إليك السلام .. يا أبانا الذي في الجيزة..!
أحمد النجمي
كلما احتسيت قهوتي (الزيادة) أتذكرك يا من علمتني عشق البُن.. كنت تعارضني في احتسائها هكذا وتقول: يا ابني .. (السادة) هي القهوة الحقيقية. بعد سنوات من هذه (الصدمة المزاجية) سأكتشف أنك علي حق لكنني سأمضي في إدمان القهوة “الزيادة”.. لن يعقد هذا من علاقتنا، فقد ظللت هكذا أمضي في العناد في كل شيء، وظللت أنت تمضي في التسامح في كل شيء..من القهوة إلى السياسة، ومن الثقافة إلي الفن، ومن العام إلي الشخصي، ظللت أنت الأستاذ وظللت أنا التلميذ عشرين عاماً، ظللت أنت وستبقي أسامة عفيفي!
إليك السلام يا أبانا الذي في الجيزة!
والعبارة الأخيرة أتيت بها منك.. في أواخر التسعينيات - وكنت قد التحقت بمدرستك الصحفية والفكرية الشاملة قبلها بأعوام - قلتها لك ونحن نمضي إلى المقهى في الجيزة.. المقهى القريب من الميدان.. تبسمت ضاحكاً مما قلته لك ورددت عليّ: أوعي تقول لي كده قدام عمك محمود السعدني لأنه ح يزعل..! سألتك: ليه؟ قال لي: يا ابني أنا بقولها له.. وعمك محمود زي الفريك ما يحبش شريك..!
ثم ترحمنا سوياً علي العظيم “أمل دنقل”.. كنت يا عم أسامة تردد عدداً من مقاطعه الشعرية.. والتقطت أنا عبارة شهيرة تقولها دائماً لعم محمود السعدني - رحمة الله عليه - وقررت أن أخلعها عليك.. أذكر أن (عم محمود) قال لك في غضب مرة: يا أسامة ده أمل دنقل كان بيقول (يا أبانا الذي في المباحث).. وإذا بك تتكلم لنصف ساعة عن استبدال كلمات بكلمات في القصائد، وكيف أن هذا فن، استمعنا لك - بمن فينا عم محمود - وضحكنا وتعلمنا.. وصارت مثلاً! وظللت أقولها لك حتي آخر مكالمة في يونيو الماضي!
وهكذا كنت يا عم أسامة دائماً.. تتكلم فنتعلم، تشرح فنفهم، إذا سكتنا ابتدأتنا، وإن أخطأنا صوبت لنا، وإذا غبنا عنك ظهرت لنا.. وكنت دائماً متسامحاً.. بدأت الصحافة قبل عشرين عاماً من مكتبك في جريدة "صوت العرب" في شارع قصر العيني.. من هذا المكتب، علمتني بالورقة والقلم: الخبر يتكتب كده، والتقرير كده، والحوار الصحفي يتعمل كده، والقصة الصحفية كده، والتحقيق كده، فنون الصحافة كلها تعلمتها علي يديك.. في أيام قليلة، كانت لديك قدرة خارقة علي التعليم، وانطلقت معك في جريدة “الأسبوع” حين تأسست، أنت رئيس القسم الثقافي وأنا محرر تحت يديك، نحو عام من العمل.. تعلمت فيه كل شيء!
أيام “التكوين” كانت من صياغتك.. هل كان تكويناً أم ميلاداً جديداً لي؟
لم تكن مجرد تدريب علي الصحافة فقط، كانت تدريباً علي الحياة: كيف تدير حواراً مع الآخر؟
كيف تكوّن علاقة مع شخص أو تلغيها؟ كيف تشرف علي عمل صحفي؟ كيف تدير علاقاتك في العمل وفي الحياة؟ ومعك.. تشكلت علاقاتي في الحركة الثقافية، كنت تقدمني لهم: فلان.. ابني الجديد! كان لك أبناء كثيرون قبلي وبعدي، معظمهم لمعوا وصاروا نجوماً في هذه المهنة..!
علمتني - إلي كل هذا - أن للمرء أكثر من أب.. فليس الأب هو الذي تولد من نسله وتحمل اسمه فقط، هناك أيضاً أباء روحيون.. والحق أنك كنت ولا تزال وستبقي الأول في هذه القائمة الروحية لآبائنا..!
شاهدتك وأنت ترفض ما يتكالب عليه الناس جميعا، شاهدتك وأنت تترفع عما لا يترفع عنه أحد، وفي الميدان في 25 يناير المجيدة وجدتك في الصدارة، وفي الميدان أيضاً في 30 يونية العظيمة وجدتك في الطليعة.. كلما هممت بالاتصال بك لتأتي إلي الميدان، وجدتك تسبقني في الاتصال وتقول لي: ياواد انت فين؟
ويا أبانا الذي في الجيزة.. تلك التي كان فيها ميلادك ومحياك ومماتك وعزاؤك، تلك التي أحببتها مثلما أحببت مصر الأم، وأحببت جمال عبدالناصر، كلما خمدت نارك وظن أعداؤك أنك ركنت إلي الراحة، ظهرت بتجربة صحفية جديدة وفكرة جديدة، كنت تولد مثلما تقوم العنقاء من الرماد، وتستدعي الجميع من يحبونك ومن يكرهونك ليكتبوا.. أقول لك: بس فلان ده بيكرهك..!تقول لي: بس بيكتب حلو .. وما دام ضد التطبيع خلاص! كان هذا هو المحدد الوحيد لعلاقتك المهنية، أن يكون من يعمل معك كاتباً جيداً وأن يكون ضد التطبيع!
ولأنك صغت حياتي كلها دون أن أدري.. فقد جلست في عزائك أتأمل، وإذا بتأملي يفضي إلي نتيجة لا لبس فيها: كل من جاءوا إلي العزاء من الأصدقاء كانوا من كبار المثقفين، معظمهم – عدا قلة - عرفتهم من خلالك .. إذن، فعلاقاتي معظمها - إن لم يكن كلها - من صنعك أنت.. لولا هذا لظللت أنا مجرد واحد من الناس لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد..! ثم انداحت الذكريات في العزاء..!
••
الفندق الشهير بالهرم.. المنضدة في الركن الخاص.. بمجرد مجيئنا إليها في الموعد المقرر في ليل الثلاثاء من كل أسبوع، يسرع الجارسون مفسحاً لنا الطريق، يأتي إلينا بالكريم كراميل ثم القهوة، نجلس لساعتين لنحرر الصفحة الثقافية في “الأسبوع! ” كان هذا قبل عشريت عاماً
••
المقهي المعروف في (بولاق الدكرور).. جلسات ليلية لن تتكرر.. أنا وأنت عم (حسين عبد العليم) المحامي والروائي والقاص الفذ.. تقرأ أنت قصيدة جديدة كتبتها، ويقرأ عم حسين جزءاً من رواية جديدة يكتبها، وأقرأ أنا قصة قصيرة كتبتها.. ونتبادل الرأي.. سميتها أنت (قهوة المشورة) كوننا نتبادل الرأي والمشورة علي مناضدها..! كان هذا قبل نحو عشرين عاماً.. أين تلك الليالي؟
••
مرض أبي.. أدخل إلي مستشفي العجوزة في أواخر يناير 1998.. تصر أنت علي زيارته، يغادر أبي فراشه إكباراً لك.. تقول له: يا أستاذنا العفو أنت معلمنا، تربينا علي مقالاتك وكتبك وتعلمنا المهنة من تجربتك في “الكواكب” ثم في “الهلال”.. يقول لك: وأنت آخر كبار الصحفيين ممن يعلمون تلاميذهم إلي الآن.. وأحمد - يقصدني - تعلم علي يديك..! وتجلسان تتبادلان حديثاً رائعاً أذكر تفاصيله إلي الآن!
“ يا أحمد عاوز أشوفك”.. كان صوتك واهناً وأنت تقولها، لم أخبرك بأنني استشعرت هذا الوهن من خلال (الجوال).. أعرف أنك تحزن علي نفسك سريعاً.. أذكر هذه العبارة وهذه المكالمة في يونيو الماضي.. المرض فاجأك، اختار صدرك تحديدا، حاربك المرض في الشيء الوحيد الذي تشتهيه: السجائر!
قلت لي هذه العبارة بعد أن خرجت من (العناية المركزة) للمرة الثالثة، وواعدتك ولم آت.. تفاصيل الحياة الصعبة أخذتني وحين تجهزت للقائك، عرفت أنك أدخلت إلي العناية المركزة للمرة الرابعة والأخيرة! الغريب يا عمنا أنني عرفت أنك فقدت قدرتك علي النطق، وأن المرض الذي أصاب رئتيك أثر سلباً علي قلبك، وأنك لم تعد تتنفس.. حتي أتاني نعيك صباح الأحد 16 يوليو الماضي..!
••
فهل مت حقاً يا عم أسامة؟ يا أبانا الذي في الجيزة علمتنا أن الموت لا يغيب من يتركون علي الأرض آثاراً حقيقية، وأنت تركت آلاف القصائد، ومئات من دراسات النقد التشكيلي، وتركت مئات التلاميذ من نجوم المهنة، وآلاف المقالات.. تركت يا عم أسامة تراثاً هائلاً حياً لن يخبوا أبداً، تراثاً من الحروف ومن البشر زرت الجيزة سأدخل بلدك وأعانق روحك الحية وكلما كتبت كلمة ونشرتها فحياتي عليها هذا أو ذاك من الناس سأقول لهم: بل التحية لأسامة عفيفي.. فإليك السلام يا أبانا الذي في الجيزة!