فلسفة الحياة.. كيف نعيش مع أفكارنا؟
"أيهذا الشاكي وما بك داء.. كن جميلًا ترى الوجود جميلا".. كانت هذه احدى أشهر أشعار الشاعر إيليا أبو ماضي. وهي أشهر جملة تقع على مسامعنا ونرددها من حين لآخر، ولكن كيف لنا أن نحقق الشطر الثاني من البيت " كن جميلًا ترى الوجود جميلا"؟ ولكي نصل إلى إجابة صحيحة، علينا أن نضع السؤال في صورته الصحيحة، كيف نعيش مع أفكارنا؟ إجابتنا عن هذا التساؤل هي من تصنعنا، نعم تصنع أفعالنا.
هذا السؤال شبيه بالضبط بالسؤال الذي نسأله لأنفسنا كل صباح، ماذا سأفعل اليوم من مهام؟ ولكن السؤال الأكثر دقة هو، كيف سأفعل هذه المهام؟
أعزاءي القراء دعونا نتفق منذ البداية أن الإقدام على فعل شيء، يتطلب منا الجهد العقلي والنفسي قبل البدني لإتمام هذا الفعل. لذلك سنتعرف معًا الآن عن بعض التطبيقات والوسائل التي نص عليها بعض الأطباء والباحثين في هذا الصدد، لعلنا نستطيع أن نحصل على إجابة مرضية عن تساؤلنا موضوع المقال، بل وتكون هذه الإجابة أساس لحياتنا وتصنع فلسفتها فيما بعد.
يطلعنا الطبيب "إدوارد سبنسركولز" – طبيب ومدير مستشفى بارك أفنيو بنيويورك ومؤسس ومدير مصحة الجسم والعقل بنيويورك – عن الطريقة التي يتبعها في معالجة مرضاه، على النحو التالي:
كلما زدت اختبارًا والمامًا بفن الحياة، زاد العيش رغدًا وحرية، وسعادة، ولذة. وكلما قل تفكيرك في نفسك، وقل اهتمامك بأحاسيسك وبما يقوله الناس عنك، وبالمنافع التي تعود عليك من كل شيء، تكتشف أمامك آفاق جديدة، وطرق واحتمالات تزيد العيش بهجة ومرحًا وسرورًا. ولا سبيل إلى هذا إلا إذا تعلم الإنسان كيف يعيش.
كما أن تجديد الطاقة في الجهاز العصبي، وتنظيم الحياة أي إعادة تربية شخصيتنا من جديد، هو الدواء الفعال حتى يتخلص أي شخص من عصاب الخوف. والسؤال الذي يطرأ علينا الآن، كيف لنا أن نقوم بهذا؟
علينا أولا "العمل ضد أحاسيسنا" ومقاومتها بدلا من الإذعان إليها. فهذا هو الطريق المؤدي إلى الحرية العقلية. وبعبارة موجزة علينا إعادة تنظيم حياتنا وإلى خلق نموذج جديد من العيش. ولكن ما هي الطرق التي تمكننا من خلق نموذج جديد من العيش؟
أولى هذه الطرق "عمرك في أعصابك". العمر كمية نسبية، لا تقاس بعدد السنوات، فمن الناس من يبلغ مرحلة الشيخوخة في سن الثلاثين، ومنهم من يبقى في مرحلة الشباب وهو في الثانية والتسعين، والمسألة مسألة أعصاب. أن أكثر أعراض الشيخوخة – التذمر والتحسر، سرعة الغضب لأتفه الأسباب، تركيز التفكير في النفس، التأثر مما يمس الكرامة وإن كان من نسج الخيال، خشية وقوع كارثة أو خطر محدق. وكل هذه وأمثالها ليست مقصورة على من يبغ من العمر السبعين أو أكثر. وإنما هي جزء من نفسية الأشخاص بغض النظر عن أعمارهم، طالما كانت الطاقة في خلاياهم العصبية قد هبطت إلى الحدود العليا من المجال النورستاني.
كما أضاف إلينا الدكتور "إدوارد سبنسركولز" أن القدرة على الاستمتاع بالحياة يمكن الاحتفاظ بها إلى آخر نسمة، طالما داوم صاحبها على تغذية جهازه العصبي بالطاقة. ويبين لنا انه من بين مرضاه من تجاوز السبعين من رجال ونساء، ويعيش عيشة سعيدة. ولا تزيد عنايتهم بأنفسهم عن أكثر ما يعني كل شخص ذكي عاقل بنفسه، كما انهم لا يداومون الشكوى من أمراض لا وجود لها، ولا يكثرون من الكلام عن صحتهم والتفكير فيها. ويجدون سعادة ولذة في عشرة الناس والمساهمة في نشاطهم، ويرقصون، ولا تفوتهم الرحلات والأسفار، ويطالعون الكتب والمؤلفات. ويقضون شطرًا من أوقاتهم فيما اعتادوه من الهوايات.
وكثيرًا ما يشغلون أنفسهم بأشياء كانت لا تمكنهم الفرص في شبابهم من الاشتغال بها، أو لأنهم – على حد قول بعضهم – كانوا لا يعرفون في ذلك الحين من فن الحياة ما يعرفون اليوم.
وثاني هذه الطرق "داء التردد". أن العجز عن اتخاذ قرار نهائي حاسم، حتى في الأشياء التافهة، من الأعراض الشائعة للضعف العصبي. فالكثير من المرضى يقضي ساعات في ارتداء ملابسه، لأنه لا يستطيع أن يقرر أي جورب يلبس قبل الآخر، أو أن يمشط شعره قبل الاستحمام أو بعده، أو أي رباط رقبة أو أية بذلة يختار لذلك اليوم. لذلك عود نفسك يوميًا على اتخاذ قرار حاسم فيما تقدم عليه من الأعمال، ولا تذعن للشرود، ولا تخش عاقبة الخطأ.
وثالثها "أهمية اللعب". قل من الناس من يخصص وقتًا كافيًا للعب إذا ما تقدم فن السن، وذلك لأنهم يعدون العيش عملية شاقة، وينظرون إلى الحياة "كروتين" تجري نغماته على وتيرة واحدة. إن اللعب لا يستنفد الجهد كما يظن البعض، ولكنه على النقيض من ذلك يغذي الطاقة ويجدد القوى، وينشط البدن فيتضاعف عمل صاحبه وإنتاجه. ولا شك أن هذا الدواء الذي أصفه لهم، ألذ طعمًا وأعم فائدة، من كثير من العقاقير التي يصفها الأطباء لمرضاهم.
ورابعها "لا تكن رقيبًا على نفسك". يواصل المصابون بأمراض عصبية الرقابة على أنفسهم ليلًا نهارًا.. تجنب هذه العادة الذميمة.. أقلع عنها في أول فرصة ممكنة، فيما يختص بما تحب وما تكره.
وأذكر أن لا شيء أقدر على تجديد الذهن من تغيير المادة التي يفكر فيها. وليس أشد خطرًا على النفس من الأفكار الثابتة الملحة، وسواء أكانت هذه وساوس دينية أو تحزبًا لآراء عنصرية أو سياسية، أم تعصبًا لمسائل اجتماعية، فإنها كلها منهكة للجسم، مضنية للعقل.
أما خامس هذه الطرق وآخرها "لا تخف من المسؤولية". المسؤولية لا تقتل أحدا أبدًا.. وليست هي التي تهد كيان الجسم وتضني العقل، ولم يسمع من أحد أنه مات بسبب القيام بأعماله اليومية. قد تلقي اللوم على العمل إذا أصبت بالمرض، ولكنك بذلك تتخطى المذنب الأصلي وهو "نفسك". وبعبارة موجزة، ليست الوظيفة هي التي يعزى إليها المرض، بل الوسيلة التي بها تؤديها. وليست المسؤوليات هي سبب علتك، وإنما الكيفية التي بها تستجيب لها.
كما ترشدنا الدكتورة "مرجريت هول البچيرچ" في بحثها المعنون بـ "التفكير المستقيم: إلزام خلقي"، إلى الطريق الصحيح للتفكير قائلة: "إن الجهل لا يصنع أحمق كما يصنعه خداعه لنفسه. وعلى ذلك فإذا أراد الرجال والنساء تحصيل معرفة صحيحة فليكونوا ذوي عقول يقظى، ونظرة متدبرة، ورغبة عن طواعية في أن يغيروا نظرتهم، وبهذا فهم حين يطرحون الجهالة تراهم عندئذ يبدأون طريقهم نحو تحصيل المعرفة بداية طيبة. وذلك لأنهم حين يسعون مخلصين في سبيل المعرفة بالشئون العامة، فهم يلمون بالحقيقة، وهم بهذا يرقون في قدرتهم على الفهم، وكثيرًا ما يحققون بذلك طمأنينة النفس. والحق أنهم بهذا إنما يعملون بقسط متواضع على تأييد قضية الحق في مجتمع ديمقراطي".
ومن ناحية أخرى كتب الدكتور "وليام راسل" بحث بعنوان "تعلم فن العيش"، حاول فيه أن يعطينا صورة مبسطة للحياة، فيقول: "إن العبارة الشهيرة يولد الإنسان حرًا، ولكنه مكبل بالأغلال في كل مكان، كانت تقدير روسو للمجتمع الذي رآه من حوله منذ مائتي عام. وكان روسو يعني "بالأغلال" الاستبداد بعقل وهدف الإنسان – التحكم المستبد في الدين والكلام، والحياة الاقتصادية والامتيازات في المحاكم، وقاعات الحكومة، وفرص العمل، والتقدم. وبكلمة "يولد حرًا" جلى روسو الفكر السائدة آنئذ بأن شرور العالم ليست فطرية، ولكنها من صنع الإنسان، وبأن العودة إلى الإنسان الطبيعي كفيلة بجلب الحرية والمساواة".
وفي الختام، عزيزي القارئ أخرج من "نفسك" ذلك السجن الذي يأوي شتى أنواع الخوف، والحساسية، والخجل، والاستحياء، أهدم تلك الحواجز. إن الحياة لك، وبين يدك، وأنت حر التصرف فيها، وفي وسعك تشويهها، وفي وسعك تزينها وملؤها بهجة ونورًا. إذا استطعت حقًا أن تُرتب أفكارك وتروض عقلك، حينها تستطيع أن تعيش مع أفكارك في سلام، وتصنع فلسفة تسير بها في الحياة، تكون سببًا في تقدمك.