أربع وأربعون دورة هي عمر مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، منذ أن تكونت فكرته في رأس الراحل الكبير كمال الملاخ عام 1976 وظهرت الفكرة للنور في نفس العام وكان هذا مولد المهرجان السينمائي الأول في المنطقة العربية.
وتمر سبع سنوات ليتولى المسؤولية خلالها المخرج الكبير كمال الشيخ ثم تتغير قيادة المهرجان وتصل إلى الكاتب الكبير الراحل سعد الدين وهبة والذي كان آنذاك رئيسا لاتحاد الفنانين العرب، ولم يكن سعد وهبة ممن يكتفون بالإدارة بدون تطويرها فأعلى من سقف طموحه وقرر أن يصارع من أجل الحصول على ما كان يسمى بالشرعية الدولية، وأهمية هذه الشرعية تأتي من تبعية المهرجان للاتحاد الدولي للمنتجين والذي يختار 12 مهرجانا فقط على مستوى العالم كله ليمنحهم شرعية دولية تجعل جوائزهم معترفاً بها.
وبالفعل حصل مهرجان القاهرة على شرعيته وأصبح ينفذ لوائح الاتحاد الدولي بحذافيرها فالخروج على أي بند يعرض المهرجان إلى سحب شرعيته ودخول مهرجان آخر من نفس المنطقة بدلا منه وفي ذلك الوقت كان مهرجان تل أبيب السينمائي هو الأول في قائمة الانتظار.
وعلى مدى سنوات كثيرة حتى وفاة الراحل الكبير عام ١٩٩٧ شهد مهرجان القاهرة نجاحات كبيرة وواجه أيضا مشاكل ومعوقات كثيرة لعل أهمها كان تكلفة شحن الأفلام ال ٣٥ مللي حيث لم يكن الديجيتال قد تم اكتشافه بعد وكانت المحافظة على نسخ الأفلام مهمة شديدة الصعوبة، وخلال ما يقرب من عشر دورات متتالية استضافت مصر ٥٤ نجما ونجمة عالميين في كل مجالات السينما.
على سبيل المثال شاهدنا صوفيا لورين، كلوديا كاردينالي، صوفي مورسو، ليف اولمان، اورنيلا موتي، نيكولاس كيدج، الآن ديلون، مورجان فريمان، اناستاسيا كينيسكى، جون مالكوفيتش، ريتشارد جير، اميتاب باتشان، جون مالكوفيتش، ومخرجون أمثال كيروساوا، كارلوس ساورا، انطونيوني، فيللينى، أوليفر ستون، وغيرهم وكان هناك دائما مواقف طريفة تقع من بعض النجوم أذكر منها ما رواه لنا سعد وهبة أثناء استقباله للمخرج الكبير في مطار القاهرة والذي جاء لعرض فيلمه natural born killers عرضا أول في ختام المهرجان وكانت مصر وقتها تتعرض لبعض الهجمات الإرهابية فسأل ستون رئيس المهرجان بعفوية شديدة أين الإرهابيون الذين يقتلون الناس في الشوارع؟ فضحك سعد وقال له سوف ترى الشوارع بنفسك الآن وتتأكد أن ما يقال هو محض افتراء يصوره إعلام الغرب ضد مصر وما حدث هي هجمات متفرقة لا تمثل تيارا سائدا أو أسلوب حياة.
وهنا نبهنا سعد الدين وهبة أثناء مؤتمر صحفي إلى أهمية المهرجان الذي ينقل صورة مصر الحقيقية إلى العالم بعيدا عن محاولات التشويه الإعلامي التي تتعرض لها.
وجدير بالذكر أن فيلم ستون الذي عرض هنا تم منعه في دول أوروبا لأنه يدعو إلى العنف بل وسبب بالفعل موجات عنف بين شباب فرنسا وإنجلترا.
الموقف الثاني الذي لا ينسي كان حضور النجم الهندي الكبير أميتاب باتشان والذي كان معبود الجماهير في مصر فقد ازدحمت أبواب وأروقة الفندق الذي يقيم فيه بالعشرات من المعجبين والمعجبات أملا في أن يشاهدوه حتى من بعيد واستطاعت إحدى الفتيات أن تخترق الصفوف في مؤتمره الصحفي وترتمي مغشيا عليها تحت أقدامه وعندما أفاقت طلبت أن تجلس معه ربع ساعة فقط فاستقبلها بالفعل في السويت الذي كان يقيم فيه وذكريات كثيرة مرت لن يستوعبها مقال واحد .
لافتة كامل العدد
كانت دور العرض السينمائي تتسابق لعرض أفلام المهرجان ويتسابق الجمهور أيضا لمشاهدتها ودائما نرى لافتة كامل العدد على أبواب دور العرض وإلى جوارها لافتة أخرى مكتوب عليها ممنوع دخول السيدات، وأثارت هذه اللافتة فضولنا نحن الصحفيات فذهبنا إلى دار عرض ميامي بوسط البلد لمشاهدة فيلم فرنسي فبالفعل منعنا مدير السينما وقال لنا "دي أفلام ما فيش عليها رقابة وأنا مش مسؤول عن اللي ح يجرى لكم،" فضحكنا بشدة ورددنا عليه "ماتخافش ده فيلم قصة مش مناظر".. هكذا دخلنا وشاهدنا الفيلم بدون وقوع أي خسائر.
من حسين فهمي إلى حسين فهمي
بعد وفاة سعد الدين وهبة توالى الرؤساء على إدارة المهرجان وبدأ النجم حسين فهمي الطريق لمدة ٤ سنوات ثم أعقبه شريف الشوباشي ثم د. عزت أبو عوف ثم الناقد سمير فريد ثم ماجدة واصف وحتى عام ٢٠١٢ بعد ثورة يناير كان الدينامو المحرك لكل هذه السنوات المرأة الحديدية سهير عبد القادر التي كانت تدرك تماما قيمة المهرجان وأهميته.
وأخيرا تولي الرئاسة المنتج والموزع السينمائي محمد حفظي وتعود الدفة من جديد إلى حسين فهمي ولكن بعد متغيرات كثيرة طرأت على المهرجان فقد اختفت أفلام ال ٣٥ مللي وحل محلها الديجيتال وهو الذي سهل كثيرا سرعة انتقال الفيلم من موطنه الأصلي إلى مصر، وبدأ الشباب يتولون معظم المسؤوليات الكبرى داخل المهرجان مثل مدير المهرجان والمدير الفني والمسؤولين عن المركز الصحفي وعن قنوات ومواقع الفيديو والتليفزيون وأصبح حماس هؤلاء الشباب هو الذي يدفع المهرجان نحو الأمام، وشك أو جدال في أن السينما في حد ذاتها فن شاب وأكثر متابعيها على مستوى العالم من الشباب.
ولم يكن النجم حسين فهمي أقل شبابا منهم بل كنا نراه في كل مكان يتابع بنفسه الفعاليات اليومية ولا يعتمد على تقارير المعاونين له خاصة وأنه في هذه المرة يواجه ميديا مختلفة تماما تواكب الحدث لحظة بلحظة، وتنضم المنصات الإلكترونية وهي الوليد الأحدث في مجال الإنتاج والعرض إلى وسائط الإنتاج السابقة واستطاع النجم الكبير أن يستوعب هذه المتغيرات بسرعة ويتعامل معها على أكمل وجه .
وعندما استعان حسين فهمي بالمخرج أمير مسيس والناقد أندرو محسن لمنصبي المدير العام والمدير الفني تعالت الهمسات تقول حسين فهمي يريد عمل مهرجان الجونة على أرض القاهرة ولكن هذه الهمسات أخطأ أصحابها خطئا كبيرا فالفارق كبير جدا بين مهرجان بقيمة القطاع الخاص ومهرجان يقام نحت مظلة الدولة ممثلة في وزارة الثقافة في المقام الأول، فالأول يهتم بالبروباجندا التي يصنعها النجوم والنجمات سواء المصريون أو العالميون إلى جانب الأفلام أي أنه يحسن التعامل مع الشقين التجاري والسياحي بينما يضع مهرجان القاهرة شقا ثالثا لا يقل أهمية عن الاثنين وهو الشق الثقافي وليس معنى هذا أن مهرجان الجونة لم يكن به ثقافة سينمائية بالعكس لقد اهتم بها ولكن طغيان حضور النجوم كان له السيطرة الأكبر.
وبرغم وقوع بعض المشاكل الجانبية داخل إدارة المهرجان هذا العام وهو الأمر الطبيعي جدا في أي حدث كبير مثل هذا إلا أن النجاح كان ظاهرا وواضحا والبعض اتهم إدارة المهرجان بالدكتاتورية المطلقة وهذا أيضا أمر طبيعي فعندما يتصدى أي شخص لمسؤولية إدارة عمل كبير لأول مرة يجب أن يمسك بالخيوط كلها في يده حتى يتعلم أولا تفاصيل سير العمل وحتى لا يفلت منه ثانيا خيط يهدم كل ما بذل من جهد في بناء الدورة الجديدة، ربما زاد الأمر عن حده بعض الشيء ولكنه لم يخل بالمنظومة ككل .
هذه بعض ملامح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي منذ بدايته وحتى الآن ولنا لقاء آخر نتناول خلاله الدورة الـ 44 بتفصيل أكثر.