د. حسين علي ,
للكاتب الكبير توفيق الحكيم، مسرحية بعنوان «أشواك السلام» يدور موضوعها حول الأشواك التي تقف عقبة في طريق تحقيق السلام.
يقول توفيق الحكيم على لسان أحد أبطال المسرحية: «العالَم كله يريد السلام! .. كل شعوب الأرض لا تنشد سوى الاستقرار والسلام! .. لماذا لا يتم السلام إذن؟ .. ما هي العوائق في طريق السلام؟» هكذا يتساءل البطل الرئيس في المسرحية.
تدور أحداث المسرحية حول شاب وشابة عقدا العزم على الزواج، الشاب التقى بالفتاة مصادفةً على بلاج للإسكندرية، أُعجب الشاب بالفتاة إعجابًا جمًا، وبادلته الإعجاب، واتفقا على عقد الخطوبة بعد عودة الشاب من السفر، لأنه كان يعتزم السفر إلى جنيف لحضور مؤتمر عن السلام الاجتماعي هناك بحكم كونه يعمل بالسلك الدبلوماسي.
صارح الشاب والديه بنيته في أن يخطب هذه الفتاة، وصارحت الفتاة والدها بأن الشاب سوف يتقدم لخطبتها بعد أسبوعين حين يعود من المؤتمر.
كان والد الشاب يشغل منصب محافظ الغربية، وكان والد الفتاة يشغل منصب محافظ الشرقية، وكان بين الرجلين (أبو العروسة وأبو العريس) سوء فهم قديم، فحرصا على عدم إتمام الزواج بين الشابين، ومن ثَمَّ قاما بالوقيعة بينهما، مما دفع الشاب إلى رفض الزواج وأيضًا اتخذت الفتاة موقفًا معارضًا للارتباط بهذا الشاب.
وهكذا تم زرع أشواك كثيرة في طريق الوئام والسلام بين الشابين.
يتضح لمن يقرأ هذه المسرحية «أشواك السلام»، كيف أن الشك تجاه الآخر وعدم تقبله وغياب الثقة فيه؛ كلها أمور تبدد السلام، وتقتل الألفة والمحبة بين الناس، ولا يقتصر الأمر على ضياع السلام بين الأفراد، بل يضيع السلام بين الدول والأمم أيضًا بسبب الشكوك المتبادلة وعدم الثقة.
إن سوء الظن بالغير يؤدي إلى تصدع السلام الاجتماعي وانهياره، وعوامل كثيرة تكون سببًا لإساءة الظن، منها ما هو سياسي أو مذهبي أو طائفي أو اجتماعي.. إلخ.
إن عدم معرفتنا بالآخر تزرع في قلوبنا الخوف والرهبة تجاهه، وتدفعنا دفعًا للوقوف موقفًا عدائيًا منه، فالآخر هو مجهول بالنسبة لي؛ والمرء عدو ما يجهل.. أمر طبيعي أن يخشى الإنسان المجهول ويخافه، هب مثلاً أنك وقفت أمام كهف كثيف الظلمة عميق الغور، وطُلِبَ منك أن تتقدَّم في ممراته المظلمة .. هل ستوافق؟.
الخوف من الظلام هو أشهر أنواع الخوف، ربما لا يوجد شخص منا لم يخف من الظلام في موقف ما أو فترة معينة من فترات حياته، هل تعرف لماذا نخاف الظلام؟.
عيوننا لا ترى إلا إذا كان هناك ضوء منعكس على الأشياء فتتحقق الرؤية، أما الكهف المظلم فليس في مقدورنا جمع معلومات كافية عنه (لونه – أبعاده – شكله – محتوياته...) ليست عندنا معلومات كافية عن المكان المظلم، المكان المظلم في حد ذاته ليس مخيفًا.. لكننا نخاف فقط من المجهول الذي لا نفهمه.. ولو أضيئت كل ممرات الكهف بمصابيح الفلورسنت؛ سيتلاشى ذلك الشعور الغريزي بالخوف، فقد انعدم المجهول ولم يعد الأمر مثيراً للخوف.
كذلك الأمر فيما يتعلق بمعرفتنا بالآخر؟
الآخر بالنسبة لنا هو: المجهول.
من أهم أسباب عدم تقبل الآخر: اختلاف الشعوب والأمم، واختلاف المعتقدات الدينية، وتنوع الحضارات البشرية، إن عدم وجود معلومات كافية عن المختلف عنا دينيًا أو عرقيًا أو حضاريًا يدفعنا للتشكك في نوايا الآخر، والنظر إليه بوصفه عدوًا، فالناس أعداء ما يجهلون.
وقد ينفر المرء من جاره أو زميله، دون أن يكون جاره أو زميله هذا ارتكب جرمًا، ينفر من جاره أو زميله، وقد يكرهه لمجرد أنه يعتنق ديانة مخالفة، ومهما حاولنا إقناع هذا الشخص النافر إن الدين لله والوطن للجميع، وإنه ينبغي علينا تغليب مفهوم «المواطنة» ولا شأن لنا بديانة هذا أو ذاك فلن نجد آذانًا مصغية، بل سنجد عقولاً تحيط بها جدران صلدة تعزلها عن أية أفكار مخالفة.
من الواضح أن الانتماء إلى عقيدة دينية معينة يرجع في الأساس إلى البيئة الثقافية التي ينشأ في ظلها المرء، فإذا وُلِدَ الطفل في أسرة «مسلمة» وتربى وترعرع في هذه الأسرة، فإنه بلا شك سوف ينشأ مدافعًا عن الإسلام ومهاجمًا المسيحية، ولو أن «هذا الطفل ذاته»، لظروف مختلفة، وُلِدَ في كنف أسرة «مسيحية»، فمن المؤكد أنه سوف ينشأ مدافعًا عما كان يهاجمه، ومهاجمًا ما كان يدافع عنه.
وللفيلسوف السويسري «جان جاك روسو» رأي طريف فيما يتعلق بمسألة اعتناق المرء ديانة معينة دون غيرها، إذ يرى أن هذا الأمر إنما يرجع إلى البيئة الثقافية للإنسان، فيذهب إلى أن المرء لكي يهتدي إلى الدين الصحيح الذي ينبغي عليه اعتناقه، فلا بد من أن يقوم بدراسة متأنية لكل الأديان السماوية والوضعية (غير السماوية) بلغاتها الأصلية، ودراسة كل المذاهب الفكرية والفلسفية، دراسة نزيهة محايدة، ثم يختار الدين الصحيح.
ورأى «روسو» أنه لكي يتحقق ذلك سوف يحتاج المرء إلى أكثر من 300 سنة يقضيها في البحث والدراسة، وبطبيعة الحال فإن قصر الحياة البشرية لا تمكن الإنسان من تحقيق ذلك!.
ويرى «روسو» إننا لسنا في حاجة إلى ذلك، لأن الله أرسل إلى كل إنسان رسولاً، وهذا الرسول يكمن داخل كل منا، ألا وهو قلب الإنسان، إن قلب الإنسان يرشده بيقين لا يتزعزع إلى وجود خالق عظيم لهذا الكون الرائع.
إذا تحدثت مع أحد عن التسامح الديني على هذا النحو الذي تحدث به «جان جاك روسو»، سوف تجد عقولاً أشد صلابة من الصخر، لا تقبل منطقًا، ولا تُعْمِل عقلاً، وتردد مقولةً واحدةً، لا تملك غيرها «هذا ما وجدنا عليه آباءنا».
المجتمعات ترقى وتزدهر بالتسامح بصفة عامة، وبالتسامح الديني بصفة خاصة، و«التسامح الديني» لا يعني على الإطلاق أن يتخلى المرء عن دينه، أو يكفر بمعتقداته، أو يُلحِد، فهذا أمر مرفوض، لأن الدين بالغ الأهمية للإنسان.
ولكن ما نعنيه بــ «التسامح الديني» هو أن يدرك المرء، أنه إذا كان قد امتلك هو حرية اعتناق دين معين، فليس من حقه أن يفرض على غيره اعتناق الدين ذاته، أو يجبر أصحاب الديانات الأخرى على التخلي عما يعتنقون.
عليه أن يعطي لغيره الحرية كما أعطاها لنفسه في اعتناق ما يشاء، أما التشدد والتعصب فهو الذي أدى إلى ما نراه اليوم من مذابح في المنطقة العربية، كل هذه الدماء التي تسيل أنهارًا سببها عدم تقبل الآخر والخوف منه.