رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


«ألم جاف» بعض الأوجاع لا تُنسى

13-1-2023 | 17:28


بريهان أحمد,

أصعب المراحل النفسية التي تَمُر على الإنسان هي التي يفقد فيها جزءًا من روحه، بل الأصعب منها تلك التي تتهشم فيها ذكرياتها أمام عينيه على صخرة السنوات التي تمضي، كأنها قارورة ممتلئة بدمائه ودموعه فلا استطاع الإنسان أن يحافظ عليها، ولا أن يخبئها لتفوح برائحة أريج أيام عمره الفائتة الضائعة، بل إن أقسى الأيام التي تمر على الروح تلك التي لا يغفو فيها الحنين ولا يهدأ، ولا يرحل فيها أنين الروح إلى أبد لا رجوع منه ولا عودة، ولا تغادر فيها الدموع العيون الساهرة المُتعبة! يمكنني القول إن رواية "ألم جاف" للروائية رحاب جمال أنور، عبَّرت عن العطش الذي يصيب بعض الفاقدين لأيامهم الراحلة، بالأخص الذين أفقدهم الوداع التوازن في تحديد ما يريدونه في علاقاتهم الإنسانية، بل العاطفية التي تسرق النوم من عيون العاشقين، وتسلب الطمأنينة من النفس خلسة.

تناولت الرواية العديد من الشخصيات التي نراها في مجتمعاتنا العربية، نرى المُحب العاشق الذي يبوح بحبه دون خوف، والهارب الذي يخشى الألم والوجع ذلك بناءً على تجربة سابقة أصابته بفقدان الثقة بالنفس، والمحارب الذي يبذل ما في وسعه ليصل لمحبوبه رغم كل الحواجز والعوائق إلا أنه يحاول؛ لأن الحُبَّ عمره باقٍ فقط لمن يستطيع، كُلُّ تلك العلاقات المتشابكة تدور في فلك روائي واحد لا يغزوه الملل ولا المط، ولا افتعال الأحداث حيث تقول الكاتبة في مُستهل روايتها الأولى: "العلاقات الإنسانية معقدة جدًا، خاصة العاطفية منها، تضعنا في حيرة وتساؤلات دائمًا.. لِمَ يميل القلب إلى شخص دون غيره بالرغم من وجود بدائل قد تبدو الأفضل؟ وأيهما أهم، أن يصل الإنسان إلى ما يريد أم إلى ما يحتاج؟ هل الحب منحة أم محنة؟ ولِمَ يغرس الله الحب في أرواحنا إن كان طريقنا للألم؟ الفيسبوك نافذة حية، جعلتنا نتعرف على أناسٍ قبل أن نعرفهم، وأكثر ما كان يشغل ذهني قبل اتخاذ القرار لخوض هذه التجربة الأدبية، هو الإجابة على تساؤل طُرِحَ على صفحة إحدى الصديقات يومًا.. "إن كنتم جميعًا تبكون الجراح فمن الجارح إذًا؟".

والسؤال الأخير: من الجارح إذًا؟ نتساءل دائما عندما نُجرح، هل نحن نستحق كُلّ هذا الألم؟ هل جزاء الحُبّ الهجران؟ ويأتي سؤالي، لمن موجهة هذه الرواية؟ يأتي الرد من داخل الرواية في صفحة الإهداء " إلى هؤلاء الذين مسَّهم الألم ودغدغ وجدانهم، إياكم أن تقعوا فريسةً لفقدان الشغف، اجعلوا هزائمكم نبراسًا لطريقكم إلى المجد".

إضافة إلى ذلك تستفز الرواية سؤالًا آخر داخلي، كيف يتم فقدان الشغف؟! والإجابة لا تستدعي التفكير العميق؛ لأن الشغف يُفقد عندما نسلم أرواحنا للعلاقات التي تسلب من داخلنا رحيق الحياة، ومعنى الحب السام، والعلاقة السامة يظهر ذلك في علاقة "داود" الشاب السوري الذي أحب بطلة الرواي "عهد الراوي" التي تشكل دور البطولة على الورق المنثورة عليه غمام الذكريات، ورغم أن البطلة التي تدور حولها الأحداث هي التي ترفض وتراوغ وتبتعد إلا أنها يشاركها في فلك العمل مجموعة من الشخصيات التي تبرز معها أهم القضايا الإنسانية في شكل ومضات تمثل خلفية السرد الإبداعي، فشخصية "داود" الشاب السوري، رغم أن علاقاته بالبطلة لا تعد علاقة صحيَّة بل علاقة مرضية تقوم على الابتزاز العاطفي، والمراوغة.

والبعد والقرب دون معنى واضح للغياب وهي تتمثل في العلاقات السامة التي تأخذ منّا أكثر مما تعطينا بالمصطلح الدارج هي العلاقات التوكسك تجعل الشخص يعتقد إن العلاقة العاطفية يجب أن تكون بهذا الشكل، كما يبحث من لا يقدر ذاته عن هذه النوعية من العلاقة أو من يشعر بعدم الأمان، وأولئك الذين يمرون بوقت عصيب في حياتهم ويعتقد بعض المحبين أن الحب لأبد أن تكون المعاناة جزءًا منها، وما فعلته عهد الراوي مع "داود" أنها رفضت تلك العلاقة التي لا تقوم على التكافؤ النفسي ولا العاطفي "إن التناقض يبرز معاني الأشياء بدقة".

أمّا عن القضايا التي عرضت من خلال الشخصيتين الأولي من داخل الوطن ذاته "مصر" وليلة 28 يناير 2011 تلك الأيام التي لم ينساها الشعب المصري وصفت ما دار داخل عائلة الراوي، الأحداث التي مرت على كُلِّ الأسر المصرية دون أستثناء مشاعر الخوف والدفء في آن واحد "دوي الرصاص سيطر على مسامع الحي، فلم يعد أحدٌ يسمع الآخر، ونسيت وعد وأسرتها موعد العريس المُنتظر، هرع الجميع نحو التلفاز لمعرفة ما الذي يحدث؟ ولكن لا شيء سوى شاشة ثابتة لأكثر من ست ساعات متواصلة دون أن تتغير، تعلن أن هناك اعتداءات على رجال الشرطة بميدان التحرير، والكاميرات تلتف حول مشهد من بعيد ويقولون إنها نيران قد نشبت في المتحف المصري. الظلام دامس الرجال والنساء أصبحوا بالشوارع يهيمون يمينًا ويسارًا بحثًا عن أبنائهم، وتم فرض حظر التجول، فلا أحد يستطيع الخروج من المنطقة..." لم تكن الأحداث السياسية الخلفية الأساسية لكن الضوء الذي يمر بضوئه الخافت على الأحداث فيعطيها رونقًا يميز قلم الكاتبة.

الأمر الثاني الذي أحسبه يحمل من القوة في الطرح الكثير رؤية أهل فلسطين للرئيس الشهيد "محمد أنور السادات" اتفقت واختلفت مع الكاتبة لكن هذا لا يمنع أنني وجدت في قلمها الكثير من الجرأة والقوة في الطرح "ما رأيك بالرئيس أنور السادات؟

-  إنه أفضل من حكم مصر، ورئيس لن يكرره الزمن مرة أخرى.

-  إذن لن أخبركِ ما الأمر، فأنتِ لا تختلفين عنهم.

-  عفوًا، لا أفهمك!

-  ذلك الرئيس هو من جعل العرب يتفرقون، وجلعنا متشرذمين في بلاد العالم.

-  لا، أنت مخطئ، فرَّقنا بعد أن أتى بالنصر لبلاده؟ ما الذي تقوله؟.

-  ألم أقل لكِ لا تفرقين ولا تختلفين عنهم، هذه أمراض في عقولكم أنتم المصريين.

-  احفظ أدبك أيها الشاب".

أضف إلى المذكور أن الرواية يغلب عليها الطابع الحواري الذي يعطي للبناء الروائي نوعًا من التماهي مع الشخصيات، أمّا القضية الثالثة وهي الأغتراب، تعرض الكاتبة قضية الطلاب الوافدين للدراسة في القاهرة، وكيف يعيش الشاب منه متشرذم يعاني الحنين يجول في دولة وآخر بحثًا عن الأمان بعد الحرب التي ضربت سوريا الحبيبة، عرضت أيضًا كيف يهجم عليهم الحب فيجعلهم في حالة من الحيرة والبحث عن الحرية والأمان، ففي حقيقة الأمر شخصية "جاسر" و"سبيان" وصديقة البطلة "لين" هم مجموعة من القضايا التي طُرحت على أرضية السرد المتناول للعديد من القضايا التي لم تظهر فجأة، بل على مهل لتعطي القارئ الكثير من التفكير على رواق وهدوء.

أما عن اللغة التي تتميز بها الرواية ففي حقيقة الأمر أن العمل يتميز بجزالة الألفاظ، وسلاسة في إظهار المفردات، ذلك ليس بالأمر الهين خصوصًا إذا كان العمل يعد الأول لصاحبه، فقد كانت الكاتبة قادرة على التلاعب بالمفردات التي تدغدغ المشاعر بالتضاد، فتخرج المعاناة من رحم القارئ، كأنه في حلبة مصارعة مع النص المفتوح أمامه "إن الثائر الحق هو من غاب عقله عند إيمانه بالقضية"، “حين يدرك الصياد فريسته يشعر بالملل، ويعود أدراجه مرة أخرى حتى يبدأ رحلة صيد جديدة”.

الكاتبة لم تعرض قضايا الحب فحسب، بل في فصل "جرح الوطن" تطرح ويلات الحرب التي تعرض لها الشعب السوري، حيث المعرض الذي أقيم في ساحة الجامعة ففي النهاية لم يتأذَّ من الرصاص إلا الأطفال والنساء والمشردون في كل العالم، لكنها سوريا وستبقى للأبد حرة: "وجوه من نور، ملائكة تسبح في ملكوت الله، ملطخة قلوبها بدماء الغدر، عيون جريحة، يذبحها الخزي والقهر والذل الذي تعانيه بعد سنون من العِزة والكرامة، كلُ يحاول أن يقوى بغريب عنه ويجمع أشلاء وطنه وتشرذمه في جالية صغيرة تحتضنها أرض مصر، فتيات وشباب تتراوح أعمارهم من الـ18 عشر حتى الـ21، تجمعهم براءة الطفولة وقهر كُتب عليهم التعايش معه وتقبله".

أمّا النهاية كانت عبارة عن مجموعة من الانتصارت النسائية في عالم الكتابة التي تناولت القضايا المتنوعة للاغتراب وعرض مشاكل الوطن العربي والوطن ونزيفه الداخلي وقضايا المغتربين داخل أوطان تشبه بلادهم لكنها ليست الأرض بل شذى الحنين، تعرض قضايا الحُبّ لكن العلاقات السامة وتقدم الدواء في نهاية العمل بعد مجموعة من الرحلات داخل النفوس البشرية التي عرضت في هالة الشخصيات المحورية والثانوية: "بعد أن ينتهي الوجع، يبدأ الفكر الواعي وتتحقق الإرادة القوية لإدارة الذات والآخر"، أدركت وعد أن طيفها لم يمر بين ثنايا قلب داود يومًا، وأن انجذابه لها في البداية لم يكن أكثر من انجذاب ذكر شرقي إلى الأنثى المتمردة والروح الثائرة، ولكنه لم يرَ حقيقة قلبها يومًا".. في نهاية المطاف إن أهم من فكرة الرواية الرسالة الإنسانية التي تُقدمها للقارئ والمجتمع والعالم، التي أظن أنها أرقى الرسائل التي يقدمها الإبداع الأدبي.