رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


عصر طاقة الاندماج النووي قادم

19-12-2022 | 15:17


د. علي عبد النبي,

الآن أصبح حلم الاندماج النووى أقرب إلى الحقيقة، فبعد طول انتظار نجح الباحثون الأمريكيون، فى مختبر "لورانس ليفرمور الوطنى"، بمعهد الإشعال الوطنى National Ignition Facility (NIF) فى كاليفورنيا، التابع لوزارة الطاقة، فى تحقيق "اختراق علمى كبير"، فى مجال الاندماج النووى. فقد استطاعوا محاكاة ما يحدث من اندماج نووى فى الشمس والنجوم. الإشعال، هو اسم أطلقه العلماء على الاندماج النووى الناجح.

الاندماج النووى، هو عملية يتم فيها اندماج نواتان لذرتين خفيفتين، لتكوّنا نواة ذرة واحدة أثقل من أى منهما، كتلة النواة الناتجة من الاندماج النووى أقل من مجموع كتلة النواتين المندمجتين، الفرق فى الكتلة وهى كتلة صغيرة مفقودة تتحول إلى طاقة. هذه الطاقة تبلغ أربعة أضعاف كمية الطاقة التى تنتج عن تفاعلات الانشطار النووى، والمستخدمة فى مفاعلات الأبحاث ومفاعلات توليد الكهرباء، والمنتشرة فى كثير من دول العالم.

ذرة الهيدروجين أخف ذرة فى الكون، والاندماج النووى هو مصدر للطاقة فى الشمس وفى النجوم. وطاقة الشمس تأتى من اندماج 4 ذرات هيدروجين، وينتج من الاندماج غاز الهيليوم، وهو غاز خامل وغير سام. فى كل ثانية يندمج 600 مليون طن من الهيدروجين فى باطن الشمس عند درجة حرارة حوالى 15 مليون درجة مئوية، وينتج عن ذلك طاقة ضوئية، وطاقة حرارية.

يحدث الاندماج النووى عندما يكون الوقود "الهيدروجين أو نظائر الهيدروجين" فى حالة تُسمى بحالة البلازما، وهى حالة تتَّخذ المادة فيها شكل غاز ساخن مشحون، مكوَّن من أيونات موجبة وإلكترونات طليقة. فى المختبرات ومراكز الأبحاث المتخصصة، يستخدم نوعان من الهيدروجين الثقيل، أى نظائر الهيدروجين "الديوتيريوم والتريتيوم" فى عمليات الاندماج النووى، وينتج على إثر هذه العملية ذرات "هيليوم ونيوترونات". بمعنى أن الجيل الأول من مفاعلات الاندماج النووى، سوف يستخدم وقوداً مكوَّنا من مزيج من "الديوتيريوم والتريتيوم". ومن الناحية النظرية نجد أن بضعة جرامات من مزيج "الديوتيريوم والتريتيوم"، يمكن إنتاج كمية من الطاقة تبلغ تيرا جول.

لزيادة فرص تصادم نويات الذرات، يجب حبس النويات داخل حيّز صغير، بواسطة ضغط عالى جدا. ولكى يتم الاندماج النووى، يتطلب الأمر تصادم نويات الذرات بعضها ببعض فى درجات حرارة عالية جداً تتجاوز عشرات الملايين من الدرجات المئوية، حتى تتمكن من التغلُّب على التنافر الكهربائى فيما بينها. فإذا تغلَّبت النويات على هذا التنافر، وصارت المسافات بينها قريبة للغاية، بذلك تصبح قوة التجاذب النووى بينها أعلى من قوة التنافر الكهربائى، بما يتيح لها أن تندمج معاً.

"الاشعال" سيسمح بإنتاج قدر غير مسبوق من الطاقة، ما يمهد الطريق نحو "نقطة التعادل"، التى تتساوى عندها كمية الطاقة الداخلة مع كمية الطاقة الناتجة من الاندماج.

إنها خطوة بالغة الأهمية تبشر بطاقة الاندماج الواعدة وتسمح للفيزيائيين بتفحص الظروف في بعض أكثر الحالات تطرفاً فى الكون، من بينها الظروف التى آل إليها "الانفجار العظيم" بعد دقائق قليلة من حدوثه.

ما قام به الباحثون الأمريكيون، هو اختراق علمى كبير، فقد توصلوا لحل واحدة من مشاكل الطاقة الأكثر إرباكا فى كل العصور. ونجاح تجربة الباحثون الأمريكيون، يعتبر أكبر تقدم نحو الاندماج النووى، منذ أن شرع علماء العالم محاولاتهم فى هذا المجال، فى سبعينيات القرن العشرين.

الاختراق العلمى الكبير يتلخص فى أن العلماء الأمريكان، قد توصلوا بعد محاولات عديدة، إلى أن كمية الطاقة الناتجة من الاندماج النووى، أكبر من كمية طاقة الليزر التى استخدمت فى عملية الاندماج النووى نفسه، وهو ما يعرف بـ "صافى طاقة مكتسبة".

هذا الانجاز الكبير لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة مجهود شاق بذل على مر السنين. فقد توصل الباحثون إلى زيادة كمية الطاقة المنتجة بمقدار 25 ضعف الطاقة المنتجة من التجارب التى أجريت فى عام 2018.

طريقة الحبس بالقصور الذاتى ICF، هى الطريقة المتبعة فى أبحاث معهد الإشعال الوطنى للاندماج النووى، حيث يستخدم الليزر فى رفع درجة حرارة الوقود "الديوتيريوم والتريتيوم"، وضغطه بدرجة عالية جدا.

يوفر الليزرالعملاق الموجود فى مبنى بحجم ثلاثة ملاعب كرة قدم أمريكية، نبضا قويا من الأشعة تحت الحمراء، مقسم إلى 192 شعاعا، يتم تحويلها إلى ضوء فوق بنفسجى.

أشعة الليزر يتم توجهيها إلى الهدف فى حجرة الهدف بعرض 9 متر. تركز حزم أشعة الليزر على أسطوانة الهدف أو التجويف، تمر أشعة الليزر عبر فتحات فى أعلى وأسفل التجويف، وتضرب جدرانه الداخلية، حيث يركز الليزر حرارة بشكل كثيف على الوجه الداخلى للتجويف. أسطوانة الهدف عبارة عن علبة ذهبية بحجم ممحاة قلم رصاص (طول 1 سم، وعرض 0.5 سم)، تقوم بتحويل الأشعة فوق البنفسجية إلى الأشعة السينية (أشعة إكس)، بداخلها كبسولة صغيرة معلقة فى منتصف التجويف، ومطلية بالماس بحجم حبة الفلفل الأسود أو القطرة (طلاء الماس زاد سمكه بنسبة 10% عن تجربة 8 أغسطس 2021).

الكبسولة تحتوى عادة على خليط من حوالى 10 ملليجرام من نظائر الهيدروجين "الديوتيريوم والتريتيوم". يتم التسخين إلى ملايين الدرجات، ويصدر الذهب أشعة سينية تبخر الغلاف الماسى للكبسولة. الماس المنفجر يفجر داخليا الوقود ويضغطه ويسخنه، كل هذا يستغرق 100 تريليون جزء من الثانية. ضغط الوقود يصل إلى 100 ضعف كثافة الرصاص، وتسخينه يصل إلى 100 مليون درجة مئوية، وهو ما يعد أكثر حرارة من حرارة باطن الشمس. تندمج نويات "الديتيريوم والتريتيوم" معاً بشدة لتشكل جسيمات تُدعى جسيمات ألفا "هيليوم"، التى تتفاعل مع مادة ساخنة محيطة بها فى حالة "بلازما" (غاز أيونى)، وتؤدى إلى تفاقم حراراتها. تطلق البلازما الساخنة مزيداً من جسيمات "ألفا"، فى تفاعل تسلسلى مستدام ذاتياً يُشار إليه بـ "الاشعال".

إذا كان ضغط الوقود متماثلا بدرجة كافية، تبدأ تفاعلات الاندماج فى نقطة مركزية ساخنة وتنتشر بسلاسة إلى الخارج، ومع الحرارة الناتجة عن الاندماج، تكون شرارة للمزيد من الاحتراق، هذا الحرق الذاتى هو ما يحدد الاشعال.

تضيف جسيمات ألفا المزيد من الحرارة والضغط، يبدأ ما يكفى منها (حرارة وضغط) سلسلة تفاعلات "المزيد من الحرارة والمزيد من الضغط والمزيد من جسيمات ألفا والمزيد والمزيد" حتى الإشعال. الضغط لابد وأن يكون متساويا على قطرة الوقود من جميع الاتجاهات، حتى تتجمع فى بلازما كروية، تحول الطاقة الحركية إلى طاقة حرارية. إن لم تكن كتلة الطاقة المنتشرة بسبب اندماج قطرة الوقود كروية تماماً، لن تكون كثيفة بدرجة كفاية من أجل الاندماج.

الحيلة فى اندماج الحبس بالقصور الذاتى، هى أن معدل تفاعلات الاندماج هو دالة فى الكثافة، ويمكن تحسين الكثافة من خلال الضغط. إذا تم ضغط قطر قطرة الوقود من 1 مم إلى 0.1 مم، فإن زمن الحبس ينخفض بنفس المعامل 10. فى الوقت نفسه، تزداد الكثافة، وهى مكعبة الأبعاد، بمقدار 1000 مرة. وهذا يعنى أن المعدل الإجمالى للاندماج يزيد 1000 مرة بينما ينخفض الحبس 10 مرات، وهو تحسن بمقدار 100 ضعف. فى هذه الحالة 10% من الوقود يخضع لعملية اندماج ؛ 10% من 1 ملى جرام من الوقود ستنتج طاقة حوالى 30 ميجا جول، 30 مرة من الطاقة اللازمة لضغطها على تلك الكثافة.

أسفرت تجربة أجريت فى 8 أغسطس2021 عن ناتج طاقة متولدة من الاندماج النووى مقدارها 1.35 ميجا جول، وطاقة ضوء الليزر التى استخدمت لبدء تفاعل الاندماج النووى، من 192 جهاز ليزر فائق الطاقة، كان مقدارها 1.9 ميجا جول، سلطت على قطرة الوقود داخل كبسولة صغيرة، أى ما يعادل حوالى 71% من طاقة الليزر التى سلطت على قطرة الوقود.

آخر تجربة تمت فى الساعة 1 صباحا يوم 5 ديسمبر 2022، قام الباحثون فى معهد الإشعال الوطنى بتركيز طاقة مقدارها 2.05 ميجا جول من ضوء الليزر على كبسولة صغيرة من وقود الاندماج وأحدث انفجارا، وأنتج 3.15 ميجا جول من الطاقة. لكن الطاقة المستخدمة من شبكة الكهرباء لتشغيل أجهزة الليزر، كانت حوالى 300 ميجا جول.

إذا كان الكسب يعنى إنتاج طاقة من الاندماج النووى أكثر من طاقة الكهرباء المستهلكة فى التجربة، فإن التجربة التى تمت فى المعهد كانت أقل بكثير، فى حدود 1%. وبالتالى، على الرغم من أن إنجاز المختبر يعد خطوة مهمة، إلا أن الاندماج بالقصور الذاتى لا يزال بعيدا عن أن يصبح مصدر طاقة قابل للتطبيق.

علاوة على ذلك، ستحتاج محطة توليد الكهرباء التى تعتمد على هذه الطريقة، إلى رفع معدل تكرار حدوث الاندماج الذى يحدث فى زمن مقداره جزء من الثانية، التكرار يأتى من تعدد كبسولات الوقود. من كبسولة واحدة فى اليوم، كما تم فى التجربة، إلى عدد من الكبسولات فى الثانية الواحدة، لا يقل عن 10 كبسولات. لذلك سيكون المطلوب توفير أكثر من 800 ألف كبسولة فى اليوم، وتعبئتها، ووضعها، وتفجيرها، وإزالتها، وهو تحد هندسى رهيب.

طاقة الاندماج بالليزر "طريقة الحبس بالقصور الذاتى" لديها قائمة طويلة من العقبات الهندسية التى يجب التغلب عليها، مثل إيجاد طرق لتصنيع كبسولات الاندماج على نطاق واسع، وإجراء طلقات الليزر باستمرار، وتوليد التريتيوم صناعيا.

لذلك يصبح تركيز جهود الباحثين فى الفترة القادمة، منصبة على زيادة عائد طاقة الاندماج النووى، وبكميات كبيرة، وأن يظل تفاعل الاندماج النووى تفاعلاً متسلسلاً مستداماً ذاتياً، وينتج عنه الحرارة والضغط المطلوبين لإستمرار طاقة البلازما بالكمية المطلوبة لاستمرار التفاعل المتسلسل.

هذا المكسب القليل من الطاقة، والذى أطلق عليه " الاختراق العلمى الكبير"، يعتبر بداية الطريق، فأول الغيث قطرة. ولتحويل الاندماج النووى إلى مصدر طاقة مستدام، سنحتاج إلى زيادة ما نكسبه من الطاقة على نحو أكبر. وبذلك يمثل الاختراق نقطة تحول، على طريق تطوير مورد جديد للطاقة، يمكن ربما يوماً ما، أن يولد طاقة بكميات هائلة بطريقة نظيفة وآمنة ومستدامة. ويصف مدير مختبر لورانس ليفرمور هذا الحدث العلمى بأنه "أحد أهم التحديات العلمية التى واجهتها الإنسانية على الإطلاق".

العمل لن يتوقف عند هذا الحد، لكن سيستمر العمل لإيجاد طرق وحلول علمية وتكنولوجية، حتى يصبح الاندماج النووى متسلسلا، ويعطى ناتج طاقة كبير وبتكلفة أقل بكثير، فى هذه الحالة يكون الحلم قد تحقق، ونحصل على محطة تجارية لإنتاج الطاقة الكهربائية.

اندماج الحبس بالقصور الذاتى Inertial confinement fusion (ICF)، هو أحد فرعين رئيسيين لبحوث طاقة الاندماج، والآخر هو اندماج الحبس المغناطيسى Magnetic confinement fusion (MCF). أظهرت التجارب خلال السبعينيات والثمانينيات أن كفاءة هذه الأجهزة كانت أقل بكثير مما كان متوقعا، ولن يكون الوصول إلى الاشتعال أمرا سهلا.  

فى نفس الوقت الذى يجرى فيه تطوير طريقة اندماج الحبس بالقصور الذاتى، يجرى أيضا تطوير مشاريع أخرى للاندماج النووى فى مختلف أنحاء العالم. ومشروع اندماج الحبس المغناطيسى، هو مشروع دولى كبير، يعرف باسم المفاعل النووى الحرارى التجريبى الدولى (إيتر)  ITERوهو قيد الإنشاء حاليا فى فرنسا. بدلا من الليزر، سيستخدم "إيتر" تكنولوجيا تُعرف باسم الحبس المغناطيسى، تحتوى على كتلة دوامة من بلازما الهيدروجين الاندماجية داخل حجرة ضخمة على شكل كعكة دائرية.

الاندماج النووى، مصدر نظيف ووفير وآمن ومستدام للطاقة، يمكن أن يسمح للبشرية فى نهاية المطاف بإنهاء اعتمادها على الوقود الأحفورى الذى يتسبب بأزمة المناخ العالمية. الوقود المستخدم فى الاندماج النووى "الديوتيريوم والتريتيوم" متوفر، رغم أن "التريتيوم" غير متوفر فى الطبيعة، وينتج صناعيا.

مثل الانشطار، يكون الاندماج خاليا من الكربون أثناء التشغيل، ولكن مزاياه لا تتوقف عند هذا الحد؛ فهو لا يمثل خطر حدوث كارثة نووية مثل "تشرنوبل وفوكوشيما"، حيث سيتوقف الاندماج النووى فورا. ولا توجد حرارة متبقية فى قلب المفاعل بعد توقف تفاعل الاندماج، ولا يوجد وقود نووى يحدث له انصهار عند توقف التبريد. ولا يوجد وقود محترق مشع مطلوب تخزينه لآلاف السنين فى كهوف ملحية.  النفايات المشعة الناتجة من مفاعلات الاندماج النووى أقل بكثير من نفايات مفاعلات الانشطار النووى، وهى متمثلة فى تلوث مواد قلب المفاعل، نتيجة خبطات النيوترونات الناتجة من تفاعل الاندماج النووى.

الطريق ما زال طويلا قبل أن يصبح الاندماج النووى قابلا للتطبيق على نطاق تجارى، قد يستغرق ذلك 10 أو 20 عاما أخرى. لكن عندما يجرى تطبيق الاندماج النووى على نطاق تجارى لتوليد الطاقة، من المتوقع أن يلبى احتياجات البشرية من الطاقة لملايين السنين.