د. محمد أبو الفتوح,
حين يريد القدر، وتكون مشيئة الرب، لا يقف في وجه تلك الإرادة أو هذه المشيئة، شيء أو أحد، ولا حتى المستحيل ذاته.
ومن حكمة الأيام أن من جدّ وجد، ومن زرع حصد، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
هكذا يمكن أن نخرج من قصة كفاح، وعمل شاق من الجهد والبحث طوال 32 عاماً عاشها "هوارد كارتر"، الأثري الإنجليزي مكتشف مقبرة الملك "توت عنخ آمون"، وحيداً في مصر، لا يؤنس وحدته فيها سوى سعيه الدؤوب وأمله الذي لا يفتر في العثور على كشف كبير، كشف يصنع له الثروة والمجد معا.
عاش حياته يدنو من الهدف حيناً، ويبعد عنه أحيانا، ممزَّقاً بين الرجاء واليأس، وليس عليه في هذا وذاك إلَّا أن يعمل، ويعمل فقط، دون أن يلقي بنفسه في أحضان الأمل الخادع، أو يستسلم لليأس القاتل. ولا يتسلح في هذا وذاك إلَّا بإيمانه، وثقته ومثابرته. وكانت هذه الأسلحة هي طريقه إلى المجد، الذي لا يصل إليه إلَّا كل مجتهد وكل مثابر وكل صابر.
لقد ادخرت له السماء ما لم تدخره لغيره، وأهدته ما لم يكن في حسبانه، عاش وحيداً في صحراء بعيدة عن موطنه وأهله، وكان للحفر في الرمال لذة عنده لا تعادلها لذة أخرى، ظلَّ يبحث عن الماسة في أكوام التراب والحصى حتى ظفر بها فكان أول من رأى ما لم يره إنسان على امتداد ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، فكان من نصيبه أهم اكتشاف في القرن العشرين، وأعظم اكتشاف أثري مصري.
كان كشف مقبرة توت عنخ آمون هو الكشف الوحيد الذي لم يكن قبله أو بعده ما يرفعه إلى مصاف المجد. وصفه العالم الأثري الامريكي "جيمس هنري بريستد" صاحب كتاب فجر الضمير: "إن الاكتشافات الأثرية التي تمَّت في اليونان تعتبر شيئاً مبتذلاً إذا ما قارناه بتابوت توت عنخ آمون".
كان "كارت" شخصية ذكية، مثابرة، ولكنها عنيدة صلبة المراس، سهلة الإستثارة، فقد الكثير بسبب هاتين الصفتين الأخيرتين، كما اكتسب الكثير بالصفتين السابقتين لهما.
ولد هوارد كارتر في قرية "سوافهام" التابعة لمقاطعة كينسينجتون عام 1873م. لم يستطع أبوه الفقير إرساله إلى أيه مدرسة فتعلم في المنزل وعلمه أبوه فن الرسم بالألوان المائية.
كان من المتوقع أن يظل كارتر محترفاً لمهنة أبيه، وأن يظل طوال حياته كلها في قريته أو المدن المجاورة، ولو ساعده الحظ ينتقل إلى لندن، يرسم الحيوانات والمناظر، ويعيش على ما يبيعه منها للأثرياء والمهتمين بهذا اللون من الفن. غير أن القدر كان يخبئ له المجد في مكان آخر، ربما لم يكن ليخطر على باله، أو بال والده، فقد شاءت الظروف أن يعود الأثري الإنجليزي "بيرسي نيوبري Percy Newberry"، أستاذ التاريخ القديم بالجامعة المصرية والخبير بالمتحف المصري، إلى إنجلترا في أجازه، وكان في حاجة إلى من يساعده في نسخ اللوحات، التي توجد على جدران المعابد والآثار المصرية، وكان يقوم في ذلك الوقت بحفائر في منطقة بني حسن في محافظة المنيا، حيث مقابر أمراء مصر الوسطى 2000 ق.م تقريباً.
وعرض البعض عليه اسم ذلك الشاب "هوارد كارتر "، وبعد أن شاهد بعض أعماله تعاقد معه على الفور.
وهكذا دخل كارتر إلى الآثار المصرية من هذا الطريق، حيث تدرَّب على يد "نيوبري" مدة ثلاثة شهور في المتحف البريطاني في لندن ثم جاء إلى مصر عام 1890م، وعمره 17 عاماً، في بعثة أثرية يمولها صندوق استكشاف آثار مصر التابع للمتحف البريطاني في لندن.