طعم الذئب.. جماليات الحكاية وتقنيات السرد
د. محمد سليم شوشة,
تستمدّ رواية طعم الذئب للروائي الكويتي المتميز عبد الله البصيص جمالياتها من مصادر عدة سواء فيما يخص بناء الحكاية وخصوصية العالم المسرود عنه أو من براعة السرد وتقنيات هذا الخطاب السردي وحيله وبلاغته.
هذه الرواية الفاتنة يمكن بحثها وفحصها من عديد الجوانب سواء في مستوى بنية السرد أو في مستوى لغته أو الأنساق الثقافية والبيئية الفاعلة في جسد هذا الخطاب وتشكل قوامه وتمنحه هويته وسمته وروحه وتميزه.
أول مصادر الجمال في هذه الرواية ينتج عن التكوين الخاص والمغاير كليا لبطل هذه الرواية أو الشخصية الرئيسة، ذلك لأن شخصية ذيبان هي نموذج فريد وتمثل حالة روائية استثنائية بامتياز عبر سماته وخصائصه التي هي تركيب من طبقات غرائبية قد تبدو في مستوى ظاهر من النظر متنافرة ومنفّرة منه لكنها في الحقيقة تجعله أكثر انسجاما واتساقا.
فهو شاعر مسالم جبان يصبح قاتلا مطاردا يصارع ذئبا في رحلة صحراوية تغير حياته ومفاهيمه للحياة.
يتسم البطل بالنبض الإنساني ذلك لأن له وعيا متناميا ومتزايدا عبر رحلته في الحياة وعبر الأيام الثلاثة التي يركز عليها السرد وتمثل جوهر الحكاية.
ويمكن أن يكون ذيبان رمزا إنسانيا عاما ينطبق على الإنسان العربي بشكل عام في حال هزيمته أو انكساره وضعفه ومحاصرته من كل الجوانب في الوقت الذي لا يرغب فيه إلا في أن يعيش حياته مسالما وبسيطا.
هذا البطل الروائي الفريد هو محور الجمال الأدبي في الرواية؛ الشاعر النبطي البدوي الذي كان أبوه بطلا عنيدا مات وهو يقاتل لاستلاب مشيخة قبيلته، وأمه تلك المرأة العربية البدوية العنيدة التي تحض ابنها على أن يكون مقاتلا شريفا مثل أبيه وفق ما رسخ في ذهنها وثقافتها عن الشرف والرجولة وتموت بحسرتها من هذا الابن الجبان المتشبث بالحياة ولا يريد منها غير الشعر والربابة.
هذا البطل يتراكب من عدد من الأبعاد التي تجعله نموذجا إنسانيا متفردا وتدفع المتلقي لأن يكون منحازا له لأنه قد يعبر عن جوهر الإنسان في كثير من هذه الأبعاد. هو الشاعر المحب للفن وللحياة ولا يرى شيئا أهم من السلامة والحفاظ على الروح، الشاعر العاشق المسالم الرومانتيكي الذي تطارده الدنيا كلها وكأنها لا تقنع بشيء غير رقبته.
يبدو البطل محاصرا بشرور كثيرة تترصده ولا أحد يجيره فلا مال ولا قوة ولا فروسية ولا شجاعة، هو نموذج من الصعاليك المنبوذين لكنه يختلف عن صعاليك كل العصور بأنه بلا قوة، ومع ذلك يصبح قاتلا في ظروف يعمل السرد على إخفائها أو تأجيلها حتى مساحة متأخرة من فضاء الرواية وهو ما يجعل في الحكاية لغزا ينتظره المتلقي ويسعى إلى معرفته بالتوغل في غابة هذا السرد بمتابعة القراءة.
فيما يخص عالم هذه الرواية فإنها على قدر كبير من الثراء سواء فيما يخص طبيعة هذا النموذج الإنساني/البطل الطريف الذي تقوم عليه الحكاية، أو ما يرتبط بالبيئة البدوية بقوانينها وثقافتها وقسوتها وصرامتها الحاسمة وهو ما يوظفه السرد على نحو مثالي وطريف يجعل الرواية في غاية الحركية ويجعل هذا البطل مطاردا بصعوبات شتى أو في تحديات لا تنتهي ومصيره مأساوي بامتياز.
يبدو البطل في مفارقة مع كل بيئته التي تؤطره كما لو كان نبتا مزروعا في بيئة غير بيئته؛ في وضع المفارقة مع أبيه الفارس المقاتل وأمه التي لا تختلف عن الأب، وهنا يمثل الوالدان ثقافة البادية وقوانينها التي هو متعارض معها فكرا وروحا، ويأتي هذا بصورة متجذرة في تكوين الشخصية على نحو جيد من طفولته ويظل نسقا فاعلا في تكوينه طوال الوقت حتى لحظة الذروة التي يصطدم فيها مع الذئب في رحلة هروبه إلى الكويت وهذه الذروة هي المحول والمغير لمساره وأفكاره بدرجة كبيرة.
ثقافة البادية فيما يخص وضع المرأة ومباهاة شباب القبيلة بالقوة والفروسية وحال الفتاة الجميلة/ غالية ووضعيتها في السرد تجعلنا أمام فواعل وبنية أو تركيبة سردية متكاملة، فالجميلة والبطل الرومانسي والوحش أو الخطر الحائل بينها هي من الخلطات والتركيبات السردية الراسخة وقد استثمرها خطاب رواية مع الذئب على نحو مثالي لأنه أنتج منها - بشكل طبيعي وفق ثقافة البادية – الحدث المأساوي والمحوري الأهم في الرواية وهو القتل، حتى يصبح ذيبان مطاردا، ولكن الحقيقة أن الجماليات في هذه الرواية ليست مقصورة على بنية الحكاية وعناصرها الفاعلة وهي حكاية متجددة وتختلف فيها الفواعل عبر مراحل الرواية وفضائها، بل إن اللغة والطريقة السردية كذلك وميلها إلى لمحات من السخرية والرسم الكاريكاتوري والهزلي يعلو بها في مساحات كبيرة ومشاهد عديدة ويجعلها تمزج الكوميديا بالمأساة، ومثال ذلك ما يتحقق في لغة ذيبان الهجائية الحانقة مع زوجة خالة، وهي وإن كانت لغة داخلية وفق قواعد البيئة والإطار الاجتماعي، لكنها تتجسد في السرد ويقرأها المتلقي بحيث يصبح متابعا للغتين؛ لغة القواعد والقوانين الصارمة التي تريد أن تسلب ذيبان حياته، ولغته الداخلية التي تحاول الحفاظ على هذه الحياة أو تشدها من بين أنياب الموت. فكأننا أما فأر ضعيف لا حيلة له يحاول النجاة من أنياب أسد هو القبيلة.
وهذا ما تجسد في مشهد النزال الذي أداه الخطاب السردي في هذه الرواية على نحو عظيم من البراعة لأن فيه تقنيات سينمائية تعمد إلى البطء والسخرية وكوميديا الموقف والمفارقات، مثلما هو حاضر في مشهد النصائح الأخيرة التي يلقيها خال ذيبان عليه قبل دخوله إلى ساحة النزال مباشرة، فيما يشبه التشويق والطرافة التي تكون في مشاهد المصارعة الحرة غير المتكائفة أو المعارك الهزلية غير المتكافئة نهائيا. وكيف أن ذيبان مثلا يطلب أن يتركوه ليتبول في اللحظة الأخيرة ويبدو مثل فأر مذعور.
الحقيقة هي رواية مشوقة في كافة مراحلها وتسهم البنية السردية في جعلها أكثر تشويقا لأنها أخرت بعض الأحداث أو تركتها ألغازا، وجعلت مصائر كثيرة معلقة حتى النهاية أو على الأقل إلى فترات طويلة، مثل مصير حب البطل لغالية الفتاة الجميلة، ومصير هروبه وخلاصه من الثأر ومصير النزال أو بعد ذلك مصير رحلته إلى الكويت وهي رحلة صراع وجودي، صراع الإنسان ضد الموت والجوع والوحوش، نموذج الإنسان البدائي الأسطوري الذي يكتب عليه أن يجتاز الغابة ويصارع الوحوش لكي يعيش، ولكننا هنا أمام بطل هزلي نحيف وضعيف وغير وسيم وجبان ولا حيلة له غير مقلاع يبدو أنه لا يجيد استخدامه فلم يوفق في إصابة شيء من مرة واحدة مثل اقتناص أرنب بري، لكنه برغم هذا يفعل أشياء غريبة وتنفجر شخصيته عما لا يمكن توقعه، وهذه كلها عوامل تجعل أفق السرد ضبابيا ولا يمكن توقع مصير هذا البطل حتى آخر لحظة، وبخاصة وأن السرد يستخدم بعض الإشارات أو العلامات لتؤشر نحو احتمالات بعينها، ثم تكون النتيجة عكسية، أو أنها تحمل أملا أو تفاؤلا.
نقطة أخرى مهمة في بنية هذه الرواية ترتبط بتوظيف الأحلام وجعلها زادا لمد عالم الرواية بالغرائبية والأسطوري والعجائبي، والحقيقة هي أشياء مختلفة وليست شيئا واحدا، فهناك أشياء ترتبط بتراث الصحراء ومعارفها ووحوشها وحكايات الجدات أو العجائز والذائع من الخرافات والحكايات الأسطورية عن الذئاب وأصلها أو عادات الحيوانات والجن وغيرها من مفردات هذا العالم المنفتح على الكثير، وهو ما يحيل على أن وراء هذه الرواية طاقات بحثية كبيرة في الشعر والتراث الشعبي، والتداوي والأعشاب والنباتات والطقس وغيرها الكثير من المعلومات والمعارف التي يبدو واضحا أنها شكلت قواما نابضا وحقيقيا ومتكاملا لعالم الرواية، فنجد أن الطبيعة بأشجارها وسهولها ووديانها وأغاديرها ونباتاتها وعادات أهلها والطرق كلها تندمج مع بعضها وتصبح خاضعة للفكرة الأساسية في الرواية وليست لذاتها أو تأتي استعراضا للمعلومات، فكل شيء تابع للحدث أو للمصير والمسار الخاص بالشخصية.
تعمد الرواية إلى تقنيات سردية كثيرة تجلعها تتسم بالرشاقة والسرعة، فهي تتفاوت من حيث الرصد بين التقريب أو اللقطة المقربة وبين اللقطة البانورامية، وبين الرصد النفسي الداخلي والرصد الخارجي، بين التبئير الداخلي الخاص بالشخص الذي يعلن عن مشاعره ويخرج ما بنفسه، وبين الرصد الموضوعي والتبيئر المحايد الذي يرصد أطرافا تتصارع من زاوية نظر محايدة أو هادئة، في مشهد الصراع مع الذئب والدخول إلى الجحر نجد السرد يراوغ في حركته ويتنقل بين رصد حال الذئب مع البطل من زاوية الراوي العليم الذي يساوي بين الطرفين، ثم يتحول إلى رصد نفسي من داخل بطل الرواية وحالته النفسية من الخوف والقلق أو بالأحرى الرعب الذي ينتابه وأفكاره وذكرياته، فيكون الجحر برغم ضيقه وبرغم انغلاق عالم الرواية على عنصرين يبدو منفتحا على عالم أرحب هو عالم الماضي والذكريات وأفكار الشخصية حول الموت وحول الجنة أو حكايات الجدات عن الأبطال الذين صارعوا ذئابا من قبل.
في الرواية كذلك جانب مهم يرتبط بتوظيف الرحلة أو الارتحال المغامر، ليس على النحو التقليدي أو المعهود من جمع المعلومات والمعارف عن أماكن الرحلة ومواضعها، ولكن حين تكون الرحلة بمثابة مغامرة مصيرية فتكون هنا منفتحة على دلالة رمزية مهمة، ذلك لأن العبرة برحلة الإنسان وليس بالوصول، وتكون رحلة ذيبان أشبه برحلة الإنسان بشكل عام في الحياة، فكلها فيها المخاطر ذاتها سواء مع الحيوان أو الأمراض أو المخاطر من الجوع والفقر والبرد وغيرها الكثير من كافة احتمالات الخطر التي يمكن أن يكون الإنسان ضحية لها، ومن هذا الملمح الخاص بالارتحال ورمزيته يمكن أن يجد أي قارئ في هذه الرواية نفسه ويستمتع بها لأنه حتما سيجد فيها شيئا من كفاح البقاء الغريزي الذي يمر به كل البشر مهما تنوعت الكيفيات. وهكذا تأخذ الرواية ملمحا عاما وطابعا إنسانيا مطلقا يجعلها تتجاوز في دلالاتها ومعانيها الثقافة المحلية وتبدو أقرب لملحمة إنسانية فيها قدر من الشجن ويشعر المتلقي فيها بكافة المشاعر التي تنتاب بطلها من الخوف أو القلق أو الفرح إن هو انتصر في صراعه هذا. وكأن صراع ذبيان المسالم للبقاء والعيش هو انتصار الإنسان عموما ليستمر في الوجود.
جانب في غاية الأهمية في هذه الرواية يجب الاهتمام به في تقديرنا وهو المرتبط بتحول الرواية لأن تكون متحفا للغة وللتراث الشعبي والثقافي الخاص بالبادية، فهناك مفردات كثيرة أحيتها هذه الرواية أو أبرزتها ووضعتها في توظيف نابض وخطاب أدبي يتسم بالحيوية. وهو الأمر الذي ربما تعجز عنه مجامع اللغة العربية، لأن الخطاب الأدبي خطاب حيّ ومتداول، وتغذيته بهذه اللغة والمفردات والثقافة الصحراوية والبدوية وأنواع من الأشجار والأعشاب والعادات والتقاليد يجعل من هذه العناصر متجددة وقابلة لحيوات أخرى ممتدة وبشكل طبيعي، فنكون أمام دور مزدوج ومهم للإبداع الروائي يتمثل في عمليات ترميم للثقافة واللغة وللذاكرة الشعبية ويهتم بالهامشي وينطلق منه إلى حال إنسانية عامة أو كلية تتجاوز حدود هذه المحلية.
تحتشد رواية طعم الذئب بمفارقات وتحولات عديدة، ومن هذه المفارقات والتحولات تستمد الرواية كثيرا من جمالياتها، ذلك أنها تنتج شعرية السرد وتجعله قادرا على منح مشاعر الشجن والأسى والديناميكية النفسية، فلا يكون المتلقي مستقرا على مشاعر واحدة أو وتيرة شعورية بعينها، بل هناك تقلب بين عديد الحالات وبخاصة ما يحصل مع الذئب من جولات الصراع والتقلب بين مشاعر الخوف والإحساس بالأمن والقدرة على الفوز أو التغلب عليه، ثم التحول الأكبر الذي يجعل من الذئب صديقا وحاميا، ويحدث نوع من التطابق أو التماهي في الحدود بين البطل والذئب حين يفضي كل منهما للآخر بتجربته وخبرته وحكاياته. وهذه النافذة من الغرائبية التي فتحها الحلم في الراوية جعلتها أكثر ثراء وأكثر قابلية لتجاوز رتابة الواقع ومحدوديته.
وفي الرواية كذلك تفاوت في الإيقاع السردي جعل الرواية على قدر كبير من الثراء والإمتاع، ذلك لأنها كانت تعتمد نسقا من التبديل بين السرعة السردية الناتجة عن الحدث والمطاردة والصراعة، وبين التبطئة السردية الناتجة عن أوقات التأمل أو الحوار الداخلي والذكريات ومساءلة الذات أو أوقات الحوار. تفاوت إيقاعي نابع من التبديل بين أوقات الخطر والتوتر والقلق والخوف، وأوقات أخرى يكون فيها تأمل الطبيعة والأشجار وجمال الكون والسماء والمطر أو لحظات الاستمتاع بالطعام أو الشراب مهما كان قليلا أو صعبا. فكل هذه المغايرات جعلت الرواية ذات طبقات إيقاعية متفاوتة ولا تمضي في وتيرة واحدة أو تغلب عليها نغمة سردية بعينها، سواء لاهثة أو بطيئة، بل تأتي مزيجا محسوبا من هذا وذاك.
والحقيقة أن هذه الرواية واحدة من أجمل وأهم الروايات العربية المرشحة للبقاء طويلا في ذاكرة القراء لخصوصية عالمها ولتوافر خطابها على أحدث تقنيات السرد المشهدي والتمثيلي الذي يفيد من القديم والجديد على السواء، ويجمع بين ثقافة الصحراء والبيئة المغلقة مع ثقافة الأفلام السينمائية والأفلام الوثائقية والتصويرية عن عالم الحيوان والبيئة. وهو ما يؤكد الطاقات العظيمة لفن الرواية الذي يمكن أن يشتغل على نوازع جمالية كثيرة ويرضي رغبات عديدة لدى القارئ فيمده بالمعارف والمعلومات والثقافة على نحو ما يمنحه من تشويق الحكاية وجذب الانتباه ويجعله يعايش الحكاية ويندمج فيها إلى أقصى درجات الاندماج. وهكذا فإنها تستحق العديد من الدراسات التي تتناولها من أكثر من جانب على نحو تفصيلي أوسع.