الأساطير من أكثر أدبيات التراث الإنساني انتشارًا واستمرارًا عبر التاريخ وأكثرها إلهامًا للشعوب والمجتمعات خاصة القديم منها، فلا نجد مجتمعًا من المجتمعات القديمة إلا ويزخر تراثه الشفهي والمكتوب بعدد وفير من الأساطير، ولعل هذا ما جعل مصطلح "أسطورة" من المصطلحات ذات الدلالات الواسعة، فكل الشعوب عرفت الأسطورة والتقت عندها الحضارات المتعددة المكان والزمان، ومن الأسطورة تسربت ألوان الأدب، فالبشرية لم تعرف أدبًا أعرق من الأسطورة لتحكي أحلامها وآمالها، وترسم دنياها المليئة بالتطلع والرغبة في المعرفة..
هكذا جاء في تقديم الباحث دكتور أيمن منصور، مدير إدارة المشروعات الخاصة مكتبة الإسكندرية، لتحقيقه كتاب "أساطير الأمم" للكاتب والمفكر السوري قدري قلعجي، حيث قدم لتحقيقه الذي راجعه وأشرف عليه د.خالد عزب، عرضًا نقديًا ودراسة لماهية الأسطورة، ومداخلها، وأنواعها، وخصائصها، وسماتها، فأشار إلى تنوع مداخل دراسة وفهم الأسطورة لغويًا، وفلسفيًا، وتاريخيًا، وطبيعيًا، ونفسيًا، إلى أن وصل إلى المدخل الأنثروبولوجي لدى علماء الأنثروبولوجيا، حيث لا نزاع على اعتبار الأسطورة في جميع أشكالها وصورها هي نتاج مجتمع ومعبرة عن هذا المجتمع وعن أشواقه وصراعاته وارتفاعاته وزلاته أيضًا.
وقسّم منصور الأساطير في الكتاب الصادر تحقيقه حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية إلى أنواع عديدة منها أساطير نشأة الكون وبداية الخلق ونهاية العالم، حيث تكاد لا تخلو حضارة من الحضارات الإنسانية إلا وقدمت أسطورة تتعلق بكيف بدأ الخلق ومتى وأين بدأت الحياة الأولى، ونجدها في الأساطير اليونانية وأساطير مصر القديمة والأساطير الإفريقية والهندية وغيرها، وأساطير الأبطال الخارقين التي تصور أبطالها كمزيج بين الإنسان والإله والذي يحاول من خلال صفاته العلوية الوصول لمصاف المعبودات وتحقيق الخير المنشود، وتتضمن كذلك أخبار بعض الملوك والكائنات العلوية والشخصيات التي تحولت إلى رموز أسطورية مقدسة داخل كل حضارة، أيضًا الأساطير التفسيرية التي حاول الإنسان أن يفسر من خلالها ظاهرة ما في حياته ولم يستطع تفسيرها بشكل منطقي، فأنشأ لها حكاية أسطورية لتشرح سر وجود هذه الظاهرة، وكذا الأساطير الرمزية، المليئة بالرموز والتي تحتاج إلى الكثير من جهد الدارسين والباحثين لتفسير تلك الرموز وفهم دلالاتها الثقافية والحضارية، ثم الأساطير الطقسية والتي يقصد بها الأساطير التي لها مظهر شعائري، وهي عبارة عن تلاوة وأداء لعدد من الحركات الطقسية بهدف التقرب للمعبودات أو لتحقيق هدف سام.
وأكد الباحث خلال عرضه النقدي لكتاب "أساطير الأمم" الصادر لقلعجي في 1941 أنه كان يجب أن يسبق كتاب قلعجي عرض سريع لثقافة المجتمعات صاحبة الأساطير الواردة بالكتاب، للتعرف على كيف نشأت هذه المجتمعات وكيف تكون عقلها الجمعي، وما هي أفكارها ومعتقداتها وبيئتها التي كانت سببًا في صياغة المكون الثقافي الكامل لكل مجتمع منها، والذي أنتج بدوره تلك القصص والأساطير والحكايات التي تجسد تلك الأفكار والمعتقدات في صياغة أدبية مرنة، ومن هنا يسقط منصور في هذا الكتاب الضوء على التعريف بعلم الأساطير لدى تاريخ وثقافات الشعوب والمجتمعات ذات الأساطير، فيرصد جزءًا مهمًا للتعريف بالأساطير اليونانية، وكيف بدأت في اليونان، ومتى ظهرت، ويُرجع الدور الأكبر في الحفاظ على هذا التراث للشاعر اليوناني أوفيد، منذ 47 قبل الميلاد وحتى 17 ميلادي، والذي عكف على جمع هذه الأساطير، وإعادة كتابتها شعرًا بلغة رقيقة وسهلة، وكأنه بعمله هذا بعث فيها الحياة، وإلى جانب الشعر مثلت البقايا الأثرية مصدرًا مهمًا لمعرفة تفاصيل تلك الأساطير، فالزخارف والرسومات التي زينت معظم القطع الفنية اليونانية هي في الحقيقة تصوير لأجزاء من تلك الأساطير.
وعن موضوعات أساطير اليونان يقول: "إنها عبارة عن تصور اليونانيين القدماء عن قصة خلق الكون ونشأته وطبيعة الحياة وعناصرها ممزوجة بأفكارهم عن المعبودات المسيطرة على هذه العناصر، حيث اعتقدوا أن العالم وقبل أن يأخذ شكله الحالي كان عبارة عن شيء كبير مضطرب لا يستطيع أحد أن يتبينه، وقد أطلقوا على هذا الشيء أو تلك المادة اسم (خيوس) وقد اعتبره اليونانيون ربهم الأول، وكانت منهم طائفة أخرى تعتقد أن هذا الهيولي شيء والإله المسيطر عليها شيء آخر وإن يكن اسمه هو الآخر (خيوس)، وفي هذا الزمان كانت الأرض والبحر والهواء والسماء مختلطة جميعها فلم تكن الأرض صلبة أو البحر سائلًا أو الهواء شفافًا، وخرج من هذه الفوضى شيء اسمه ايرابوس أي الظلام ومنه ظهر الليل، وبعد عصور طويلة كف الهيولي عن أن يكون مجرد ظلام وفوضى فقسم نفسه إلى كائنين ضخمين هما جايا أو الأم الأرض وأورانوس أو السماء المخيمة فوق الأرض، ثم تزوج أورانوس جايا وأنجبا عدة أولاد، ومن هنا تبدأ الأساطير اليونانية الكثيرة والشهيرة والتي تقص علينا قصص المعبودات والأرباب من بعد أورانوس وجايا". ويسهب الباحث في حديثه عن التعريف بالأساطير الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، والإيطالية، واليابانية، والعربية، والفرعونية.
ويعد أهم ما تناوله العرض النقدي للدكتور أيمن منصور داخل هذا الكتاب هو حديثه عن الفرق بين الأسطورة والحكاية الشعبية، فبحسبه لم ينتبه قلعجي للحدود الفاصلة بين الأسطورة والحكاية الشعبية والقصص الأدبي، لنجد أن الأعمال التي قدمها في "أساطير الأمم" ليست كلها في أصلها من الأساطير، فبعضها من القصص الأدبي مثل القصة الفرعونية الشهيرة والمعروفة بقصة "الفلاح الفصيح" وهي من علامات الأدب المصري القديم، فقدمها تحت عنوان "الفلاح المظلوم" واعتبرها أسطورة فرعونية.
وهنا يبرز منصور الفروق بين الأسطورة والحكاية الشعبية التي تتمثل في كون الأسطورة ذات تراكيب كثيف ومتداخل، أما الحكاية الشعبية فهي يسيرة التركيب وغير معقدة في التفاصيل، أيضًا الأسطورة دائمًا لها طابع مقدس فهي تروي عن المعبودات والكائنات الخارقة، أما الحكاية الشعبية فكثيرًا ما يكون أبطالها من البشر أو من الحيوانات، أو الحيوانات المتجسدة في شكل بشري، كما أن الأسطورة أو الحكاية الخرافية لا تؤخذ مأخذ الحقيقة، أما الحكاية الشعبية فتؤخذ مأخذ الحقيقة، وتعد الأسطورة نوعًا من أنواع الأدب، أما الحكاية الشعبية فهي تمتزج بالواقع الحقيقي وليس لها الطابع الأدبي، وغالبًا ما يقوم الإنسان في بنية الأسطورة بالتواصل مع قوى العالم الآخر بمحض إرادته واختياره، أما الحكاية الشعبية فتصور الإنسان خاضعًا دائمًا لقوى الطبيعة والعالم الغيبي، والأسطورة ذات طريقة تجريدية في العرض، أما الحكاية الشعبية فطريقتها تصويرية مباشرة، كذا الأسطورة تحكي عن الكائنات الخرافية دون أن تصفهم، أما الحكاية فتحاول أن تضفي على هذه الكائنات صفات بشرية فتحكي عن صفاتهم وعاداتهم ويرى البعض أن الأشكال الموجودة في الحكاية الشعبية مثل: الغول أو الساحر أو الجينات هي في الحقيقة تحولات عن الأشكال القديمة الموجودة في الأساطير.
يقول الدكتور أيمن منصور: "هناك تشابهات ومقاربات شتى بين الأسطورة والحكاية الشعبية، وكان ذلك سببًا في الخلط بين النوعين حيث يطلق أحيانًا على الأساطير حكايات أو أدبًا شعبيًا كما يطلق على الحكاية الشعبية أسطورة، ولعل هذا ما حدث مع قلعجي حيث إنه أطلق مصطلح أسطورة على جميع قصص كتابه في حين أنها في الحقيقة قد تصنف على أنها أدب أو حكايات شعبية".
وتحمل نهايات الكتاب سردًا ممتعًا لتسع قصص تاريخية تناولها قلعجي، ضمت أساطير (شاعر في الجحيم -أسطورة يونانية)، و(الحب -أسطورة فرنسية)، و(الثوب غير المنظور -أسطورة إنجليزية)، و(اللعبة والتمثال -أسطورة ألمانية)، و(الراعي الطروب -إيطالية)، و(الزنبق المضئ -أسطورة يابانية)، و(البيت المسكون -أسطورة عربية)، و(قصر الغول -أسطورة إسبانية)، و(الفلاح المظلوم -أسطورة فرعونية)، وبحسب منصور جاء بعضها أساطير، وبعضها قصص أدبية أو قصص أطفال، والبعض الأخير حكايات خرافية أطلق قلعجي عليها جميعًا أساطير، ليلحقها الباحث في هذا الكتاب بالنصوص الأصلية لأسطورتي "أورفيوس ويوريدس" اليونانية، و"الفلاح الفصيح" التي هي من روائع الأدب المصري القديم، بهدف أن يقف القارئ على الفروق الواضحة بين النص الأصلي والنص الذي أعاد صياغته قلعجي للأسطورتين، يقول: "من الملاحظ أن "قلعجي" تعامل مع هذه الأساطير والحكايات باعتبارها قصصًا أدبية، فنجد أنه أضاف إليها وحذف منها ما تراءى له ليناسب رؤيته الأدبية وحبكته القصصية الجديدة حتى أننا لنجد تغييرًا جوهريًا في البدايات أو النهايات، وحتى في مجريات أحداث الحكاية أو الأسطورة وكأنه أراد أن يقدم عملًا أدبيًا جديدًا كليًا".
ويضيف: "كما أننا نلاحظ أن قلعجي لم يتحر الدقة في نسبة بعض هذه القصص إلى ثقافاتها الأصلية، ففي أسطورة "الثواب غير المنظور" وهي القصة الثالثة بالكتاب، نسبها قلعجي إلى الثقافة الإنجليزية غير أنها في الحقيقة هي قصة أدبية دنماركية شهيرة وهي قصة "ملابس الإمبراطور الجديدة" من قصص الكاتب الدنماركي هانس كريستيان أندرسن، صاحب كتاب حكايات أندرسن للأطفال، والذي يعد أحد أهم كتب الحكايات الخيالية والخرافية للأطفال".
ولا تخلو سطور "أساطير الأمم" في ثوبه الجديد من التعريف بمسيرة قدري قلعجي ومؤلفاته وإسهاماته في الحياة الثقافية والأدبية بالمنطقة العربية، والتي ذكرت أن قلعجي ولد في مدينة حلب بسوريا في 1917، وتلقى تعليمه فيها، ثم سافر إلى لبنان في 1937، وعمل صحفيًا في مجلة المكشوف، وهي مجلة أسبوعية أنشأها الصحفي اللبناني فؤاد حبيش عام 1935، ثم انطلق وأصدر مع عدد من رفاقه التقدميين اللبنانيين مجلة الطريق وهي المجلة التي أسسها أنطوان ثابت في 1941مع كل من عمر فاخوري ويوسف يزبك ورئيف خوري، ثم تولى بعد ذلك إدارة مكتب "دار الهلال" المصرية في بيروت ومراسلة صحفها، ثم عين مديرًا للمكتب الصحفي لرئاسة الأركان السورية في عهد رئيس الجمهورية السورية أديب الشيشكلي، ثم عاد إلى بيروت وأصدر مجلة الحرية، وما لبث أن أغلقها، ثم عين مستشارًا لوزارة الإعلام الكويتية فعمل على إصدار عدد من المؤلفات عن الكويت.وفي نهاية 1960عاد قلعجي إلى بيروت وأسس دار الكاتب العربي للطباعة والنشر.
واستطاع قدري قلعجي خلال مسيرته الصحفية الطويلة أن ينتج إنتاجًا غزيرًا من المؤلفات والكتب، حيث تجاوزت مؤلفاته الثلاثين مؤلفًا ما بين كتب في التاريخ والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وكان مولعًا بالتاريخ فمن مؤلفاته (صلاح الدين الأيوبي قصة الصراع بين الشرق والغرب خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد)، و(أبو ذر الغفاري)، و(وثائق النكسة)، و(إبراهيم لنكولن)، و(ديموستين بطل أثينا)، و(سون بات سن بطل الثورة الصينية)، و(أشهر المحاكمات في التاريخ)، و(الثورة العربية الكبرى 1916 -1925).
وإلى جانب التاريخ في مؤلفات قلعجي تأتي محطة تخصيصه عددًا من كتاباته للقصص الأسطوري للنشء والشباب بلغة سهلة وبسيطة، سلك فيها مسلك الراوي أو الحكاء بغرض التثقيف وتربية الأجيال الجديدة من خلال القصص التاريخية والأسطورية، أهمها "ألف ليلة وليلة" الذي أصدره في خمسة أجزاء أعاد خلالها صياغة حكايات ألف ليلة وليلة الأصلية بطريقة منمقة ومنقحة ومهذبة تناسب القرن العشرين مصحوبة بمجموعة من الصور والرسومات الجميلة تجذب الشباب والنشء، ويعد كتاب "أساطير الأمم" ثاني أهم كتبه التي تناولت القصص الأسطوري والأقدم إصدارًا فتاريخ نشره 1941 وهو العام الذي تولى فيه قلعجي رئاسة تحرير مجلة الطريق بحسب أيمن منصور الذي قدم في هذا الكتاب دراسة وافية وعرض نقدي لكتاب "أساطير الأمم".