شارل بودلير.. شاعر أزهار الشر
نحن الآن أمام قبر "بودلير" ينتابنا الأسى على عبقري غادر الدنيا التي عاش أغلب أيامه فيها حزينًا ناقمًا يتحدث عن الندم والشر، ويخالطنا في الوقت ذاته شعورٌ بالفخر لأننا وسط لفيف من شعراء فرنسا الذين يقفون الآن واجمين على قبر زميلهم العظيم وملهمهم الذي ابتدع صورًا شعرية موسيقية وعرضها في إطار فني يبهر البصر ويفتح مغاليق البصيرة ويبشر بمذهب شعري جديد – لم يولد بعد- هو المذهب الرمزي.
لقد ظهر نجم "بودلير" في الأفق في عصر كانت فرنسا فيه تشهد مرضًا عضالًا يدب في أوصال أدبها الذي عانى من الضعف والتدهور، وحين جاء شاعر "أزهار الشر" وغيره من الأدباء الحقيقيين بدأت الأمور تتغير نحو الأفضل، وإذا بالانحدار الأدبي يتحول إلى ازدهار، وما كان هذا إلا لأن شاعرنا أضفى أنغامه العذبة ومشاعره الحقيقية وصوره المبتكرة ومعانيه المشرقة، كانت قصائده ألحانًا تطرب لها القلوب والآذان، وكان شعره روحًا نفخها في جسد الأدب الفرنسي، فالخيال عنده له دور ومهمة وليس ضربًا من الوهم، والقافية ليست قيدًا للقصيدة بحيث تخرجها عن مسار الفن، والشعر عامةً ليس هذا الكلام الموزون فحسب، إنه ليس نظمًا مجردًا؛ وإنما تعبير موسيقي يبهر الألباب ويجذب القلوب الباحثة عن الجمال، إن الشعر عند "بودلير" كشف لمواطن الجمال في الطبيعة والوجود والحياة.
"لقد منحتك الطبيعة كل عبقريتها ولم تترك لأحدٍ شيئا" عبارة قالها الموسيقار "شوبيرت" على قبر أستاذه "بيتهوفن" يرثيه بها، ولم تكن هذه العبارة إلا لسان حال الشعراء الواقفين على قبر أستاذهم "بودلير" المولود في 19 أبريل عام 1821م بمدينة "باريس".. والده كان يعمل مدرسًا للرسم، وكان فنانًا مثقفا يعشق الجمال، أما والدته "كارولين أرشامبوي" فكانت سيدة مهذبة معروفة بالرقة وتحب اللمسات الجمالية ولها شغف بالزينة والعطور.
وللأسف، مات والد "بودلير" وهو في السادسة من عمره، فتزوجت والدته من ضابط بالجيش الفرنسي، ونَقِمَ "بودلير" على هذه الزيجة، ومع أنها من حق والدته إلا أنه اعتبرها خيانة له! وقابل زوج أمه بكل كراهية فهو بالنسبة له وافد غريب غير مرغوب فيه وقد أتى ليسرق منه أمه التي ليس له غيرها، وكما غضب من زوج أمه يبدو أنه غضب من الحياة عمومًا، وكان لهذا الغضب أثر عميق عليه فانعكس هذا على أدبه وفنه حتى مات.
وقد مارس بودلير أشكالًا مختلفة من الأدب، فقد كتب القصة والنقد الأدبي والمقالة الصحفية؛ على أن شهرته كشاعر هي التي لازمته حتى الآن؛ إذ كان الشعر هوأول عمل أدبي يخطه بيمينه، وكان يحب القصة أيضًا، وجاءت أول قصة منشورة له في مجلة جمعية الأدباء عام 1847، كما انتظم في كتابة النقد الفني من خلال صحيفة "القرصان الشيطان " وظهرت أولى مقالاته في هذا الإطار في معرض للتصوير أقيم بين عامي 1845-1846م وعُرِفَت مقالاته بالإصابة في أحكامها وسداد الرأي بما جعله الناقد الأول في فرنسا في تلك الفترة.
وبعد هذا النجاح والسمعة الطيبة طلبت منه الصحف الأدبية والفنية في فرنسا - التي كانت ولا تزال تقدر العلم والثقافة- أن يكتب أبحاثه في النقد ودراساته الأدبية وقصائده لتنشرها له بمقابل يليق به، وهكذا ازدهر قلم "بودلير" ونشر العديد من أبحاثه القيمة التي نذكر من بينها "مقالات عن روسوم دلاكروا ومانيه" و"موسيقى فاجنر" و"آثار الكاتب السويدي سوبرنبرج".
وفي عام 1848 قامت الجمهورية الثانية فرنسا بعد ثورة أخرى غير الثورة الفرنسية المعروفة التي قامت في القرن الثامن عشر، وانتخب الشاعر "لامارتين" رئيسًا للحكومة المؤقتة التي شُكِّلَت لإجراء الانتخابات، والحقيقة أن "بودلير" لم يكن من ضمن الثائرين، وذلك لأنه باختصار "لا يفهم في السياسة" ولذلك نراه حينما حاول إصدار صحيفة ذات طابع سياسي وحزب للأدباء لم ينجح، فلهذا قرر أن يعكف على أدبه وفنه ويترك السياسة لأهلها.
وبعد أن ترك المجال السياسي الذي لا يحبه ولا يفهمه ترجم أعمال الكاتب الأمريكي "إدجار آلان بو" وقال النقاد إن ترجمته أفضل من الأصل! ثم تعاقد مع الناشر "بوليد مالاس" على نشر مجموعته الشعرية "الاعتراض" والتي فضل أن يغير عنوانها إلى "أزهار الشر" وهو العنوان المشهور الذي عرفت به تلك المجموعة، وهي مجموعة مؤثرة وقد ترجمها إلى العربية الشاعر الرومانسي "إبراهيم ناجي" المعروف بشاعر الأطلال، وجدير بالذكر أن تعاقده على نشر المجموعة كان في فبراير لعام 1857 وقد صدرت المجموعة في شكلٍ أنيق بعد هذا التاريخ بخمسة أشهر.
ولشاعرنا "بودلير" مجموعتان أخريان هما "قصائد شعر منثور" و"الفراديس المصطنعة" على أن "أزهار الشر" كانت فارقة في تاريخ ذلك الأديب، بل وفي تاريخ الشعر الحديث عمومًا؛ فقد صدرت تلك المجموعة بالتحديد في 18 فبراير لعام 1857م وكانت رواية "مدام بوفاري" في أروقة المحاكم تعرض صاحبها "جوستاف فلوبير" للمسائلة القانونية لأسباب اجتماعية وأخلاقية...إلخ، مع أننا لو نظرنا إلى الرواية الآن فسوف يصيبنا الدَّهَش من تعرضها لأي محاكمة من أي نوع، والأعجب أن وزير الداخلية الفرنسي رأى أنه من المستحسن بالمرة محاكمة ديوان "أزهار الشر" هو الآخر، ليأخذ "بودلير" في الرجلين – كما يقول المثل الدارج عندنا- وجاءت المحاكمة، ليست للشر طبعًا؛ بل للأزهار.
وفي يوم المحاكمة امتلأت القاعة عن آخرها بصفوة الأدباء الفرنسيين، وتولى الدفاع عن المتهم المحامي "وستنج" وبعد سماع المرافعة وما إلى ذلك نزل الحكم كالصاعقة؛ إلغاء 6 قصائد من "أزهار الشر" دفعة واحدة، وتغريم "بودلير" 300 فرانك، وتغريم الناشر أيضًا مبلغ 200 فرانك.. وأفقد الحكم حضور الجلسة القدرة على النطق، وبعضهم أخذ يهتف: يحيا بودلير، يحيا بودلير.
واتصل المثقفون بالإمبراطورة "أوجيني"- فقد عادت الملكية إلى فرنسا!- وكانت الإمبراطورة تعتبر نفسها حامية الأدب والفن وراعية المثقفين، وتدخلت "أوجيني" وتم إلغاء حكم منع نشر القصائد الست من "أزهار الشر" وتخفيض الغرامة على بودلير لتصبح 50 فرانك فقط.. وأرسل "فيكتور هوجو" الشاعر الكبير إلى زميله "بودلير" رسالة يشد فيها من أزره ويذكره بأنه أحدث نقلة في فن الشعر وقال: " لقد أحدثت في الشعر ارتعاشة جديدة".
وهكذا عرف العالم شاعر الحزن والغضب، الناقم على الزيف والخطيئة، ولكنه قبل ذلك وفي أثناءه "شاعر الحب والحياة" وكما كانت "أزهار الشر" أشهر أعماله؛ كانت بالمثل أشهر المجاميع الشعرية لفترة طويلة.
ملحوظة في الختام: رواية "مدام بوفاري" التي عرضت صاحبها "فلوبير" للمحاكمة وأثرت سلبًا على "بودلير" كذلك، هي رواية يمكن تصنيفها ضمن الأدب الواقعي، ولا شك أنها كانت من أولى الأعمال في موجة الواقعية التي أصبح لها السيادة فيما بعد، ويمكن القول إن "فلوبير" و"بلزاك" كانا رائدا الواقعية في بداياتها. وقد ثار النقاد على "مدام بوفاري" ووصفوها بأنها خطر على الأخلاق! فقبضت الحكومة الفرنسية على "فلوبير" بتهمة "التمكين للأدب الخليع" وبعد محاكمة وصفت بالعاصفة تمت تبرئة "فلوبير"! على أن ذلك لم يمنع رئيس المحكمة من توبيخ "فلوبير" شفويًا! وقد تولى القراء مهمة الدفاع عن "مدام بوفاري" وحاولوا أن يقنعوا النقاد والقضاء بأن الرواية "وصف صادق وأمين" للحياة، وكان "فلوبير" ثابتًا لا يحفل بالهجوم ولا بالمدح أيضًا! بل يجلس في بيته مثل رجل صوفي يستوي عنده كل شيء، ويفضل العزلة ترفعًا عن السفاسف والتفاهات، ويستمتع بالتفكر في عبثيات الحياة ويرى أن التهكم والسخرية هما الملح الذي يمكن البشر من مواصلة عناء السير في عالم سخيف مجنون!!.