيها رغد العيش وتكفل لهم الراحة من وجع الكتابة وهمومها رغم وجود جائزة أفريقية رصينة لم تَمنح يوماٌ إلا لمستحقيها ولم يدر لغطٌ حول الفائزين بها، إنها جائزة الطيب صالح بفروعها في الرواية والقصة القصيرة والبحث الأكاديمي في السرد والشعر الأفريقي، لقد كان من أوائل الكنب التي قرأتها في الصف الرابع الابتدائي في مكتبة المدرسة بالإسكندرية (حكايات من أفريقيا) وقد جمع أشهر الحكايات المنتشرة في كل دولة أفريقية.. لعلك تهمس كان ذلك في حقبة الستينيات الناصرية وما صاحبها من مناصرة حركات التحرير، وما الضرر هذه الدول الأفريقية ظلت أكبر داعم لنا في صراعنا العربي الصهيوني، ولولا مرحلة السلام ما استطاع العدو أن يجد موضعاً لقدمٍ يسعى من خلاله للإضرار بمواردنا.
هل تتصور عزيزي القارئ أن هناك خمسة أفارقة قد حازوا جائزة نوبل في الآداب هم: النيجيري (وول سونيكا) 1986، المصري (نجيب محفوظ) 1988، الجنوب أفريقية (نادين غوردمير) 1991، الجنوب أفريقي (جون مكسويل) 2003، التنزاني (عبد الرزاق جرنة) 2021، وكل هؤلاء روائيون، ولعلك تظن أن الشعر الأفريقي يفتقد حيوية الرواية الأفريقية، أو أن الشعراء الأفارقة أقل إبداعاً فلم يسترع اهتمام لجنة تحكيم.. مستحيلٌ فهذه القارة على اتساعها وتنوع قبائلها برقصاتهم المبهرة وأصباغهم المبهجة طوال فعالياتهم الرياضية، وهذه الأساطير التي تتردد على ألسنة حكّائيهم لابد أن تجد طريقها إلى أشعارهم؛ فتختلط هذه الأصوات لتكوّن جوقة متناغمة تأخذ بالأرواح، لكننا نظرنا إليهم بعيون الأوربيين فلم نر فيهم سوى منجماً للمواهب الكروية أو للموارد الطبيعية من معادن وغيرها.
وتعال معي لنستمتع بقصيدة (الإنسان الذي يشبهك) - للشاعر الكونغولي رينيه فيلومبي.
اليوم أقرع بابكْ أهزُّ أوتار قلبكْ أرجو سريراً مريحاً أقضي فيه بعض ليلي ونارَ دفءٍ لعلِّي بها يردُّ جَناني برداً يهزُّ كياني افتحْهُ.. لا تطردْني أَعِنْ أخاك فإنِّي أخوك من عهد آدمْ.
افتح، ولا تطردْني افتح، ولا تسألْني أأنت إفريقيُّ؟ أم أنت أمريكيُّ؟ أم أنت أوربِّيُّ؟ ولا تسلْني فإني أخوك من عهد آدمْ.
ويا أخي لا تسلْني لِمْ كان أنفيَ أطْوَلْ؟ وَلِمْ فمي هو مُثْقَلْ؟ ولونُ جلديَ أَسْوَدْ؟ وشعر رأسيْ مجعَّد؟ ولا تسلْني، فإني أخوك من عهد آدمْ.
وما أنا بالأَسْوَدْ ولا أنا بالأحمرْ وما أنا بالأصفرْ وما أنا بالأبيضْ وإنما إنسانْ.
لقد عبّر الشاعر عن موقف الإنسانية من التمييز العنصري بغنائية شديد البساطة دون هتاف أو شعارات رنانةٍ ، لكنه استخدم جملاً قصيرة معتمدا على النداء بـ (أخي) هذه الكلمة التي تستثير أعظم المشاعر وأصدقها مع رنّة عتابٍ تتردد داخل النداء المنفرد؛ ليعطي النداء شمولية الإنسانية، ويختم مقطوعاته بهذه الجملة الآسرة (أخوك من عهد آدم) وكأن تذكير الآخر بأصل البشرية يستثير علائق الأسرة الواحدة، ويحدد حاجاته وهي في الغالب معنوية وإن بدت مادية في ألفاظها، وإلا فما المقصود من السرير الذي سيقضي فيه بعض ليلة، والدفء الذي يرد به برداً يحتل قلبه، طالباً منه البذل دون الأخذ في الاعتبار أصله أو ملامحه أو لونه ليختم الشاعر هذا النص العبقري بـ (وإنما إنسان) هذا هو الجوهر الذي تنبني عليه علاقات البشر لتتحقق الغاية الإلهية من هذا التنوع (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).