رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


في القاموس السياسي والجغرافى والعمرانى ضوابط تأسيس "العاصمة"

12-1-2023 | 16:28


د. بهى الدين مرسي

د. بهى الدين مرسي

يأتي هذا المقال في سياق الطرح الموسوعى الذى تعده "الهلال" حول عواصم مصر عبر التاريخ، وهو طرح ثرى، إذ لا بد وأن يتضمن تفاصيل العاصمة من كافة الجوانب، الجغرافية، والسياسية، والاقتصادية وحتى الديموغرافية.

لنبدأ بتعريف معنى العاصمة من الناحية الاصطلاحية واللغوية، فجاء وصف العاصمة من الفعل "عصم"، وتشير المعصومية في أى شأن إلى الحصانة التي يتمتع بها الاسم أو العلم، ولذلك اتفق العسكريون على أن غزو عاصمة أى دولة في الحروب يعلن هزيمة الدولة، ويؤكد تمام احتلالها ونزع سيادتها، وهو مرادف للتسليم حتى وإن لم ترفع في المعركة راية الاستسلام، فكفى أنها العاصمة. أما في القاموس السياسى، فتعرف العاصمة بأنها المدينة المقرر لها أن تكون مقرا للحكومة، بصرف النظر عن كونها أكبر أو أصغر أقاليم الدولة، إذ أن التنصيب السياسي لمعنى العاصمة لا علاقة له بالمساحة الجغرافية، وإنما هو محض تشريف سياسي.

تأتي الأهمية السياسية لمعنى "العاصمة" في الارتباط بمفهوم السيادة، وليس خفيا على أحد ذلك الصراع السياسي حول مدينة القدس كـ "عاصمة"، والمعنى الخفى وراء الاستحواذ عليها أو تحريكها سياسيا أو جغرافيا كما يجرى في ساحة الصراع الفلسطيني الإسرائيلى، وكافة المناوشات التي تنادى بجعل القدس عاصمة لإسرائيل. فى اللغة الإنجليزية يأتي لفظ العاصمة مرادفا بشكل مباشر لمعنى العظمة، وهو المعنى الكامن في كلمة (Capital)  التي تعنى المدينة التي تحظى بالنصيب الأكبر من رمزية الدولة، أما في السياق الاقتصادى، فالمعنى الإنجليزى للكلمة ينطوى على ربط قوة رأس المال بكلمة "كابيتال"، وهو ربط اقتصاد الدولة بالعاصمة.

يظل التعريف السياسى لمفهوم العاصمة هو التعريف الحاكم، لأنه يتضمن تحديد الإقليم الذى تنطلق منه إدارة الدولة، وهو أيضا مقر الحكومة، والمكان الرسمى لكافة اللقاءات الدولية ما لم ينص بشكل استثنائى على غير ذلك، لذلك نجد ضمن القاموس السياسى الاعتبار بالعاصمة كمتحدث عن الدولة، فتسمع مقولة أفادت " واشنطن... "

أما من الناحية الدبلوماسية، فغالبا ما تكون العاصمة هي المقر الأساسى لسفارات الدول الأخرى، ويستثنى من ذلك التشدد بعض القنصليات التى يمكن أن تكون في العاصمة الثانية أو في مدينة بعيدة عن العاصمة، ووفق الأعراف السياسية والبروتوكولية، تعتبر العاصمة هي مقر حاكم الدولة.

نظرا لما انتهينا إليه من أن مسمى "العاصمة" يشير فى كل الأحوال إلى المدينة الأعظم في القطر، فقد يتصادف تمتع مدن أخرى بمزايا تتفوق على ما تتمتع به العاصمة، كأن توجد مدينة ساحلية تتحكم في حركة التجارة مع العالم عبر منفذ بحرى، فيستلزم الأمر عندئذ الاعتراف بقيمة تلك المدينة، ومن ثم قد تناصف العاصمة الأهمية أو السيادة فتنال مسمى "العاصمة الثانية" مثل الإسكندرية في مصر، أو يحدد لها تصنيف نوعى مثل "العاصمة الاقتصادية" كما هو الحال في مدينتى شنغهاى وتشنزن بجوار العاصمة السياسية للصين وهي بكين.

لم يقف الأمر عند تخصيص مدينة لتصبح عاصمة الدولة، بل أصبح على مستوى لكل من محافظات مصر عاصمة هي المدينة الأكبر.

عواصم مصر عبر التاريخ:

تعددت عواصم مصر عبر التاريخ في فترة ما قبل الميلاد لتتعدى ستة وعشرين عاصمة خلال الفترة من العام 3200 – 343 قبل الميلاد، أما العصر الحديث فقد شهد تبدل عواصم مصر خمس مرات منذ العصر اليونانى الرومانى وتحديدا منذ عام 641 م حيث كانت نهاية تخصيص الإسكندرية كعاصمة، ثم تلاها عواصم العصور الإسلامية وهى الفسطاط المنتهية 969 م، تلاها مدينة " العسكر" المنتهى تخصيها عام 868 م، ثم مدينة "القطائع" التى انتهت في عام 905م، وانتهاء بالقاهرة وهي العاصمة الحالية منذ 972 م.

تكمن الحكمة في تغيير المدن لتتناوب التخصيص كعواصم في محاولة إيجاد بعض أوجه التميز على المدينة المرشحة مثل بعدها عن الحدود لحمايتها من السقوط المبكر في يد العدو جراء الغزو الخارجى، أو الاقتراب من الشواطئ والمنافذ المائية لتسهيل حركة التجارة، وفى كل مرة حدث فيها استبدال العاصمة كانت هناك أسباب تحددها الظروف الزمانية والمكانية والسياسية، ففى العصور القديمة كانت العاصمة تقع في مكان متوسط بين مملكتى الشمال والجنوب وذلك لضمان استمرار الوحدة بين القطرين، وفي مرات أخرى ترائي للمصري القديم وجوب أن تكون العاصمة على ضفاف النيل إما في الشمال أو إما في الجنوب، وذلك تبعا للظروف السياسية لمصر وقتئذ، حتى الأقاليم الدينية وما تضمه من مساجد أو كنائس كان سببا فى منح المدينة صفة العاصمة تكريما للقداسة.

وشهد العالم في القرن الفائت عدة تحولات في عواصم المدن شملت لدول كبيرة ودول صغرى منها غينيا وساحل العاج والكونغو ونيجيريا، ولعل أكثر البلاد التي شهدت تبديلا للعاصمة كانت المغرب، فقد تأرجحت العاصمة بين فاس ومراكش ومكناس والرباط وحجر النسر ذهابا وجيئة ثمانى مرات منذ عام 789م وحتى التغيير الأخير من فاس إلى الرباط في 1912م.

الاعتبارات العالمية التى تحدد مواصفات "العاصمة" فى المجتمع الدولى:

بالرغم من عدم وجود مشروطية أممية لتخصيص مدينة لتصبع عاصمة، إلا أن التقديرات التى تفترضها ضوابط تخصيص العاصمة تكاد تكون موحدة ومعرفة، وهي التي قام بصياغتها مهندسو التخطيط العمرانى وفق متطلبات العصر، وهو ضوابط منطقية من شأنها توفير ضمانات تتعلق بيسر استخدام مرافق العاصمة من قبل المواطنين والزائرين الأجانب، وسهولة رصد الحركة في طرقات وشوارع وميادين العاصمة دون احتقان مرورى، وهذه الضوابط تتضمن:

ـ يتمتع تخطيط المدينة (العاصمة) بسهولة الانسياب المرورى.

ـ تصميم الميادين بما يضمن مخارج ومداخل تضمن السيطرة على أى تجمعات بشرية أو اعتراضات شغب.

ـ أن تتعدد منافذ الدخول والخروج من وإلى وسط المدينة، وهو المكون المحورى فى السيطرة الأمنية.

ـ استخدام لغة إرشادية على لافتات توجيه المسار وحركة السيارات بلغة الدولة، ومعها اللغة الإنجليزية كحد أدنى.

ـ أن تتاح مناطق التسوق والمراكز التجارية بعيدة عن الكتلة السكانية المحيطة بوسط المدينة.

ـ أن تستوعب العاصمة معظم الوزارات ومقرات الأجهزة السيادية، والقنصليات والسفارات بتخطيط يضمن سهولة وصول الدعم الأمنى ومرافق الحماية في حالات الطوارئ.

ـ يراعى في التغذية الكهربائية أن تتعدد مصادر الطاقة من ثلاثة مصادر متشابكة بما يضمن تجنب الظلام الدامس في حالات الطوارئ.

ـ  أن يتضمن تخطيط الشوارع ومسارات المركبات بعض الشروط القياسية مثل تقليل قدر الإمكان من الشوارع ذات الاتجاه الواحد بما لا يتجاوز 5% من مجمل مسارات الشوارع داخل المدينة، وأن تتضمن الشوارع أرصفة للمشاة، ومسارات للدراجات الهوائية، وتخصيص ممرات خاصة لمستخدمى مركبات الإعاقة.

ـ مراعاة الوسائل الهندسية لتصريف الأمطار بما يضمن عدم تأذى حركة السير للأفراد أو المركبات.

ـ توفير أماكن للسيارات المعطلة بما يضمن انسياب سير المركبات في نطاق معقول تحدده طبيعة الكثافة المرورية.

ـ استخدام الإشارات الضوئية لتنظيم حركة السير وفق القواعد الدولية.

ـ استخدام الألوان القياسية فى اللافتات الإرشادية، وأن تكون الكتابة بالوضوح القياسي.

ـ أن تتمتع مساحات المدينة بما لا يقل عن 15% من المساحات الخضراء أو التشجير المانع للتلوث البيئى.

ـ وضع ضوابط لخفض الضوضاء السمعية والبصرية في أرجاء المدينة.

ـ وضع ضوابط لخفض التلوث الكربونى من خلال قوانين وأنظمة فحص للمركبات المتهالكة، ومنع الانبعاث الكربونى من مركبات الديزل واستخدام الرصاص برقم الأوكتان المنخفض.

ـ تقسيم شوارع وقطاعات المدينة إلى أكواد بريدية تسهل المراسلات، وتسمية الشوارع الرئيسية مسميات يمكن للزائر الأجنبى فهمها واستخدامها.

ـ تخصيص مساحات معقولة أمام المنشآت والمباني ذات الكثافة البشرية العالية مثل الأسواق التجارية (المول التسوق) تعرف بساحات التجمع لدى الإخلاء الفورى فى الكوارث.

ـ تشديد القوانين العقابية لمخالفات الجمال وانتهاك الثوابت الجمالية وتجاوز إجراءات الأمن والسلامة.

ـ توفير مناطق خدمية مجانية للأفراد مثل دورات المياه، والخدمات الطبية السريعة للإصابات الخفيفة في كل مكان يبعد عن المرفق الصحى أكثر من 5 كم.

ـ تلوين أحجار الأرصفة باللون التبادلي "الأبيض مع الأسود" كما هو متبع في العرف العالمى للشوارع العامة التي يسمح فيها بسير المركبات، وحكر استخدام اللون الأصفر مع الأسود بشكل تبادلى إلا في الأماكن ذات المحدودية أو القيود المرورية مثل الأرصفة أمام المستشفيات، وأمام المدارس، وبوابات المخازن ومخارج ومداخل أماكن انتظار السيارات.

ـ أن تتمتع الكبارى والأنفاق بمحددات السرعة، ووسائل رصد مخالفات السرعة.

ـ أن تتمتع الأنفاق الأطول من 200 متر بوسائل تهوية تعمل بالطاقة من خلال مراوح وتوربينات ضخ لا تقل طاقتها عن 5000 متر مكعب في الدقيقة.

العاصمة الإدارية الجديدة:

العاصمة الإدارية الجديدة هي الحفيد الأحدث في قائمة عواصم مصر، وصممت لتكون عاصمة جمهورية مصر العربية الجديدة  وهي من مدن الجيل الرابع، أنشأها الرئيس بالقرار الجمهورى رقم 57 لسنة  2016 وتقع على مساحة إجمالية 688 كم2 وهي بذلك أكبر من مساحة سنغافورة وأكبر أربعة أضعاف من مدينة واشنطن، ولعل الهدف الأساسى من إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة هو تخفيض كثافة القاهرة وهي العاصمة الحالية من العبء السكانى، ومن ثم عبء المرافق، ولتكون مقر الحكم ينقل إليها كافة الوزارات والسفارات والمرافق الحكومية التي لا تتعامل مع الجمهور الشكل الفردى، وتنعم العاصمة الإدارية الجديدة بمنافذ حركة ونقل تربطها بمحافظة القاهرة والمحافظات المجاورة بوسائل تختصر الوقت وتوفر الطاقة، وتضم العاصمة مناطق خدمية للتسوق وتقديم الخدمات مثل المستشفيات ودور العبادة، وتم تخصيص القطاعات السكانية بمواصفات تراعي قياسات الجودة وأكواد الزلازل وتوفير ضمانات الأمن والسلامة، وسهولة ويسر وصول الخدمات العاجلة لكل متر مربع فيها، ووسائل ذكية لرصد مخالفات النظام بالشوارع من قبل السيارات أو الأفراد. تم تعميم الأنظمة الذكية فى مراقبة الشوارع والمنشآت وأنظمة رصد وتسجيل حركة الحياة في الشوارع، بما يضمن تخفيض احتمالات الجريمة إلى أدنى الممكن، وتتواصل شوارع المدينة مع النظام العالمى لتحديد المواقع بما يضمن تحديث المعلومات أولا بأول، ويجزم الخبراء بتقليص معدلات الجريمة لأدنى الاحتمالات بفضل الأنظمة الذكية، والتصوير الرقمي والرصد الإليكترونى على مدار الساعة فى الشوارع والميادين.

تميزت العاصمة الإدارية الجديدة بأنها استفادت من آخر ما وصل إليه العلم من أنظمة تضمن جودة الحياة.