قصيدتان.. في جِنازةِ رجلٍ نَكِرَةٍ!!
ويظل الموت هو الحقيقة التي لا يملك الإنسان قرار الفرار منها، أو القدرة على ذلك أياً كان منصبه أو ماله، فالكل أمامه سواء، وعاجلاً أو آجلاً سنخرج من هذه البوابة المعلومة المجهول ما بعدها ، ومن منا لم يؤرق الموت باله...؟ !! ، ومن منا لم يشغله ذلك المصير المحتوم، وأثار في أعماقه المضطربة تساؤلات ٍحيرى عن الموت والحياة ..؟!! لقد عبَّرتْ الشعوب بثقافاتها وأساطيرها عن قضية الموت ، وسجَّلتْ الكثير من التصورات عن طبيعة الوجود والفناء في فنونها الإبداعية. وكان الشعر من أهم هذي الفنون التي حوت الكثير من تأملات الشعراء الذهنية تعبيراً عن حيرتهم وعجزهم المطلق أمام حقائق الحياة والفناء.
ولم يكن الشاعر الجاهلي إلا كسائر البشر شغلته قضية الموت، وقاده تأمله إلى إدراك قِصَر الحياة. ومحدودية الأعمار، فهي مثل الكنز تنقص كل يوم دونما زيادة، كما يقول طرفة بن العبد: (أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة ...!!) وهذا الشاعر المخضرم (أبو ذؤيب الهذلي) وقد أدرك الجاهلية والإسلام قد عاين الحياة بعين المتأمل مَنْ حَوْلَه، فأفزعه كيف تفتك المنايا بالناس وهم عاجزون لا يملكون دفْع الموت أو الفرار منه ، فلا التمائم تنفع، ولا التعاويذ تجدي، إذ يقول في عجزٍ واستسلامٍ للواقع: وإذا المنية أنشبت أظفارها ## ألفيت كل تميمة لا تنفع.
أجل.. رثى الشعراء موتاهم من الأهل والأقارب حزناً وبكاءً، كما رثوا ذوي المكانة والمنزلة حباً ووفاءً بل رثى بعض الشعراء أنفسهم قبلما يغادرون الحياة، فهذا (مالك بن الريب) من قصيدته البديعة في رثاء نفسه يقول: تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ # # سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا، لكن أن يصوِّر الشعر جِنازة رجلٍ مجهولٍ، لا يعرفه الشاعر لكنما يستشعر ألم الفقْد، ويبثُّ أحزانه، فذاك ما استوقفني، كيف يمكن للشاعر أن يتناول تجربةً كهذي لأجد قصيدتين بديعتين؛ قصيدة (نَكِرةٌ ...فَحَسْب !!) للشاعر الأثيوبي (هاما توما)، وقصيدة للشاعر العربي (محمود درويش) تحمل هذا العنوان "لا أعرف الشخص الغريب" وهو نصٌ في غاية الروعة يستوقف الباحثين ؛ حيث كتبه الشاعر في أيامه الأخيرة ، يصوِّر تجربة المشاركة في جنازة هذا الغريب ..( لم أجد سبباً لأسأل : من هو الشخص الغريب؟ وأين عاش ... وكيف مات !! فإن أسباب الوفاة كثيرةٌ من بينها وَجَعُ الحياة ... !! ) ، ويستمر الشاعر ( محمود درويش ) في تجربته الإنسانية الفريدة مصورا حال الفقيد الغريب الذي لا يأبه لموته أحد ؛ فهو من العوام الذين يرحلون دونما ضجيجٍ .. ( لم أجدْ سبباً لأسأل : من هو الشخص الغريب ... وما اسمه ؟ !! لابرْقَ يلمع في اسمه .. والسائرون وراءه عشرون شخصاً ما عدايَ ... !!! ) وهذا الغريب ربما يكون من الكادحين الذين يعانون مشاق الحياة ، وربما كان من مرتكبي الجرائم ..!!! ( لا فرْقَ ... فالموتى سواسيةٌ أمام الموت ..!! لايتكلمون ، وربما لايحلمون ) ثم يختم ( محمود درويش ) قصيدته بهذا التصوُّر الغريب ( وقد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتي ...!! لكنَّ أمراً ما إلهياً يؤجِّلها .... لأسبابٍ عديدةْ ...!! ) .
لتأتي قصيدة (نكرة ... فحسب !!) غايةً في الشجن ، يدخل بنا الشاعر الإثيوبي (هاما توما) المشهد الجنائزي دونما تهيئةٍ، أو إعدادٍ نفسيٍّ من خلال العنوان الصادم حيث يحذف الموصوف ويُبقي الصفةَ بما تحمله من ضآلة القدْر، وتتوالى الصور الواقعية لهذا الرجل الميت، فتنقلنا إلى وجع الفقر الملازم حتى الختام فالملابس الرثة لم تفارقه ،وقدماه الحافيتان قد عانتا السير في الحياة فلم يستقل الرجل حافلةً ، ولم يحمل هويَّةً، ولا يملك غير قطعة معدنية واحدة بما يثيره ذلك من فقرٍ قاتلٍ ، ويكرر الشاعر وصف الرجل ب " نكرة " مرتين ، ومرةً ثالثةً بلفظٍ مرادف " كان لا أحد " يتوسط ذلك وصفان قاسيان "متسخاً هزيلاً"، لكنه يموت مكوِّراً يدَه ، ليختم الشاعر المشهد الجنائزي بمفاجأةٍ تغاير كلَّ التوقعات، فالكل يجثو ليفتح أصابع الميت؛ فإذا به يضمها على كل بلاده رغم أنها لم تمنحه أبسط حقوقه ... هيا بنا إلي هذي القصيدة المدهشة ( نكرة ... فحسب !! ) والشاعر الإثيوبي "هاما توما":
الرجل الميت لم يكن أحداً مجرد رجلٍ ميتٍ في ملابسَ رثَّةٍ ... لا حذاء فقط قطعة نقودٍ في جيبه ... لا بطاقة هويّةٍ ... لا تذكرة حافلة !! كان نكرةً ... متسخاً هزيلاً ... كان لا أحد ... نكرة !! ذاك الذي كوَّر يده قبل موته ... عندما جثوا ليفتحوا أصابعه هذا النكرة .... وجدوا بلاداً كاملة !!!