بدأت الدعوة إلى علمنة مصر مُبكراً، وقبل المشروع الأتاتوركي الكبير في تركيا؛ إذ شهدت مصر ولادة أول حزب علماني في عام ١٩١٣، تحت مسمى الحزب العلماني المصري، الذي سرعان ما بدّل اسمه إلى اسم (حزب الوفد)، إلا أن علمنة الدولة المصرية لم تكن شبه واضحة إلا بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، لكنها كانت حينها علمانية على استحياء تحمل شعارات المدنية، وبقى الصراع العلماني الإسلامي يخبو ويلمع، باقتراب نظام الحكم المصري من التيار الإسلامي أو الابتعاد عنه.
ومن العجيب أن ولادة العلمانية- الدولة المدنية كمسمى أخف وطأة-، ولادتها عربيًا جاءت على يد أشهر دعاتها من علماء وخريجي الأزهر؛ ولعل أبرزهم الشيخ (علي عبد الرازق)، من خلال كتابه الشهير "الإسلام وأصول الحكم" الصادر عام ١٩٢٥، بعد أن أخذت الدعوات تتعالى مطالبة بعودة الخلافة ولو عربيًا؟؛ ويُعدُّ الكتاب أولَ دراسة شرعية تؤسِّس للفكرة العَلمانية داخل الوسط الإسلامي، وتقوم فكرته الرئيسية على تفسير الإسلام بما يتفق مع التطور المعاصر لشكل الدولة.
وأما ثاني دعاة العلمانية؛ فهو الدكتور (طه حسين) خريج الأزهر، وظهرت دعوته في كتابه "في الشعر الجاهلي" الصادر سنة ١٩٢٦، حيث دعا فيه إلى إنهاء هيمنة رجال الدين على البحث العلمي والإبداع الأدبي، ليكون ذلك مدخلًا لعلمانية الدولة.
واتّهم التيارُ الإسلامي طه حسين بأن كتابه ليس إلا سرقة من كتاب المستشرق "مرجليوث" الذي نشر بحثًا بعنوان (نشأة الشعر الجاهلي)، أي أن الكتاب ترجمة لأفكار "مرجليوث"، ثم تبيّن بعد قرابة المائة عام، براءة د/ طه حسين من هذا الاتهام.
وأما ثالث دعاة العلمانية من الأزهريين، فكان الشيخ (خالد محمد خالد)، من خلال كتابه "من هنا نبدأ" الصادر عام ١٩٥٠، ودعا فيه إلى فصل الدين عن الدولة، فتسبب بطرده من جماعة الإخوان المسلمين، ومنع الأزهر تداول الكتاب، الذي أعلن فيه انقلابه على المفاهيم الدينية الحاكمة للدولة، ودعا إلى مدنية الدولة وإقامة تشريعاتها على أساس علماني خادم لمصلحة المجتمع، لا على مرجعية دينية.
وفي مطلع هذا القرن، انتشر شعار ( العلمانية هي الحل)، وتم تداوله بلا خوف في مقالات صحفية، بعد فشل الإسلام السياسي في الربيع العربي، والمآل المُخزي له بسبب الأسلمة، فكان أشبه بشعار الضد لشعار "الإسلام هو الحل"، بعد انفضاض كثير من الناس عن الإسلام السياسي نتيجة أسلمة الربيع العربي.
وهنا لا بد من الإشارة أن العلمانية التي تم تصديرها للعالم العربي؛ إنما هي علمانية خبيثة ومزيفة، ومع انتشارها طغت وطمست مفاهيم العلمانية الصحيحة.
ساهم في رواج ذلك النوع الخبيث من العلمانية بعض الحُكّام العرب؛ فالحُكام قدّموا أنفسهم إلى العالم على أنهم علمانيون، ولم يطبّقوا أبسط مبادئ العلمانية المتمثلة بالحياد؛ فغالبيتهم كانوا مستبدين حقيقيين، وكان العطاء في أنظمتهم على الولاء، لا على الكفاءة.
وأما ثاني عنصر تسبب في تشويه مفهوم العلمانية فهو نُخبتها، فقد استغلّوا العلمانية قبل الربيع العربي أيام موجة اليسار، وقدّموها دينًا ضدّ دين مجتمعاتهم، وكلاهما أساء إلى جوهر العلمانية، وساهم في إشاعة العلمانية المؤدلجة؛ لفرض نمط مُحدد على المجتمع، لجعله مجتمعًا أُحاديَّ الأيديولوجية، المادة فيه تغلب العلاقات الإنسانية، والوسيلة لا تخضع لشرع أو قانون أخلاقي؛ وهو ما ساهم في لفظ المصطلح واستنكاره.
لم تُقدَم العلمانية بصورتها الصحيحة من قِبل مُعتنقيها بل فرضت سطوتها كدين ضد الدين الذي يؤمن به ويمارس شعائره أبناءُ المجتمعات، وهذا خطأ استراتيجي وقعوا فيه، خصوصًا أننا مجتمعات متدينة بالفطرة، وقد التقط هذه الخطيئة دعاةُ الإسلام السياسي، ليُظهروا قبح العلمانية؛ فنَفَّروا المتدينين ومن قبلهم العامة منها ومن دُعاتها.
العلمانية ليست سُبْة، وتقوم على احترام الدين والتديّن، وتضمن لأتباع كل دين ممارسة شعائرهم بكل طمأنينة، وتقف موقفًا محايدًا من الجميع، فلا تتبنى دينًا على حساب آخر.
وأما شبهة أنها تدعو إلى الإلحاد، فالعلمانية لا تعني الإلحاد، إنما تعني الحياد؛ قد يكون هناك علماني ملحد، ولكن ليس كلُّ العلمانيين ملحدين، بل إن من العلمانيين مَنْ يمارس التدين وشعائره، لكنه يرى في ترسيم الحدود بوضوح، بين الدين والدولة سبيلًا لنهضة مجتمع متعدد المكونات، ولا يضيره ذلك، ما دام يؤمن بحرية الرأي والتعبير، ويحترم عقائد الآخرين؛ فالحرية مبدأ إنساني دعا إليه القرآن الكريم منذ ١٤٠٠ عام، موجهًا نحو احترام حق الإنسان بالحرية والاختيار، حتى وإن كان كافرًا بالخالق، وكلّ سلوك يقوم على إكراه الآخر ليس من الدين؛ (لا إكراه في الدين قد تبين الرُشد من الغيِ).
الخلاصة، يا أرباب العلمانية دَققوا في مفهوم العلمانية الصحيح، تجردوا من مرض الغرضْ قبل أن تتشدقوا بشعاراتها وتَسهموا في تحول المُصطلح لرجزٍ من عمل الشيطان، ويا دعاة الدين؛ قولوا قولاً سديداً، ولا ترهبوا الأفراد من الفكرة والتطبيق لخدمة قداستكم التي تقتاتون عليها منذ قديم الأزل.