من مفارقات الحضارة المصرية الحديثة، أن يبزغ في أفق مصر الأكاديمي والثقافي مجلة الهلال ولتصبح السلف العريق للجامعة قبل أن تشهدها مصر، بل ولتعدلها أجيال من الأساتذة ممن تلقوا العلم في أروقة الهلال الورقية، ذلك أن الهلال قد ظهرت في مصر عام 1892، ومصر في ظلام مدلهم من السيطرة الاجنبية، ومن شيوع أرستقراطية المعرفة في ظل الاحتلال البريطاني الثقيل بقيوده على الروح المصرية المنتفض طوال العصور.
ذلك أن الهلال لم تكن قط بطبيعية موادها وأسلوب معالجتها، منذ البدء، بمثابة مجلة دورية لمجرد القراءة، وازجاء وقت الفراغ بل كانت بمثابة جامعة أكاديمية من ورق، في غياب الجامعة التقليدية التي تم تأسيسها بعد تاسيس الهلال بسنوات عدة (الجامعة الاهلية عام 1908، وجامعة القاهرة عام 1925) ذلك أن موضوعاتها كانت تنتقي بحس أكاديمي رفيع المستوى، تعليمي الطابع، وخاصة في مجال الإنسانيات وبتحديد أكثر في مجال الكلاسكيات، مثل فلسفة أرسطو، وهوميروس وملاحمه، وابقراط وفي مجال الجغرافيا تناولت جغرافية القاهرة وكذا تاريخ الجزر البريطانية البعيد، ثم فلسفة ابن رشد والتي عرضت في أكثر من عدد من أعدادها الأولى، وكذا الجديد في العلوم بفروعها العديدة وفي مقدمتها علوم الطب، والهندسة ومن كنوز الهلال عرض فصل من فصول كتاب فلسفة التاريخ لجبار العقل الغربي هيجل اختص به مصرنا العزيزة، وهو بمثابة وثيقة وشهادة للعقل الغربي على سمو الحضارة المصرية القديمة والمصرين الذي تجاوز المالوف للعالم ويلاحظ انه كانت كل مقالة من هذه المقالات بمثابة محاضرة شائقة اكاديمية الطابع ذات رنين وصدي في اعماق العقل، وكما هو الشان في محاضرات الجامعة.
ونفصل لما تقدم ببعض الشيء توثيقا لما ذكرت، ففي الجزء الأول من السنة الثانية من مجلة الهلال الصادر في أول سبتمبر سنة 1893 وتحت عنوان "أشهر الحوادث وأعظم الرجال" نُشر فصل عن الفيلسوف العربي ومؤسس منهج الفكر للعقل الغربي "ابن رشد" تضمن المقال سيرته ومؤلفاته، وعلينا إحصاء ورصد من كانوا على دراية بهوية ابن رشد ومنهجه الفكري، وقبل إنشاء الجامعة، وأقسام الفلسفة في مصر، في هذا الوقت لتعرف قدر مجلة الهلال ومدى سمو رسالتها.
كذلك ورد في نفس العدد تحت عنوان "باب المقالات" مادة عن خليج القاهرة وتاريخه وعصر من سحر مياه النيل يتخلل إحياء القاهرة الخلابة، اختفى الآن مع الزمن، وكذا وردت بنفس العدد مادة عن تاريخ إنجلترا تحت عنوان "تاريخ انكلترا" وفيها تعريف عميق بتاريخ بريطانيا "الجاثمة على صدر مصر في ذلك الوقت"، أردفه الكاتب بمادة عن احتلال روما لبريطانيا تحت عنوان "الدولة الرومانية من الفتح الروماني سنة 55 ق.م إلى سنة 410، وتتضمن هذه المادة مفارقة طريفة بصدد مقاومة الإنجليز المستعمرون للاحتلال الروماني لبلادهم في القدم والوقوف علي مستوي حضارة بريطانيا عند غزو الرومان لها، اقتطف منها السطور التالية:
"لما اخترقت جيوش يوليوس قيصر الروماني البلاد المجاورة لغالىة ( فرنسا) تاقت نفسه الى افتتاح بلاد اخري وكان قد سمع شيئا عن خصب جزيرة بريطانيا وجودة محصولاتها فحدثته نفسه بافتتاحها فسار الىها وافتتحها سنة 55 ق.م واخضع اهلها واذلهم فدانو له صاغرين واصبحت انكلترا مستعمرة رومانية . ولهذا القائد العظيم الفضل الأعظم علي هذه الجزيرة لأنه لم يكن مفتحها ومرقيها فقط ولكنه كان مؤرخها ايضا ولا تزال كتاباته عنها الى الان مرجعا في حل المشكلات التاريخية، فلما استتب المقام للرومانيين في بريطانيا جعلوا فيها حاميات وحصونا ومعاقل ومدنا لا يزال بعض آثارها باقيا إلى اليوم أثرا لذلك الفتح العظيم».
ويستطرد المقال (المحاضرة) الحديث عن مقاومة البريطانيون للرومان وبقيادة أمير فيهم يقال له كاركتاكوس وكان شديد الىاس فحارب الجنود الرومانية على عهد الإمبراطور كلوديوس، (رابع اباطرة روما 41 – 54 م) فاضطر الامبراطور أن يقود جنده بنفسه فقدم إلى بريطانيا نحو عام 52 م وبقي فيها مدة ثم عاد وقد عهد قيادة الحامية إلى أحد القواد الرومانيين العظام المدعو فسبسيان (الامبراطور فسبسيان فيما بعد وثامني اباطرة روما 690- 79م) فحارب كاركتاكوس وتغلب عليه وقاده أسيرا مكبلا بالحديد إلى رومية فتقاطر الرومان لمشاهدة ذلك البطل البريطاني وكانوا قد سمعوا عنه كثيرا، فلما وقف بين يدي الامبراطور وقد شاهد عظمة رومية سأله الامبراطور قائلا (كيف ترى نفسك يا كراكتاكوس) فأجابه "اوِّاه.. أعدلُ من الدولة العظيمة المالكة لكل هذه الخيرات أن تطمع بكوخ حقير مثل الذي لي في بريطانيا فأعجب الامبراطور جوابهُ وحل قيوده".
وتوحي هذه السطور بالمقارنة بين عظمة مصر واسلاف المصريين في عيون يوليوس قيصر وأباطرة روما فيما بعد بالرغم من جنوح كفة القوة إلى جانبهم وضالة بريطانيا ومهانة أسلافها في مواجهة الرومان، وهو يوضح مستوي المقال ( المحاضرة ) وكاتبها المجهول علي صفحات الهلال.
وفي عدد الهلال [ الجزء الرابع من السنة الثانية 15 اكتوبر سنة 1893، في مقال عن الامبراطور ثيودوسيوس الاعظم [ 379 – 395 م ] بباب " أثر الحوادث واعظم الرجال".
اقتطف العبارات الخاصة بمشهد تدمير سيرابيوم الاسكندرية وتمثال سيرابيس بناء على أوامر الإمبراطور الصادمة بأن تهدم جميع الهياكل الوثنية في الديار المصرية حتى لا يبقي هناك موجب للنزاع (بين الوثنين والمسحيين).
ففي نهاية المقال ورد وصف التدمير التاريخي المثير علي النحو التالى:
"وكان في هيكل سيرابيس المتقدم ذكره تمثال هائل اسود اللون من الخشب المتين ومغطي بالمعادن الثمينة ومرصع بالحجارة الثمينة وكان منظره مهيبا حتي لم يستطع أحد الإقدام علي كسره، لما تمكن في قلوبهم من الاعتقاد بالوهيته فتقدم جندي من الحاضرين [ دخل تاريخ العالم واستحق ثناء المؤمنين، وغضب الأثريين من العلماء علي مدار العصور] والفأس بيده وصعد إلى أعلى ذلك الصنم وضربه ضربة كسر فكه الأسفل فانفتح فاهُ وخرج منه عدة فيران كانت معششة فيه فسقط احترامهُ من أعين الحضور فهموا إليه واتُّموا كسرهُ وهكذا فعلوا بسائر الهياكل الوثنية وتأيدت الديانة المسيحية وأمَّحت الوثنية من هذه الديار من ذلك العهد والفضل في ذلك كله للامبراطور ثيودوسيوس الأول أو الأعظم.
وتوفي في مدينة ميلان من أعمال إيطاليا سنة 395.
ومن يزور منطقة عامود السواري بكرموز بالإسكندرية، ويصعد الهضبة، ويتأمل البقايا الصخرية لهيكل سيرابيس الذي تم تدميره يقف علي مدى أهمية النص السابق، وسبق الهلال في التدريس لطلبة الآثار من عرض هذا النص الذي يصف مشهد التدمير وملابساته والذي انتقاه الهلال محقق بذلك فائدة لا تقدر بثمن للمعرفة الإنسانية ولعلم الآثار قبل أن ينشيء بالجامعة.
وفي عدد الهلال الجزء الخامس من السنة الثانية الصادر في أول نوفمبر 1893وتحت باب أشهر الحوادث وأعظم الرجال يعرض هذا العدد في صدره ترجمة لحياة أرسطو [العلم الأول] وتربيته للإسكندر الأكبر باعتباره معلمه، وما عاناه مع أهل أثينا، ثم ملخص لمؤلفاته الثمينة، ويلي ذلك بعض الشرح لفلسفة بدءا من تقسيمها الى عملية ونظر به.
ويذكر المقال [المحاضرة ] أن أرسطو هو أول من جاء للعالم بما يسمي – طبقا للمقال – بالبرهان الكوني حيث قال "لما كان لكل حركة مفردة ولكل كائن في العالم سبب محدود وكان لهذا السبب المحدود سبب آخر محدود وكان لذلك السبب الآخر المحدود أسباب أخرى محدودة كان لابد من وجود كائن غير مادي غير محدود شيء ما اوَّلي غير متغير محرّك لكل شيء قدرة محضة عقل مطلق وهو الله".
ولعل في هذا الجانب من فلسفة وفكر أرسطو ما يوضح المدي الذي تذهب إليه الفلسفة في أعمال الفكر للوصول للمطلق أو اليقين، وهو ما يصور مستوى عون الهلال في هذا الزمن لقضايا الفكر الإنساني بمصر.
وفي عدد الهلال الجزء السابع من السنة الثانية الصادر في اول ديسمبر 1893 تحت بباب أشهر الحوادث وأعظم الرجال يقدم الهلال للقارئ ترجمة لهوميروس اب الأدب الغربي، والذي من فتات مائدته المتساقطة، اقتات، دانتي، شكسبير وتولوستوي، وكامي، وغيرهم من عمالقة الادب الغربي خلال العصور الوسطي والحديثة.
حيث كانت كل من ملحمتيه الالىاذة والاوديسية وبوقائعهما ومغزاها وقيم البطولة والفداء لكل من يبدع ادبا انسانيا عالمي الطابع مؤثرا في النفس البشرية.
ومع تطور الزمن يتطور الهلال لخدمة قضايا عصره وخدمة قارئه وخاصة بعد ان فتحت ابواب الجامعات بمصر، نجد اسم اء تلالات في سماء الهلال ممن تربوا واقتاتوا علي مجلداته وسودوا صحائفه ك طه حسين، لطفي السيد، احمد امين، والعقاد، شوقي، حافظ ابراهيم، مطران و الىا ابو ماضي، حبيب جاماتي، لويس عوض، نجيب محفوظ، يوسف جوهر، بنت الشاطئ، سهير القلماوي وغيرهم منهم من اعده الهلال للتدريس في الجامعة، ومنهم من أعدهم للتدريس في الجامعة.
ومن ذخائر الهلال وكنوزه العقلية ما طالعته بين صحائفه في فترة النضوج وبدا الخطو في مدارج الحياة العملية الوظيفية حين كنت اتكيء علي الثقافة لاداء متطلبات العمل في حقل الآثار، وكان الهلال أعظم وعاء اغترفت منه، ففي عدد الهلال العاشر [ السنة السادسة والسبعون ] الصادر في اكتوبر 1968 في [ جزء خاص عن الفكر العصري – هيجل ]
وفيما يهمنا عثرت علي جزء خاص بمصر تحت عنوان روح مصر والمصريين في فلسفة التاريخ عند هيجل لكاتب مجهول لم يرد اسم ه في المقال وربما هو رئيس التحرير في ذلك الوقت هو أحمد بهاء الدين ويلفت النظر ان هذه المادة قد كتبها هيجل ضمن كتابه " دروس في فلسفة التاريخ" عام 1830 وهي تتناول تفسيرات بفكر فليسوف وليس عالم مصريات ولم يمكن قد مضي علي حل رموز الهيروغليفية سوي بضع سنوات قلائل، وبالتالى لم يكن هناك دراسة علمية للمصريات بعد، ولم يكن امام هيجل في ذلك الوقت من مصادر عن مصر القديمة [ بالاضافة الى الكتب المقدسة ] سوي كتابات كل من هيرودوت [ حوالى 484 – 420 ق.م ] وديدور الصقلي [ حوالى 40 ق.م ] و والتوراة السبعينية التي امر بترجمتها بطليموس الثاني [ 285 – 246 ق.م ]، وتاريخ مصر المبعثر شزرات بين المصادر والذي وضعه الكاهن المصري الجليل مانتيون [ حوالى 305 – 285 ق.م ] و ومن الواضح انه قد اعتمد علي ما ورد
في هذه المصادر من ثناء وانبهار بحضارة المصريين واطوارهم التي نبعت من طبيعة فردوسهم الارض مصر الذي قوامه النيل والشمس، وبالرغم من ذلك فعندما يكتب هيجل عن مصر فهو اضافة رفيعة للمعرفة الانسانية، وذلك بالرغم من انه فليسوف اداته الفلسفة، والتي عرفها البعض بانها " تفكير حول التفكير والتي يعتقد بعض الفلاسفة ان الفلسفة يمكن ان تقوم بتقدم حقيقي في سبيل اقتناص المعرفة.
وهيجل هو فليسوف الغرب الاعظم والذي وُصف بانه " ارسطو العصر الحديث، وهو اب المثالىة الالمانية والتي تفرغت عنها فلسفات كل من فيورباخ، وماركس وانجلترا، وقد اقر الفلاسفة المحدثون بانه لا يمكن فهم اية حركة معاصرة، اشتراكية او وجودية او حتي ادبية او فنية الا بعد مطالعة فكر هيجل ولسنا هنا مجال الحديث عن فلسفة هيجل فهذا شان الفلاسفة، ذلك انه عندما يكتب الفيلسوف عن الحضارة الانسانية القديمة واثارها، فانه يختلف تماما عن عالم الاثار والمؤرخ، ذلك ان الفلسفة ترمي الى المعرفة غير انها معرفة تحليلية الطابع لا تحقق الىقين او القوانين العامة الثابتة التي يتسم بها العلم، ذلك بانه مجرد ان يتحقق الىقين في المسالة الفلسفية فسوف تخرج علي التو من نطاق الفكر الفلسفي وتصبح خاضعة للعلم وقواعده من مقدمات وبرهان ونتائج.
وقد وضع هيجل ارائه في حضارة العالم القديم في صورة شاملة كلية لاحداث التاريخ ومصائر الامم القديمة المختلفة، وبما تتسم به تلك الحضارات من فن وعقائد والحياة الىومية للشعوب تلك الحضارات.
ويقسم هيجل مراحل تطور الانسان الى اربع مراحل، يطلق عليها بترتيب تتابعها الزمني، منذ اقدم العصور حتي القرن الثامن عشر : العالم الشرقي – العالم الاغريقي – العالم الروماني – العالم الجرماني.
ويتحدث في الجزء الخاص بالعالم الشرقي عن الحضارات النهرية القديمة : الصين، الهند، بلاد فارس، بلاد ما بين النهرين ومصر.
وفي محاولة هيجل لتمثل روح مصر والمصريين [ القدماء ] وتحديد جوهر الحضارة المصرية [بعقل ورؤية فليسوف وفي عام 1830] بدا بالتنويه بانه في الوقت الذي اختفت فيه معظم معالم الامبراطورية الفارسية ولم تترك ورائها اثار اتذكر، ظلت معالم الحضارة المصرية قائمة، وكشفت ارض مصر الحديثة – اي مصر القرن التاسع عشر – عن اثار برهنت علي ان مصر بلد العجائب والروائع منذ القدم.
وان اول ملك لمصر – علي قدر علم هيجل حينذاك – هو " مينا " باني مدينة منف، ولاحظ تشابه اسم الملك المصري مع اسم " مينوس " الاغريقي [ ملك كريت ]، ومع اسم مانو " الهندي .
ويذكر انه من المفروض ان مصر كانت قبل ذلك التاريخ بحيرة شاسعة الاطراف تمتد حتي طيبة (الاقصر ) والحقيقة انها كانت تمتد حتي اسنا بمحافظة اسوان وهي مياه البحر الابيض المتوسط الذي احال مصر في البدء الى خليج بحري هائل قبل ظهور النيل وطرد مياه البحر الابيض الى حدود مصر الشمالىة الحالىة .
كما يماثل، بين المصريون والهولنديون في مسالة انتزاع الارض من البحر، والحقيقة ان النيل هو الذي انتزع الارض بطميه الحبشي، والهولنديون هم الذين انتزعوا الارض من البحر ولا وجه هنا للمقارنة غير انه يورد مسالة جديرة بالدراسة وهي ان جهد المصريين في ان تصبح ارضهم خصبة عن طريق حفر الترع والقنوات قد ادي الى انتقال المصريين من مصر العليا الى مصر السفلي، اي انتقالهم من الجنوب الحار الى الشمال المعتدل، ومن التاثر بافريقيا، واثيوبيا بصفة خاصة، الى التاثر بحضارة منطقة البحر الابيض المتوسط.
النيل والشمس
يري هيجل ان كل من افكار ومفاهيم المصريين القدماء التي وجدت التعبير عنها في العمارة واللغة هي افكار ومفاهيم نابعة من مصدرين اساسين هما الشمس والنيل، حيث ان النيل هو اساس الحياة في مصر، ووراء وادي النيل تبدا الصحراء، وثمة صراع ابدي بين جفاف الصحراء ومياه النيل وكلما كانت الحكومة في مصر مزدهرة انتصر النيل علي الصحراء وكلما كانت الحكومة ضعيفة زحفت رمال الصحراء علي الوادي الاخضر [ وهو ما يوضح حاجة مصر المستمرة لحكام اقوياء ومركزية سياسية للحفاظ علي حياة المصريين، ولتحقيق استقرار الامور في البلاد، وازدهار ورخاء قوامها السيطرة علي مصادر الثروة الطبيعية لصالح المصريين وهو ما اكده استقراء وقائع تاريخ مصر القديم].
واما الشمس فانها ضرورية لنمو الزروع بمصر ولعل هذا هو السبب في اننا نجد ( طبقا لهيجل ) عبادة الشمس سائدة في أوائل عهد مصر القديمة وبعد ذلك، ونلاحظ مواجهة معظم المعابد والتماثيل والقصور للشرق حيث تتلقي اول شعاعات الشمس عند الشروق .
اي ان الكينونة المصرية تقوم على أساس عالم مغلق انغلاقا طبيعيا في حلقة مكونة من عنصرين هما النيل والشمس وعلى أساس النيل والشمس ينبت الزرع، واوزوريس – في راي هيجل – هو صورة البذرة التي تغرس في الارض فتنمو بعد ذلك، وهو صورة سباق الحياة.
ويرى هيجل أن الشمس والنيل هما رمز الإنسانية في مصر القديمة وبعقل الفيلسوف يرى أن لكل رمز مغزى، وهذا المغزى يتحول إلى رمز يصبح بدوره ذا مغزى، وهذا المغزى هو رمز الرمز الذي يصبح بدوره مغزى المغزى.. وهكذا وفي التحول تنجسم الضرورة المصرية، لكنها لا تصبح ضرورة بدون أن تكون في الوقت ذاته مغزى.
ولم يدرك هيجل عالم المصريات الفذجيمس هنري برستد في مؤلفه تُطور الفكر والدين في مصر القديمة عام 1959 [ترجمة زكي سوس دار الكرنك للنشر والطباعة عام 1961 مكتبة الحضارات (1)] والذي ذكر أنه عند فحص الدين المصري، في أقدم وثائقه التي وصلت الىنا يتضح أن ظاهرتين طبيعتين عظيمتين أثرنا أعمق تأثير في مكان وادي النيل، وأن الإلهين اللذين يمكن تبينهما في هاتين الظاهرتين سيطرا علي التطور الديني والعقلي منذ اقدم العصور انهما الشمس والنيل.
ويوغل هيجل في التفلسف حيث يستخلص من النيل والشمس المكونين لروح مصر نتيجة هامة متعلقة بمكونات روح المصريين القدماء وهذه النتيجة هي ان المصريين القدماء قد ربطوا ربطا وثيقا بين عالم المادة وعالم المثل، بين الطبيعة والافكار، بين الحياة والنفس و بين الجسد والروح.
ويري هيجل أنه من الممكن اعتبارا "أبي الهول" رمز الروح للمصريين، وطالما أن تفسير ورؤية هيجل لأبي الهول تدور في نطاق الفكر الفلسفي فلا تثريب عليه فيما يري ويعتقد، وخاصة أن تركيب هذا التمثال بالذات من رأس هائل لإنسان، وجسد هائل لحيوان يعد بطبيعة المنطق والأشياء ذو تركيب فلسفي بالغ الغموض ولعل في الفكر الفلسفي محاولة للبحث عن حقيقة أبي الهول الوسيلة المعاونة لعلم الاثار لجلاء حقيقة اللغز الذي استعصي على أجيال العلماء كالكثير من مسائل المصريات، ولعل الاتفاق الوحيد للان بين هيجل وعلماء الآثار بصدد أبي الهول أنه لغز عند المصريين القدماء لكن اللغزعند هيجل ليس بصورة عامة تعبير عن المجهول، وانما هو التعبير عن نشدان المعرفة أنه الرغبة في الرؤية وراء المجهول [وهنا يبتعد مرة اخري عن علماء المصريات].
ويرى أنه مغزى يرمز لروح مصر، حيث يرى في الرأس الإنسان الذي يخرج بارزا من جسم حيوان يمثل الروح في شوقها إلى الخروج من العنصر الطبيعي، وهو الجسد وفي ميلها الى التحرر من الجسد بالانفصال عنه أو التمزق منه، ناظرة حولها بحرية أكبر ولكن دون أن تتحرر تماما من رابطتها الجسدية.
ويلاحظ أن تمثال أبي الهول يوجد بجبانة الجيزة أضخم جبانات العالم وأكثرها خلودا وربما في طبيعة التمثال ومحيطه الأخروي ما أوحي لهيجل من فكر فيما يختص بعلاقة الروح والجسد، وآخر ما نقتطف في هذا المقال (المحاضرة) المثير للفكر هو رأي هيجل في الفن المصري القديم والمصريون.
حيث يري أنه في الفن المصري القديم تتمثل صورة الفنان المصري العامل الرائع، والذي لا ينشد من عمله تحقيق الفخامة، أو اللعب، أو المتعة أو ما اشبه، وإنما ما يحركه هو الرغبة القوية في أن يفهم نفسه، وليس لديه مادة أو أرضية لكي يتعلم ماهيته ويحقق ذاته إلا الانغماس في عمله في الحجارة وفيما يتقشه على هذه الحجارة.
وتبدو هذه الشهادة نتيجة للنظر والتأمل في ماثر الفنان المصري والذي تداخلت شخصيته في العامل بعقل فيلسوف، وهي تشف عن جوهر الفنان والعامل المصري الأصيل على مر العصور، وتعد هذه الدراسة في حاجة لدراسة متخصصه في علم المصريات لخروج الشهادة الهامة من النظر الفلسفي للعلم.
كذلك يسجل هيجل شهادة القدماء للمصريين بأنهم "أحكم الرجال" وأصحاب ذكاء فكري حاد وتنظيم تشريعي عظيم، وإبداعات فنية رائعة وكانت مصر تعتبر في نظر الأقدمين – مثالا للدولة المنظمة أخلاقيا عاليا، ويبلغ مستوى الدولة المثالىة التي حاول فيثاغورس تحقيقها في مجتمع محدود مختار وتمثلها أفلاطون في جمهوريته.
وهكذا نشهد صورة مصر والمصريون من خلال شهادة لهيجل والاقدمين، وهي من ذخائر الهلال وماثره على القارئ ولإعداده للمران على فهم واستيعاب مفردات ورموز الحياة، وخلال التاريخ الطويل للهلال ظهرت في سماء مصر مجلات أخرى واختفت في مواجهة أنواع الحياة المصرية كالرسالة، والثقافة والكاتب، ومجلتي، وبقيت الهلال باعتبارها ليست مجرد دورية ولكن جامعة للحياة المصرية منهل عزب لكل ظامئ للارتواء من علوم وانسانيات وفنون مصر الخالدة.