د.حسين مجيب المصري .. مئوية عالم أكرمنا فظلمناه
حوار: مصطفى أبوعايد
مرت علينا منذ أيام الذكرى المئة على ميلاد العالم الجليل د.حسين مجيب المصري، وذكرى وفاته التي كانت يوم السبت الحادي عشر من ديسمبر عام 2004، وسط صمت وتجاهل تام من وسائل الإعلام المصرية في حين ذكرته بعض الصحف المغربية وغيرها في دول العالم الإسلامي، فكان للهلال هذا الحوار مع اثنين من أقرب الناس إليه، وهما نجله شريف المصري، وتلميذه صلاح رشيد.
*بداية نريد أن نتعرف إلى أى أسرة كان ينتمي د. حسين المصري؟
شريف المصرى : ولد الدكتور حسين مجيب المصري عام 1916 م لأسرة كبيرة وعائلة أرستقراطية، فأمه فاطمة هانم ابنة محمد ثاقب باشا الذي كان وزيرا للري والأشغال في عهد الخديوإسماعيل، وقد ولد في قصر جده هذا، ووالده هو العالم الجليل علي حسني المصري ناظر مدرسة دار العلوم في أوائل عهدها.
* بذور النشأة الثقافية كيف كانت ؟
شريف المصرى : ساعدته البيئة التي ولد فيها على تنمية مواهبه وقدراته فكانت له مربية نمساوية تعلمه الفرنسية، فجرت على لسانه لثغات حلوة بالعربية والفرنسية،وكان الفتى يستمع إلى أحاديث أساتذته في المدرسة عن فضل أبيه عليهم في إتقان اللغة العربية، وكثيرا ما أثنى الأساتذة على التلميذ، ويقولون له: "يا مصري ستكون أديبا عظيما"، وكان متفوقا على أقرانه في اللغة العربية والإنجليزية . وحينما بلغ من العمر ١٣ عاما تعلق بحلاق لبناني كان يجاور القصر يحب الشعر حبا جما، وينشد الشعر القديم والحديث ويلحن قصائد الشعر، وفي بيته الكثير من الدواوين النادرة، فعرف منه أسماء الشعراء الجاهليين والإسلاميين والمحدثين وأسماء أمهات الكتب في الأدب العربي والكتب الحديثة، فقرأ لجبران خليل جبران،، ومي زيادة ومصطفى صادق الرافعي، وحفظ كثيرا من الشعر، وبذلك أدركته حرفة الأدب . وحين التحق بالثانوية العامة نظم شعرا بالفرنسية، كما كانت له عدة محاولات في ترجمة الشعر الإنجليزي إلى العربية، فتعرف في وقت باكر على أصول الترجمة، وكان أول ما نظمه من شعر في اللغة العربية في وفاة ابنة عمه في ريعان شبابها بعنوان "الوردة الذابلة، فتخيلها حبيبته استودعها الثرى،ونشرت القصيدة في صحيفة "المدرسة السعيدية" التي انتظم بالدراسة فيها عام 1932م.
*كيف كانت بداية الرحلة صوب الآداب الشرقية؟
صلاح رشيد : بعدما التحق بكلية الآداب جامعة فؤاد «القاهرة الآن» وأظهر فيها ذكاء خارقًا، نال به استحسان أساتذته،وكان دائمًا الأول على زملائه،وبعد أن أكمل دراسته الجامعية بتفوق ملحوظ عام 1939م، أراد السفر إلى مدينة «بازل» السويسرية في بعثة جامعية لنيل الدكتوراه، لكن قيام الحرب العالمية الثانية آنذاك حال بينه وتحقيق حلمه فالتحق بمعهد الدراسات الشرقية بالقاهرة وحصل على شهادته عام 1942م،وإبان ذلك اشتغل بتدريس الأدب التركي والفارسي والأدب الإسلامي المقارن في جامعة القاهرة، ومعهد الدراسات العربية وعمل بالصحافة في بعض الصحف المصرية حتى عام ۱٩٥۲م، وفي هذا الحين سافر إلى تركياوحصل منها على الدكتوراه بامتياز عن «فضولي البغدادي» أمير الشعر التركي القديم عام ١٩٥٥، وأثناء إعداده لرسالة الدكتوراه أصيب بانفصال شبكي– واستمرت رحلة العلاج طويلا وانتهت بفقد بصره قبل وفاته بنحو عشرين عاما تقريبا- ورغم ذلك زاد إصراره وحصل على الدكتوراه، وكان أول عربي يحمل الدكتوراه في الأدب التركي وأول من عرف القارئ العربي بتراث الترك الأدبي، وأخرج العديد من الكتب في ذلك، وترجم الشعر التركي إلى شعر عربي على نفس الوزن والقافية، وكذلك الحال لآداب الشعوب الشرقية.
وقد تعلم الإنجليزية والفرنسية في المدرسة الثانوية وفي الجامعة تعلم الفارسية والتركية والألمانية وفي معهد اللغات الشرقية أتقن الأوردية والإيطالية والروسية وكان يترجم من هذه اللغات إلى العربية.
*كيف كانت النظرة للتراث الإسلامي، وما مدى مساهمة تلك اللغات التي تعلمها في خدمة مشروعه الثقافي؟
صلاح رشيد : درس الدكتور المصري ـ رحمه الله ـ هذه اللغات بهدف التعرف على المصادر الخاصة بالتاريخ الإسلامي في هذه الآداب، وكان يترجم وهو طالب لزملائه وأساتذته من هذه اللغات، مما ساعده على الاطلاع على التراث الإسلامي للشعوب الشرقية، فقد كان يرى أن هذا التراث لا يقتصر على الشعوب العربية فقط، ولكن يجب الاطلاع على التراث الإسلامي لهذه الشعوب؛ لأنه جزء من الحضارة الإسلامية وتاريخها، كما ساعدته هذه اللغات على عقد المقارنات بين آداب الشعوب الإسلامية، وبذلككان أول من اشتغل بالأدب الشرقي، وأول من اشتغل بالأدب الإسلامي المقارن، وكان يقول :
"عقد المقارنات له أهمية خاصة لا يستطيعها إلا من ملك ناصية كل هذه اللغات، وهي أفضل ما يكون في إبراز حقائق الآداب التي تعقد بينها المقارنات، فنحن إذا عقدنا المقارنة بين فنون الشعر التركي والغربي فإنما نعقد المقارنة بين شعبين، ومن هنا كان لابد من استغلال إلمامي بثماني لغات لعقد المقارنات بين آداب هذه الشعوب، وتبين لي من خلالها أن تراثنا الإسلامي ليس في العربية وحدها، بل في لغات الشعوب الإسلامية الأخرى التي تعتبر كنوزا متخفية آن لها أن ترى النور؛ بل يمكن أن أقول إن من يعتمد على دراسة التراث الإسلامي عند العرب وحدهم فإنها تكون دراسة مبتورة ولابد من استكمالها بالنظر في آداب الشعوب الإسلامية الأخرى".
*بمناسبة التكريم، ما سر عدم اعتماده عضوا بالمجمع اللغوي رغم أنه كان خبيرا بالمجمع قرابة 27 عاما قدم فيها الكثير؟
صلاح رشيد : هذه حقيقة مؤسفة فعلا خاصة إذا عرفنا أن للدكتور المصري العديد والعديد من الإسهامات التي قلما يجود بها غيره، ويكفي أن نذكر أنهأثرى المكتبة اللغوية بخمسة معاجم لغوية في لغات مختلفة، هي: «معجم الدولة العثمانية»، و«المعجم الفارسي العربي الجامع»، «أثر المعجم العربي في لغات الشعوب الإسلامية»، و«المعجم الجامع» (أوردو - عربي) بالاشتراك، و«معجم السلطان قابوس للأسماء العربية» مع آخرين، وكانت حجة عدم اعتماده عضوا بالمجمع أنه ضرير، مما يمثل عائقا له في عمله المجمعي.
* طه حسين كان ضريرا، ومع ذلك كان عضوا بالمجمع .
صلاح رشيد : إنها الشللية بالطبع التي تكتنف الحياة الثقافية، فكل يأتي بمن أقرب إليه دون اعتبار للقامة العلمية، وعندك مثلا وديع فلسطين، لم يتم اختياره عضوا بالمجمع، رغم عضويته بأكثر من مجمع لغوي بالدول العربية الأخرى، وكذلك د. الطاهر مكي لم ينل حقه ومكانته المناسبة بالمجمع، وذلك لأنهما مثل د. المصري تماما لا يجيدون الشللية.
*نلاحظ كثيرا غصة في حلق د.المصري، وكثيرا من الألم يكتنف كتاباته، مثل ما ظهر في قصيدته " أمل يائس".
شريف المصرى : لقد تعرض د. المصري لكثير من الظلم في حياته، قلما يتحمله بشر، فبعد عام 1961م، تعرض لظلم شديد، حيث صودرت أرضه وللأسف لم تراع الحكومة وقتها أثناء عملية التأميم والمصادرات أن هناك أناسا عصاميين، وحسب على اعتباره من المنتمين لطبقة الإقطاع، وتم استبعاده من الجامعة لفترة، ثمة شيء آخر ألا وهو أنه عانى تنكر الكثيرين له سواء من زملائه أو تلاميذه، وأذكر بكل أسف أن بعضهم كان يأتي إليه ويفتح لهم بيته ويساعدهم في دراساتهم، ولا يذكرون ذلك له، وأكثر من ذلك كان يقوم البعض منهم بسرقة ذخائر الكنوز العلمية من مكتبته أثناء انصرافهم، مستغلين فقد بصره، وحتى الدراسات التي تناولته بالبحث هو أو أعماله في مصر كانت شحيحة للغاية، مع امتلاء الصحف بالحديث عن أقزام بالنسبة إليه، وكأنه لم يثر المكتبة العربية والإسلامية بشيء، فقد أفردت له دائرة المعارف الأردية بباكستان ثلاثين صفحة عند وفاته،وكذلك دائرة المعارف التركية عشرين صفحة وهو ما تفرد به عربيا .
*هل كان له انتماء سياسي لحزب بعينه، وأي الرؤساء كان يفضل خاصة أنه عاصر العديد من الملوك والرؤساء بداية من السلطان حسين كامل، ونهاية بالرئيس مبارك؟
شريف المصرى : لم يكن له أي اهتمام بالسياسة مطلقا، يكفي أنه تعرض لظلم شديد دونما اقتراب منها، فكان شاغله الأكبر هو العلم.
*كيف كان يرى ثورة يوليو، بعيدا عما تعرض له إزاءها؟
شريف المصرى : لقد كان مثاليا لأقصى درجة لا يرى إلا الخير، زاهدا في الحياة، كطفل كبير، لا يحمل حقدا لأحد، وهذا تسبب له في الكثير من الخسائر والاستغلال من الكثيرين حوله، وكان حزينا بالطبع فتؤثر فيه أدنى إساءة مقابل تلك الروح الطيبة.
*عودة إلى حياته الثقافية والأدبية.. كيف كان يرى الشعر الحر؟
صلاح رشيد : كان لا يؤمن إلا بالشعر العمودي، ولا يعتبر الشعر شعرا، إلا إذا كان موزونا ومقفى، وكان لا يحفل ولا يعترف بالشعر الحر أو ما يسمى بقصيدة النثر، وما شابه ذلك.
*هل ما زالت هنالك كتب مخطوطة له لم تنشر بعد؟
شريف المصرى : كان عاشقا للعلم ومعطاء لآخر لحظة من حياته، ففي عصر اليوم السابق لوفاته مباشرة ورغم ظروف مرضه، يملي مقدمة كتابه" الله جل جلاله في الآداب العربية والفارسية والتركية والأردية –دراسة مقارنة"، وحين وفاته ترك عدة مخطوطات لم تنشر منها: "الشعر والشعراء في إيران" و "أدب الحمامات في الآداب العربية والفارسية والتركية" و "تذكار الصبا" وغيرها.
*كيف يراه صفوة علماء عصره؟
صلاح رشيد : هو قامة ليس لها مثيل يعرف قدرها كل عالم، ولا ينكرها إلا حاقد أو جاهل أو مدع، فقد عرف له العقاد قدره وأشاد به، وكذلك د. طه حسين، وقد وصفه العلامة وديع فلسطين بقوله "لقد كان ترسانة من أسلحة الإبداع الثقيلة"، وقال عنه الدكتور الطاهر مكي: "إنه مووعي المعرفة، لكنه ظلم كثيرًا. بلغت مؤلفاته أكثر من مائة كتاب كلها تدعو للوحدة الثقافية بين العرب والمسلمين"، وقال عنه العلامة العراقي د.يوسف عز الدين: " كيف لم نسمع عن هذا البروفسور العظيم؟ إنه أستاذ الأساتذة، وفخر العرب"، وعندما كرمه الرئيس الباكستاني ضياء الحق عام 1988م انحنى أمامه اعترافا بفضله على العروبة والإسلام.
*بجانب الأدب الإسلامي، ما أجل أعماله التي خدم بها الإسلام؟
صلاح رشيد " له الكثير ولعل أجلها أنه راجع ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية والروسية، بتكليف من الأزهر وأجازها للنشر، إضافة إلى ترجمته لجميع أعمال شاعر الإسلام محمد إقبال.
- ومن أهم مؤلفاته: في الأدب العربي والتركي (دراسة في الأدب الإسلامي المقارن) - الأسطورة بين الأدب العربي والفارسي والتركي -الأدب الفارسي القديم ترجمه عن الألمانية وهو لباول هورن، والأدب الإسلامي في شبه القارة الهندية عن اللغة الإنجليزية، ومرآة الحرمين للرحالة التركي أيوب صبري باشا، والرحلة إلي مصر والسودان والحبشةعن التركية، وما وراء الطبيعة في إيران ترجمه عن الفرنسية، وهو أطروحة محمد إقبال (شاعر وفيلسوف باكستان) للدكتوراه التي نالها من جامعة ميونيخ.
*ماذا عن دواوينه الشعرية؟
صلاح رشد : كان يجيد ويتقن ١٠ لغات هي: العربية والفارسية والتركية والأردية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية واللاتينية، وكان يجيد كتابة الشعر بخمس منها، ومن دواوينه الشعرية: شمعة وفراشة 1955- وردة وبلبل 1958 - حسن وعشق 1963- همسة ونسمة 1964- شوق وذكرى 1981- موجة وصخرة1986.
شهادة: عرفنا د.حسين المصري إنسانا ونحن أطفال نتعلم في قريتنا خلوة سنهرة، مركز طوخ، بمحافظة القليوبية، وكانت مدرستنا الابتدائية صغيرة للغاية، مبنية من الطوب اللبن، مسقوفة بالخشب والجريد، ليس بها مكان للعبنا، فكان طابور الصباح وحصة الألعاب يتمان في الشارع أمام المدرسة، وكانت خالية من دورات المياه إلا واحدة للمعلمين، وكنا كطلاب نقضي حاجتنا بحمامات المسجد المجاور أو نذهب لبيوتنا إن كانت قريبة، وكانت تؤلمنا نحن الصغار لسعات الحشرات صباحا، كان المبنى بهذه الدرجة من السوء تعافه البهائم، إلى أن قيض الله لنا هذا العالم الجليل فأعاننا بأرضه، وصارت لنا مدرسة عصرية صرنا نتباهى بها، رحم الله العلامة الراحل د. حسين مجيب المصري.