رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


يسري عبدالله: على الخطاب النقدي الجديد أن يقدم للنص الأدبي انفتاحا مذهلا على كافة الفنون

31-1-2023 | 01:24


يسري عبد الله

همت مصطفى

نظم الصالون الثقافي بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الـ 54، ضمن محور الندوات المتخصصة،  ندوة «الدرس النقدي الجديد»، بمشاركة الكتاب والأساتذة رامي أبو شهاب من فلسطين، وصالح سالم من السعودية، هشام زغلول، والناقد  يسري عبد الله، وأدراها الكاتب سيد ضيف الله.

 وقال يسري عبد الله:«هل ينفصل النقد في صيغته الجديدة عن سؤال المعرفة، هل ينسلخ عن الواقع الموّار على مسارات مختلفة، هل يتجاوز كونه جملة من الإجراءات التقنية، والتصورات النظرية ذات الطابع النوعي في سياق الممارسة النقدية المختصة بمعاينة النصوص الأدبية وتجلياتها، أم أنه يتجاوز حد النص إلى حيز الخطاب، والوعي بخصائص النوع إلى استشراف تحولات الكتابة، والتعبيد لمساراتها اللانهائية».

وتابع:«ربما تقودنا هذه الأسئلة، وغيرها كثير، إلى ضرورة الوعي بأن ثمة مستويات مختلفة يحملها الخطاب النقدي على تنوعه، وتعدده، فالخطاب النقدي ليس كتلة واحدة، وإنما يحمل بداخله تنويعات متعددة، وتسعى هذه الدراسة إلى رصد مسارات الخطاب النقدي وتمثيلاته النوعية، والوقوف أمام إشكالياته التي تعد جزءا أصيلا من إشكاليات الثقافة العربية ، بل والذهنية العربية ذاتها، ثم الوصول إلى جملة من الاقتراحات النقدية التي تخص واقعنا الثقافي الراهن».

وأضاف: « إن التحولات التي صاحبت النظرية النقدية في العالم، والانفتاح الذي شهدته الثقافة العربية على مثيلتها الأوروبية ربما ستدفع بأفق التلقي للنظرية النقدية إلى مناحٍ أخرى أكثر رحابة، كما أن الأنواع الأدبية المختلفة قد شكلت سياقاتها النقدية المستقرة، من اصطلاحاتها إلى مناهجها إلى أدواتها الاجرائية، وثمة إشكاليات عديدة تواجه  الثقافة العربية ، فالثقافة العربية ثقافة ماضوية، وسؤال الزمن فيها مشغول بالماضي أكثر من أي شيء آخر،  بينما كان رهان النقد في الغرب متغيرا باستمرار، حيث ترى الذهنية الغربية العالم في إطاره النسبي والمتحول، فالزمان والمكان في جدلهما الخلاق يتغيران باستمرار، ويطرحان قيما جديدة وتصورات جمالية ومعرفية جديدة أيضا، بينما  كان سؤال الماضي سؤالا للثقافة العربية بامتياز، فنحن مشغولون بالماضي، وكل شيء خاضع لما كان». 
وتابع: «إن سؤال الماضي، وليس مساءلته، أعاقنا كثيرًا، وكان الانشغال بالزمن الماضي منطويا على هاجس وجودي في غياب الوجودية نفسها لأننا لا نحتفي بالفلسفة، وننطلق من تراث راكد مفاده «من تمنطق تزندق»، والماضي دائما مقدم على ما عداه حيث خير القرون هي القرون الغابرة».


«أما الثقافة الغربية فكانت تتغير بتغير الزمان والمكان، ومعهما تتغير الأفكار والطروحات ولذلك كل المدارس والمناهج النقدية عاشت جنبا إلى جنب، وتجاورت فيما بينها ولم تحيا صراعا يفني أحدها الآخر، فالوعي النسبي يحمل رهانات متعددة، وبدأت فكرة الفرد تحضر مقرونة بالتفكير، وكان الشك الديكارتي ملهما في هذا السياق، حيث أنا أفكر إذن أنا موجود»

ذهنية الاستنامة والكسل العقلي
 

كمال قال يسري عبد الله شارحًا: «ثمة استنامة ذهنية لدينا، وارتماء في أحضان الكسل العقلي، واتجاه دائم صوب التكريس للجاهز، وانحياز إلى السائد والمألوف، وهذه الاستنامة الذهنية هي آفة العقل الراكد، فالخروج إلى النور لا يقتضي أن يفكر الإنسان دائما فحسب، ولكن أن يطور من نفسه، ومن أفكاره أيضا، ويتجلى هذا جميعه في كل شيء، في الفن والفكر، في النقد، والمعرفة، في السرد والشعر، في الموسيقى والحياة، في الواقع، والفضاء الافتراضي، حالة تذكرك بنمط الكلمات الجاهزة التي يكتبها الناس في الأعياد والمناسبات، وإذا كان ذلك يحمل مبررا إنسانيا مهما، فإن هذا المبرر ينتفي في حال تلقف فكرة جاهزة، وتداولها دون أي تفكير، أو الحرص الشديد على كتابة أي شيء، وبث أي شيء، لمجرد إثبات الحضور. يمكن لنا أن نتفهم ذلك في سياق مجتمعي ضاغط، يحتاج فيه البشر إلى مساحة من البوح الشخصي، وهذا عظيم في جوهره، لكن انسحابه على الكتابة الإبداعية التي تحتاج عناية حقيقية بالقيم الجمالية فيحول النصوص إلى بوح مجاني ساذج»

وتابع: إن الجمود حينما يسيطر على المناخ العام لأية جماعة بشرية فإنه لا يجعلها ترتمي في حضن الماضي فحسب، ولكنه يحول دون امتلاكها وعيا ممكنا قادرا على الاستشراف، فتبدو مفصولة الرأس عن الجسد، واقعها يشير إلى زمن، ووعيها يشير إلى زمن آخر، والخيال الإبداعي وحده القادر على تحويل الواقع الحي إلى فن، إلى رفد البشر باقتراحات جديدة، إلى تخليصهم من التنميط الجاهز، ويتجلى هذا كله في المغامرة الجمالية في الفن، والسلوك اليومي حين يصير جميلا وإنسانيا بحق.
 

وأضاف :« وعلى الرغم من أن نظرية المعرفة قد قطعت أشواطا هائلة في التفكير والبحث، والتحديث المستمر للأنساق الفكرية الحاكمة، إلا أن ثمة إصرارا لدينا في الثقافة العربية على أبدية كل شيء، وتثبيته، ووضعه موضع الجاهز والمألوف، وبما يعني أن الرغبة العارمة التي تنشأ في الذهنية العربية لتنميط الأشياء هي أكثر من حاجة نفسية واجتماعية، وكأنها خلل بنيوي في التفكير، وفي طبيعة النظرة إلى العالم، والواقع، والأشياء".


وتابع : « إن العالم الذي لم يعد يعرف الثبات، والذي ينطلق من تصورات نسبية دائما، سيبدو هنا في الذهينة العربية مستقرا، مألوفا ونمطيا، يعتمد على اليقين بوصفه أصل الأشياء؛ ولذا فالمفاهيم لدينا لا تحتمل سوى وجه واحد، والحياة تدور بين شقي رحى، ورؤية العالم تنحصر في فسطاطين كبيرين، دون أية تعقيدات يحملها واقع مسكون بالتحول والاختلاف، وينهض، وعلى التعقد والتشابك، فهناك تأويلات مختلفة للواقع، وصور متعددة له، والتصورات الرومانتيكية التي ترى العالم إما خيرا محضا، وإما شرا مطلقا، تعد نتاجا لنظرة أحادية لم توسع من مداها فترى على نحو أعمق. 
 

وأضاف: «وعندما بدأت بعض الأفكار ذات النزعة الحداثية تخترق القشرة الصلدة للثقافة العربية، على غرار المنهج البنيوي، كان التلقي العربي البائس لأفق النظرية البنيوية، وحصرها في الإجراء النقدي المعتمد على فكرة الثنائيات الضدية أو المتعارضة، في حين أن البنيوية نفسها طورت من أدواتها كثيرا فيما بعد، وبدت المناهج والنظريات النقدية والفلسفية بعدها حاملة هذا القدر من الوعي بقيم التعدد الخلاق، التي تحكم المفاهيم والتصورات بإزاء العالم، فليس ثمة مركز بعينه، ولكن هناك مراكز معرفية متعددة، وليس ثمة هامش وإنما قد يوجد الهامش الذي يُشكل المتن، وليس ثمة ثنائيات يقوم عليها العالم، وإنما تجاور بين صيغ ثقافية مختلفة".
 

وواصل "ولقد ألقى السياسي بظله على المعرفي في عالمنا المعاصر، ومع سقوط الاتحاد السوفيتي، وبداية عصر الهيمنة للقطب الأمريكي الأوحد، أصبح المركز الأورو أمريكي الفاعل الوحيد في إنتاج المعرفة، وأداة السيطرة على حركة الأفكار وتشكلها في العالم، غير أن طبيعة نظرية المعرفة ذاتها وقيامها على آليات التنوع والتعدد والتجاور، جعلنا أمام مراكز ثقافية مختلفة، وإسهامات فكرية متعددة، لا تتوقف عند ثقافة بعينها باعتبارها الرافد والمصدر الرئيسي، ومن ثم كان الوعي بمغالبة احتكار المعرفة وعيا بالمعرفة ذاتها، وبقدرتها على ترسيخ كل ما هو حر، وعقلاني، ومنهجي".


وأردف «وفي ظل هذه التحولات المعرفية والجدل الفكري الصاخب في العالم، لم تزل الذهنية العربية تحيا في الماضي، تحاول تثبيت اللحظة دائما عند نقطة بعينها، ترى فيها المخرج والملاذ،  وهذه النقطة تنتمي إلى قرون غابرة، حيث يعتقد الكثيرون أن العودة بالزمن إلى الوراء ولمئات السنين يحمل المجد والنجاة، وينسى هؤلاء أن استعادة الماضي وتفعيل منطقه في النظر إلى القضايا الراهنة سر نكبتنا الحقيقية، وجمودنا الراهن، فالذهنية الجامدة ذهنية ماضوية بالأساس، تحمل تصورات محددة سلفا، وتنطلق من يقين دامغ، وترى ماكان، خيرا مما هو آتٍ، وتجعل من القديم معيارا للجديد وحكما دائما عليه".

 المناهج النقدية وسؤال المعيار 

وأوضح :« ويبدو النقد الجديد مشغولا بالتوصيف المنهجي، والإجراءات التقنية، والنزعة النظرية وهذا ما يَسِمه ويجعله أكثر علمية، غير أن تتبع سؤال المعيار في النقد الأدبي ربما يصل بنا إلى مدى أبعد، عبر مقاربة المناهج النقدية وتصوراتها المتباينة حول جدارة النص الأدبي.


ويتخذ المعيار وجهة مغايرة لدى أحد أهم مفكري ما بعد الحداثة فرانسوا ليوتار، الذي تحدث عن طليعية الأدب، ليس عبر الصخب الأيديولوجي الذي أسقطته طروحات ما بعد الحداثة، حيث يبدو الأدب أدبا حين يتسم بالطليعية التي اكتسبت أفقا مختلفًا عن فكرة المنظور الطليعي الذي يصبغ النص من زاوية الدلالة فحسب دون أن يتوقف كثيرا أمام الوعي الجمالي الذي يبقى مزيجا بين الأصيل والفريد في توصيف ليوتار.
والأصيل هنا لا يعني محاكاة النماذج السابقة، ولكن أن يتأسس النص على نفسه، حتى وهو يتناص مع نصوص أخرى ويحيل إلى أفكار أخرى فإنه يصنع ذلك من أجل المجاوزة والتخطي، وليس المراكمة، والسكونية، والثبات.

وأضاف يسري عبد الله «وثمة حالة من التخندق النظري - لو جاز التعبير- تمثل مجلى للحال الأكاديمي العربي المنفصل في متنه المركزي عن واقع النصوص الأدبية وتحولاتها المستمرة. وعلى ضفة أخرى ثمة ارتحال جاهز صوب المركز الأورو أمريكي في إنتاج الأفكار دونما إعمال للمساءلة المعرفية المتواترة، والمراجعة النقدية المستمرة، بحيث يصبح النقد العربي في طيف منه مشغولا بسؤال الماضي، وأحلام / أوهام نظرية نقدية عربية، وفي جانب منه يحيا حالا من التبعية الذهنية لكافة الأطروحات الغربية، وهذان الملمحان لا يصبان في خانة التنامي للوعي النظري، أو التطبيق النقدي على حد سواء.


وللخروج من فخاخ هذه الإشكالية المهيمنة على المشهد النقدي العربي لا بد من الاستفادة من ماهية النقد ذاته عبر تفعيل إمكانات العقل النقدي المنتج، والخيال الإبداعي الحر.
 

وأكد يسري عبدالله: «صَاحَبَ النقد الغربي سؤال الفلسفة دائمً، وغابت الفلسفة لدينا، ومحصولنا من علم الجمال كان فقيرا مما مثل أزمة حقيقية للنقد العربي، وعلى الخطاب النقدي الجديد أن يقدم للنص الأدبي إمكانية نظرية لانفتاح مذهل على كافة الفنون والعلوم الإنسانية، وهذا الانفتاح بدا جزءًا من طاقته الإبداعية ذاتها، وإن ثمة دورًا مسئولا، وتاريخيا يجب على النقد أن يمارسه الآن، بوصفه عطاءً من عطاءات الواقع الرحبة، وخطابا علميا/ معرفيا/ جماليا يمثل رؤية للعالم، والنص، والواقع، والأشياء».