رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الغاليون لا يرحلون

5-11-2022 | 13:48


مهــــا محســــن

وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

عام مَرَّ وانقضى على أصعب مواقف عمري على الإطلاق، الموقف الذي جعلني أحسب كل تفاصيل عمري بما قبله وبعده وأقيّم الأمور بميزان الدنيا الزائلة والآخرة الباقية، فلم أكن لأتخيل يوماً ما التطبيق الحي لفواجع الأقدار في فقد أعز الناس، وفواجع الأقدار هنا هي ليست بصعوبة أسباب الرحيل بقدر ما هي بحجم غلاوة وقيمة الراحل والأثر الذي يتركه في نفوس من خلفه، برغم كامل القناعة والإيمان في كل الأديان بحق الله علينا في حقيقتي الحياة والموت.

لكنها الحقيقة الأصعب والأقسى حينما تقترب من أحبائنا وتلامس أطرافهم في الدنيا، ونقف نحن عاجزون عن صنع أي فوارق، العجز المدمر للأعصاب، الشالل للفكر وحسن التصرف، لم أكن أنا تلك التي تعودت الاختباء والاحتماء بأحضانه، وأنا التي تخطيت الأربعين وهو قد تخطى السبعين، لم أكن أنا التي اعتادت منه هو الاعتناء بنا جميعاً في مواقف جلل كتلك، المواقف التي تستوجب الحكمة والتوازن والثبات والقرارات السريعة المنطقية كما تعودناها منه هو، وتعودها الأخرون منه حتى وهو في عمر الزهور، كان حكيماً بالفطرة منذ نعومة أظافره والجميع يستأنس برأيه ورؤيته وتفسيراته.

أتذكر الآن كل المشاهد ولا أكاد أصدق من هي تلك التي كانت تتحرك، وتتحدث وتتخذ القرارات الفورية بالنيابة عنه، من أنا لأفعل كل هذا في حق والدي وهو القادر الواقف على قدميه حتى آخر اللحظات!! وكيف تبدلت الأمور والأدوار في ليلة وضحاها هكذا!! هي الدنيا التي ينقلب حالها ويتبدل نور بيوتها من البريق إلى الانطفاء.

أكاد أجن من الفكرة في حد ذاتها إلى الآن، فلم يكن شخصاً عادياً أو أباً من الذين أتوا الدنيا وساروا فيها بمحض الصدفة ليكمل طريقه بالمنهج العادي الذي يتبعه ملايين الآباء في تكرار الحد الأدنى من الواجبات، القليل أو الوسط من كل شيء بالقدر الذي لا يجعل منهم مقصرين لكن أيضاً لامرئيين أو ومحسوسين لأنهم ببساطة غير مؤثرين.

بعكس عزيزي وقناعاته الشخصية المستلهمة من داخله، فكان صانعاً لقراراته مُلهِماً لكل من حوله مساعداً للجميع مرشداً وناصحاً وقاضياً لمصالح الكل، سابقاً بخطوات في الفكر والفهم والإدراك والتفسير في الرؤى المستقبلية، مردداً لقناعاته الشخصية التي فَسّرها البعض على أنها قوانين المدينة الفاضلة لأفلاطون الفيلسوف، وتهكموا عليها في كثير من الأحيان.

كان -–فقيدي الغالي- صاحب مبادئ وقيم لا يغزوها أي فكر يغاير قناعاته الحميدة، ولم تستطع مغريات الدنيا ولا شياطينها أن يجعلوا للتأثير مساراً في أو مسلكاً في عقله أو روحه، فلم يكن له زلة أو نقطة ضعف كما باقي العديدين، ولا يحيده عن الحق شيئاً حتى ولو سلك طريقه منفرداً.

وكان دائم النصح بالحسنى، طويل البال باللين والود، حليم وصبور إلى درجة قد تجعلك في بعض الأحيان تستعجب وتأن له على قدر تحمله للكثير من إساءات السفهاء عديمي القيمة، برغم رفيع مقامه وغزير علمه وثقافته في الكثير من المناحي.

لا أتحدث عن أحد الصحابى ولا المبشرين بالجنة حتى يتهمني البعض بالمبالغة أو الانحياز أو التجميل، كان فقيد قلبي هكذا بالتوصيف السليم الموزون، لا بالزيادة ولا النقصان، فليست كل معجزات الزمان انقضت بانقضاء ورحيل صانعيها من الصالحين أو الأوائل.

أقول وأردد وأتحدث بخصاله الحميدة لأطمئن نفسي وأجبر كسرها باستدعاء تلك الحقيقة، ولأؤكد أنه برغم تفشي كامل طاقات الشر في هذا العالم المهترئ، فالله يمنحنا من الصالحين الطيبين البارين من هم أشبه بمحسني، محتضني وملهمي، درة قلبي، قدوتي وقِبلَتي وبُصلَتي التي لم ولا ولن أحيد عنها، فهو من وضع بأنامله كل تفصيلاتها وغرسها ويمسك أوتارها من حيث موضعه الآن.

عِش واحيَ من حيث أتاك ربك من فضله في الدنيا، والآخرة بأمره إن شاء الله

الأعمال والسِيّر باقية يا مُحسناً إلى قلبي

على أمل اللقاء يا والدي الغالي