الفلسفة والدين.. رؤية فلسفية للمعتقدات الدينية القديمة (1 – 3)
إن القارئ للتاريخ أو الفلسفة على حد سواء يجد أن الدين والفلسفة كثيرًا ما كانا شريكين أو خصمين سواء في عصر اليونان أو زمن الرومان، كما أن تعارضهما سمة مهمة جدًا في تاريخ الفلسفة، فمجرد زعم أو ادعاء أن الفلسفة كانت تزدري (تستخف) الدين، إذ الواقع أن الفلسفة لم تهمل الدين إلا في الظاهر فحسب. ففي التاريخ لم يحدث أبدًا أن ترك الواحد منهما الآخر دون أن يمسه.
ولهذا سنجد، أن العلاقة بين الفلسفة والدين اتخذت أشكالاً متعددة، في المراحل التاريخية المختلفة، حسب رؤية علماء الدين للفلسفة وحسب رؤية الفلاسفة للدين، وقدم الفلاسفة في هذه الإطار تصورات فلسفية متنوعة للعلاقة بين الدين والفلسفة. ومن هذا المنطق، يجدر بنا بيان الفكر الديني عبر مختلف العصور ابتداءً من الفكر الهندي – وهو موضوع مقالنا الآن – مرورًا بالعصر اليوناني وانتهاءً بالعصر الوسيط المسيحي والإسلامي.
عزيزي القارئ للفلسفة الهندية تاريخ طويل، والشذرات التأملية الأولى التي يمكن أن توصف بأنها "فلسفية" تنتمي إلى الريج فيدا، التي ربما تم تأليفها في وقت مبكر يعود إلى 1500 ق.م، ومنذ تلك البدايات التي أضفي عليها مرور الزمن هالة من الغموض والالتباس، أحرزت الهند ثورة هائلة من الرؤي والتأملات والمناقشات الفلسفية.
كما أن الديانة الهندية تعطي لنا صورة واضحة لملامح الهند وتصور بدقة جذور عقائدها. فإن كثيرًا من الأدوات الحضارية، وإن كانت في بعض الأحيان غير واضحة، تفسر الحضارة الهندية العريقة تفسيرًا جليًا. وهنالك تماثيل للآلهة تعبر عن تقديم الناس النذور إليها، وكذلك نجد من بين الآلهة عندهم كثيرًا من الحيوانات، وقد نال الثور مكانة بارزة بين تلك الآلهة شأنه شأن أرض الرافدين وسوريا ومصر.
وبالرغم من تعدد صور الألوهية في الهند بتعدد ديانتها، والتي يعود بعضها إلى الألف الرابعة قبل الميلاد. ولعل أقدم النصوص التأليهية الهندية هو كتب "الفيدا المقدسة"، وخاصة كتاب "الريج فيدا" الذي يُعد أقدم كتاب مقدم عرفه العالم كما أجمع على ذلك الكثير من مؤرخي الأديان.
وحتى بعد أن تحولت الهند من التراث الفيدي إلى التراث الهندوسي نسبة إلى الهندوسية وهي الديانة الرئيسية في الهند، ظل الهنود يؤمنون بأهمية وقداسة التراث الفيدي، إذ أن كل هندوسي يوليه قدره من الإجلال، ولا ينسب صفة الهرطقة إلا أولئك الذين ينكرونه صراحة من أتباع الجينية أو البوذية أو السيخ، فهم وحدهم الذين ينظر إليهم على أنهم هراطقة.
إلا أن الهندوسية موضوع واسع ومفهوم محير. ولكي نصف دينًا بلغ تاريخه ما يقرب من ثلاث آلاف سنة (وربما أكثر من ذلك) وتعتنقه اليوم مئات الملايين، وهو فضلاً عن ذلك دين بلا عقيدة محددة، أو جماعة من الأتباع تختص به، أو هيئة مركزية ذات ترتيب هرمي، فلكي نصف دينًا علي هذا النحو، فإننا نقوم بمحاولة لا تختلف عن محاولة الكفيف أن يصف فيلاً؛ بل إن محاولة تعريفه ذاتها مشكلة عسيرة.
إن بدايات الفلسفة الهندية تكمن في التأملات المسجلة في نصوص الفيدا، وهي نصوص الحكمة التي تعود في اجزائها الأقدم إلى المرحلة التي تبدأ بعام 1500 ق.م. وقد شكلت هذه النصوص مصدر إلهام للفلاسفة الهنود على امتداد العصور، واستمرت كتابة الشروح على متونها حتى العصر الحالي. وأقدم نص هو نص – كما سبق وذكرنا –"الريج فيدا" الذي يعني "أشعار الحكمة"، ويُعد المصدر الأدبي الأكثر اهمية في الديانة والثقافة الهندية، وقد ألحقت بنصوص الفيدا كأجزاء ختامية لها مجموعة من النصوص، تعرف بـــ "الأوبانيشاد"، وهذه النصوص التي جري تأليفها فيما بين 800 ق.م و500ق.م.
وقد صنف ولتر ستيس لاهوت "الأوبانيشاد" في الفكر الهندي بأنه أول من قدم مذهب الألوهية السلبية. فهي تعني الاعتقاد بأن الله غير قابل للوصف، ذلك لأن الخبرة الدينية به إن لم تكن عن طريق التصوف الإشراق الصوفي، فإن الإنسان يعجز عن وصف الإله وذلك لأن وصفه يعني تحطيم الطابع الفريد والمميز فيه. وإذا كانت "الأوبانيشاد" قد قالت على لسان مؤلفيها: إن براهمان (الله في لاهوت الأوبانيشاد) غير قابل للفهم، فإن أحدًا لا يستيطع أن يدره او يحيط به فإن القديس "اثناسيوس" في المسيحية يتفق في عقيدته الدينية مع "الأوبانيشاد" حينما يقول: "إن الآب (الله) يقبل الفهم، والابن لا يقبل الفهم، والروح القدس لا يقبل الفهم، ولكن ليس هناك ثلاثة أشياء لا تقبل الفهم، بل شيء واحد فقط لا يقبل الفهم".
علاوة على ذلك فإن نصوص الفيدا هي أشعار حكمة، فهي تمكن الخلق جميعًا من المشاركة في حكمة الواقع الإلهي وطاقته. ولهذا فمعظم الأشعار الفيدية موجهة إلى الآلهة والإلهات، ولها وظيفة مركزية في تأدية الطقوس، ولكن ذلك لا يعني أنها مجرد ترانيم للعبادة، أو تراتيل للطقوس، بل إن الآلهة الذين تتم مخاطبتهم في هذه الأشعار ليسوا موجودات ذات سمات بشرية، بل هي رموز للقوي الأساسية للوجد. وعلي سبيل المثال، آجني Agni، هو أحد الآله الفيدية الرئيسية، وهو إله النار، وكلمة "آجني" تعني النار، والإله آجني رمز لقوة النار الرهيبة، وعندما تخرج ألسنة اللهب المندلعة عن نطاق السيطرة، فإنها تدمر المنازل، والغابات وتقتل البشر والحيوانات.
ورغم تعدد الآلهة في الديانة الهندوسية، إلا أن البراهمانية قد تطورت، واتجهت إلى عبادة إله أحد من بين عدة آلهة على أنه الإله الأعظم، هو البراهما واسم البراهما، مشتق من جذر تدور دلالته حول النمو أو النشاط أو الطاقة والقوة الإلهية. ثم أصبحت تدور مؤخرًا على الروح وعلى أساس الكون او العالم. وللكملة كمصطلح ديني عدة معان في الهندوسية فهي تشير أولاً إلي الإله الشخصي براهما في التعاليم الهندية المتأخرة، وتشير ثانيًا إلي البراهمانيين، وهم طبقة الكهنة الذين يكونون الطبقة الأولي من نظم الطبقات الديني الهندي، وتشير ثالثًا إلي مفهوم البراهما الذي يقصد به روح العالم أو الكون وهو قوة اولية وغير مشخصة محايدة في جنسها، وهي متحركة ومعينة للجميع، وهو الحقيقة والضمير واللانهائية أو الأزلية، وهو المبدأ الأول غير القابل للوصف وغير مادي ويوصف بالسلب وليس بالإثبات، وهو الآلهة جميعًا بل هو يحتوي الإنسان أيضًا فالكل براهما وبراهما هو الكل.
وفي نشيد من اناشيد "أوبانيشا مونداكا" يوصف الإله بأنه "الذي لا يري ولا يوضع في اليد، وهو بدون عائلة وبدون قبيلة، بدون نظر أو سمع، بدون يد أو قدم، هو أبدي موجود في كل مكان، ماض في كل زمان، كثير الذكاء؛ ذلك هو الذي لا يغني، الذي يدركه الحكيم ويعلم أنه أصل الموجودات". والسؤال الآن، هل وقفت البراهمانية الهندوسية عند هذا الحد، أم طرأ عليها التطور؟
المعروف أنه قد انبثقت عن البراهمانية الهندوسية ديانتان هما البوذية والچينية. أما البوذية فهي نسبة إلى جوتاما بوذا (563 – 483 ق.م)، ورغم أنها تمثل حركة إصلاح ديني وفلسفي في الهندوسية، إلا أنها ركزت علي اعتماد طريق الخلاص لا يستند إيمان واضح بالألوهية، بل على الإيمان بضرورة الخلاص من خلال اجتياز الطريق ذي الشعب الثمانية. فالطريق النبيل ذو الشعاب الثماني يمكن تمثيله على النحو التالي:
1- سلامة الرأي (ساماديثي Samma Dithi).
2- سلامة النية (ساما سنكابا Samma San kappa) الحكمة.
3- سلامة القول (ساما فكا Samma Vaca).
4- سلامة الفعل (ساما كامنتا Kammanta Samma) السلوك.
5- سلامة العيش (ساما أجيفا Samma Ajiva).
6- سلامة الجهد (ساما فاياما Samma Vayama) الانضباط الذهني.
7- سلامة الوعي أو الانتباه العقلي (ساما ساتي Samma Sati).
8- سلامة التركيز (ساما سماذي Samma Samudhi).
ولهذا نجد أن الطريق الأوسط، الذي يُلخص طريقة الحياة التي تميز البوذية كفلسفة عملية، يقوم على هذه المبادئ الثمانية.
أما الچينية ومؤسسها "مهافيرا" الذي عاش في الهند حوالي منتصف القرن السادس قبل الميلاد الذي يعتبر معاصرًا لبوذا، فهي نسبت إلى الجيناس؛ أي "المنتصرون"، وهم الأبطال القديسون الذين يرشدون الناس إلى طريق الخلاص.
ولقد ظهرت هذه الديانة كرد فعل عنيف ضد عقيدة التناسخ الكهنوتية. فثار الزعيم الديني على العقيدة الكهنوتية التي أثبتت اتصال الروح بالجسد على الدوام، ودوران انتقالها وفق مفروضات قررها لصالحهم وتحقيق مآربهم.
أضف إلى ذلك عزيزي القارئ كان لهذه الديانة عدة قيم اشتهرت بها، هي على النحو التالي:
1- قد فرضت رياضيات وتدريبات جسمانية وروحية قاسية صارمة على اتباعها وأنصارها لعلو الروح لتأخذ مكانتها الطبيعية، وتسيطر على الرغبات والعواطف والشهوات.
2- الغت جميع القوانين، بل منعت أكل اللحوم لجميع الحيوانات وذلك اشفاقاً على الحيوانات ورحمة بها.
3- حرمت جميع أنواع المنكرات والفواحش مثل الكذب والسرقة والزنا، بل فضلت التجرد على الحياة الزوجية للتخلي عن جميع الفواحش.
4- ومن لم يرض بحياة القدسين والرهبان في هذه الديانة سمح له بممارسة الحياة الزوجية فقط، واما الأمور الأخرى فلم يستثن منها أحد.
5- خفضت الأدوات والاحتياجات التي يتطلبها الإنسان في الحياة اليومية إلي أدنى مستوى.
ونتيجة لهذه التعاليم والقيم والقيود الصارمة تطورت هذه الديانة وسارت في اتجاه معين، ولكن بمرور الأيام قد انخفضت الحماسة لهذه الديانة، وأصبح أنصارها معدودين.
وفي الختام، نجد أن الأديان الهندية تروي لنا قصة الوحدة والاستمرار، كما أن التنوع المدهش في الديانات الهندية يعود إلى اندماج عدد من الديانات المختلفة المتباينة في الأفكار الدينية الهندوسية. فقد درج القدامى على عبادة قوي الطبيعة وصورها في أساطيرهم وترانيمهم. والسؤال الذي يلح علينا الآن، هل توحدت الرؤى الدينية بين الفكر الهندي والفكر اليوناني أم اختلفت وطرأ عليها التحول والتطور؟ ستكون اجابتنا عن هذا التساؤل هو موضوع مقالنا القادم.