رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


تاج محل.. أيقونة العشق الأبدي

9-2-2023 | 19:08


تاج محل

أحمد البكرى

شاه جهان وحبيبته جعلا الناس في العالم يؤمنون بأن الحب هو أكثر أنواع المشاعر نقاء، فكل عاشق هو شاه جهان وكل معشوقة هي ممتاز محل
عهد الإمبراطور شاه جهان هو الفترة الذهبية فى تاريخ الهند. وهو اسم مشهور في صفحات التاريخ، فهو يعتبر من أعظم سلاطين المغول المسلمين الذين حكموا الهند
بعد فاجعة موت ممتاز محل قيل إن شاه جهان اعتزل الناس، واعتكف فترة من الزمن، وحين خرج لهم كان قد شاب شعره كله
كان حب شاه جهان حقيقيًا، لدرجة أن الوعد ببناء أجمل وأروع ضريح لمحبوبه تحقق وتحول لواحدة من عجائب الدنيا. ويقف الآن أمامنا شامخًا وقويًا وسيظل رمزا للحب للأجيال القادمة

تصف حضارات الهند المختلفة جمال تلك البلاد العريقة، ذلك الجمال الذى يتبدى من خلال الآثار التى تركتها تلك الحضارات عبر التاريخ. ومن تلك الآثار ما تركته الحضارة الإسلامية المغولية التي حكمت بلاد الهند لسنوات عديدة،  تلك الآثار تتمثل فى العديد من المبانى والمقابر التي تعد مثالًا رائعًا للهندسة المعمارية ومهارة الحرف اليدوية.

ووفقا للمؤرخين فإن أشهر وأجمل تلك المبانى هو تاج محل، الذى بناه الإمبراطور المغولى شاه جهان لزوجته ممتاز محل. وبدأ بناءه حوالى عام 1632 م وتم الانتهاء منه في حوالى عام 1653، ذلك الضريح الجميل المصنوع من الرخام الأبيض، قد تم تصنيفه كموقع للتراث العالمي لليونسكو في عام 1983 لكونه "جوهرة الفن الإسلامى فى الهند وإحدى روائع التراث العالمى التي تحظى بالإعجاب". ويعتبره الكثيرون أفضل مثال على العمارة المغولية ورمزا لتاريخ الهند الحضارى الثرى.

يقف تاج محل شامخًا في أجرا الهندية، ليضرب المثال والنموذج الحي للحب لكل زوجين في العالم، ويجعلهم يفهمون المعنى الحقيقى لذلك الشعور الإلهى المسمى.. الحب، بتخليد قصة حبيبين أصبحا مثالاً للحب الحقيقى فى الهند، وكذلك فى العالم بأسره.

شاه جهان
ولد شاه جهان عام 1592، واسمه شهاب الدين محمد خورام (المِقدام)، وهو الابن الثالث للإمبراطور المغولي جهانجير والأميرة الراجبوتية الهندوسية مانماتى، التى أصبح اسمها بعد إسلامها بلقيس مكانى، وهو أول حاكم مغولى تجرى في عروقه الدماء الهندية. 

نشأ الأمير خورام في كنف جده الإمبراطور المغولي الأكبر جلال الدين محمد أكبر، الذي أحبه كثيرا، والذى توفى وعمر خورام 13 عاما، وتولت زوجة جده السلطانة رقية، التى لم ترزق بالأبناء،  تربيته.

 نشأ خورام محبا للفروسية والرياضة والهندسة، والفنون الحربية، أرسله والده لقيادة بعض الحملات العسكرية لإخماد التمرد فى بعض ممالك الجنوب، ومكنت انتصاراته والده من توسيع إمبراطوريته، فكافأه بأن لقبه بــ "شاه جهان"، الذى يعنى ملك العالم، وولاه على إقليم الدكن. وكان معنى إعطائه هذا اللقب أن الإمبراطور جهانجير يرشح شاه جهان لتولى الحكم من بعده، وكان فى الواقع هو الأقدر بين إخوته على تسلم الحكم.

اللقاء الأول
كان الأمير الفتى خورام (شاه جهان) البالغ من العمر 14 عامًا يتجول مرة في أزقة سوق مينا بازار في أجرا عام 1606، فرأى فتاة بارعة الجمال كانت تبيع السارى الهندى الحريرى وبعض الخرز الزجاجى.
فتنه جمال الفتاة.. فبدأ في متابعتها وتتبعها، ثم علم أن الفتاة التي رآها فى السوق، واسمها أرجوماند بانو بيجوم هي ابنة أخ نور جهان، زوجة والده الإمبراطور جهانجير، وهى سليلة عائلة فارسية نبيلة، وكانت فاتنة شديدة الجمال.

فانطلق على الفور إلى والده، الإمبراطور جهانجير وطلب منه أن يزوجه من تلك الفتاة الجميلة التى تبيع الحرير والخرز الزجاجى فى السوق.

وعلى الرغم من صغر سنهما الكبير إلا أن محبة والده العظيمة له جعلته يوافق ويسمح له بالزواج من الفتاة، ولكن تم تأجيل حفل زفافهما لعدة سنوات.

وبعد خمس سنوات من اللحظة التى أعلن فيها عن حبه للفتاة، تم عقد القران وإتمام الزفاف رسميًا في عام 1612.. وهو التاريخ الذى اختاره المنجمون فى البلاط.

وبعد بضع سنوات من زواجه، فى 1628 توج ملكا لأجرا المغولية وعمره آنذاك 36 عاما، ودعمه الوزير آصف خان والد زوجته ومحبوبته ممتاز محل. وهكذا تفرد شاه جهان بحكم الإمبراطورية المغولية الممتدة في الهند وباكستان وأفغانستان، وأوكل رئاسة الوزراء لصهره آصف خان.

استولى شاه جهان على عرش إمبراطورية المغول وانتصر على إخوته الأربعة وأصبح إمبراطورًا جالسا على العرش العظيم، ومنح زوجته أرجوماند بانو بيجوم لقب "ممتاز محل" ، والذي يعنى "جوهرة القصر".

وقد حكم العديد من الأباطرة فى فترة المغول، لكن عهد الإمبراطور شاه جهان يسمى الفترة الذهبية لتاريخ الهند. وذلك لأن شاه جهان كان ملكًا رقيق القلب، وكان راعيا للفنون ومحبا لمهارات الحرف المختلفة، وكان رعايا إمبراطوريته سعداء للغاية تحت حكمه. واسم شاه جهان اسم مشهور فى صفحات التاريخ.. فهو يعتبر من أعظم سلاطين المغول المسلمين الذين حكموا الهند.

ووفقًا لثقافة تلك الفترة كان للإمبراطور عدة زوجات أخريات، لكن ممتاز محل كانت هى المتربعة على عرش قلبه ليس لأنها كانت جميلة جدًا وذكية بل لأنه أيضا كان يحبها حبا عظيما، وكان يقع في حبها أكثر فأكثر مع مرور كل ثانية وكل يوم، ويبدو أن زوجاته الأخريات تزوجهن لأسباب أخرى غير الحب.. أسباب سياسية مثلا.. أما ممتاز محل فكانت لب القلب وقلب الروح..

ممتاز محل
على الرغم من أن ممتاز محل قد تم تخليدها كنموذج للجمال الأنثوى، إلا أن المؤرخين  قد أجمعوا على أنها كانت أيضًا تمارس السياسة ببراعة منقطعة النظير، وكانت مثقفة محبة للعلم وتتقن اللغتين العربية والفارسية، فمنح شاه جهان ممتاز محل أيضا لقب "مليكة جهان"، أى ملكة العالم، وأعطاها صلاحية استخدام خاتمه الإمبراطورى الذى يوقع به مراسيم شئون دولته. وعملت إلى جانب الإمبراطور الشاب ورافقته إلى ساحات القتال، حتى أثناء فترات حملها المتكررة حيث أنجبت أربعة عشر مولودا لشاه جهان.

كان حبه كبيرًا لدرجة أنه لم يتركها وحدها أبدا. فقد اعتادت البيجوم ممتاز محل على مرافقة زوجها المحبوب أينما ذهب، سواء كان فى المعسكرات والمعارك أو حتى الرحلات ، في البلاد أو خارجها ، فلا ينفصلان عن بعضهما البعض مطلقا.. وكان أطفالهما هم الدليل على ذلك الحب وتلك العلاقة التى تقاسموها. ومع ذلك، لا تدوم الدنيا على حال بل تبدأ الأشياء الجميلة فى الانتهاء يومًا ما، ولم يخطر ببال العاشقين أن يحدث ما يعكر هناء حياتهما وصفوها.

المرحلة المظلمة
ثم جاءت المرحلة المظلمة في حياة العاشقين، بعد تنصيبها إمبراطورة للمغول بـثلاث سنوات، وفي عام 1631 رافقت ممتاز محل زوجها الشاه جهان في إحدى حملاته العسكرية وكانت حاملا آنذاك.

وبعد مخاض دام 30 ساعة، أنجبت ممتاز محل طفلة سميت جوهر بنو بيجوم ، لكن الأم توفيت إثر نزيف بعد الولادة عن عمر ناهز 38 عاما، لتغادر المرأة الجميلة العالم بذكرياتها وروعتها الملائكية التي لا تموت. ودفنت في حديقة زينباد مؤقتا.

وبعد هذه الفاجعة قيل إن شاه جهان اعتزل الناس، حتى حبس نفسه ثمانية أيام في قصره، وحين خرج عليهم كان قد شاب شعره كله.

الخسارة الفادحة جعلت الإمبراطور شاه جهان يسقط في دوامة من الحزن والألم، كان محطما حزينا، لدرجة أن حياته تحولت إلى بؤرة من الجحيم، فبعد موتها رفض شاه جهان الكلام مع أى أحد لعدة أيام، ثم أعلن الحداد في طول الإمبراطورية وعرضها لمدة عامين طويلين من الحزن والأسى.

وبعد أن استطاع أن يجمع شتات نفسه في وقت لاحق، فكر في ذلك الوعد الذي قطعه لحبيبته ممتاز محل، بأنها إذا سبقته إلى الموت سيجعل قبرها تحفة عظيمة وضريحا مذهلا مدهشًا، لدرجة أن العالم ستتقطع أنفاسه عند النظر إلى الجمال الرائع، وقرر هنا أن يبدأ العمل من أجل تحقيق وعده.. وبناء تاج محل. 

استغرق تاج محل اثنين وعشرين عامًا ليتم بناؤه بالكامل ويصبح جاهزًا للعرض على العالم، وكان الضريح العظيم مثالاً على العمل الدؤوب الذى قام به عشرون ألف عامل من الهند وبلاد فارس وكل بلاد العالم الإسلامى، عملوا ليلاً ونهارًا لجعل تاج محل على ما يبدو لنا اليوم. ويضم مجمع تاج محل البوابة الرئيسية والحديقة والمسجد وقصر الضيافة والضريح ككيان موحد، الأمر الذى لم يسمح بأى إضافة أو تغيير على مجمع الضريح لاحقا.

تاج محل
بنى "تاج محل" على الضفة الجنوبية لنهر "يامونا" بمدينة أجرا، من رخام المرمر الأبيض الخالص، الذى يتغير لونه مع انعكاس ضوء القمر والشمس عليه، وقد وصف شاه جهان ذلك بأن: "الشمس والقمر يذرفان الدموع من الأسى"، كما تم تطعيم هيكل الضريح بـ 28 نوعًا من الأحجار الكريمة وشبه الكريمة كالفيروز، واللازورد، وخرزة التبت، والكريستال، وأحجار اليشم، التي تم استيرادها من الصين وراجستان والبنجاب وأفغانستان وسريلانكا، ومن الجزيرة العربية جاء حجر "العقيق"، وقد استخدم فى نقل تلك المواد ما يقرب من الألف فيل.

وبعد إتمام بناء نصب الحب التذكارى لممتاز محل، نقل رفاتها فى تابوت ذهبي من مدفنها المؤقت في حديقة "زينباد" بمدينة "برهانبور" على ضفة نهر تابتى إلى ضريحها الجديد. 

 ومن الأساطير التي تحيط بهذا الضريح أنه مصمم ليتمكن الإمبراطور من النظر إليه من كل جانب أو على انعكاسه في الماء.

وطبقا لتقارير مركز التراث العالمى لليونسكو فإن للضريح قبة مركزية مهيبة يصل ارتفاعها إلى 73 مترا، وداخله غرفة رخامية مثمنة الأضلاع مزينة بنقوش منحوتة وأحجار مصقولة تسمى بيترا دورا.

ويوجد في تلك الغرفة تابوتان زائفان لممتاز محل وشاه جهان، حيث تقع المقبرتان الحقيقيتان في سرداب تحت الغرفة الداخلية، دفنا على الطريقة الإسلامية ووجهت وجوههم نحو القبلة. وقد رصع التابوتان بالأحجار الكريمة والنقوش اليدوية.

 وتقف مآذن الضريح الأربع الأنيقة بعيدا من المبنى المركزى في كل ركن من الزوايا الأربعة للقاعدة المربعة للضريح.

ولكى تصل إلى الضريح لابد من عبور بوابته الرئيسية الضخمة التي يصل ارتفاعها إلى 35 مترا، والتى شيدت من الحجر الرملى الأحمر، وعلى يمين البوابة توجد مبان مسقوفة كانت بمثابة غرف للنوم لنحو 20 ألفا من العاملين الذين بنوا ذلك الضريح، وبمجرد أن تعبر البوابة تجد حديقة الضريح، وهى حديقة كبيرة تعتبر قمة فى التخطيط والتنسييق الرائع، تضم النافورات الجميلة والأشجار العالية المشكلة بطريقة هندسية جميلة، وبداخلها برج الياسمينة الذى كان ينظر منه الإمبراطور شاه جهان إلى قبر زوجته الحبيبة ممتاز محل. يتوسط الحديقة بركة مياه مستطيلة، تبدأ من بعد البوابة حتى تنتهى عند هيكل التاج، وفي منتصف المسافة بين البركة والقبر يوجد خزان ماء رخامى.

أما الضريح نفسه، فبنى على مصطبة عريضة مطلية بالمرمر الأبيض، أقيم على أركانها 4 مآذن دائرية الشكل، يبلغ ارتفاع كل واحدة منها نحو 37 مترًا، يحيط بكل واحدة ثلاث شرفات دائرية عريضة، وفى منتصف المصطبة يرتفع الضريح بواجهاته الأربع، يعلوه خمس قباب، أربعة منها على زوايا سطح الهيكل، أما القبة الخامسة فتتوسط السطح، وهي أكبرهم يبلغ قطرها نحو 17 مترا، ويصل ارتفاعها إلى 22.5 متر، أعلاها مزين بشكل زهرة اللوتس، ويوجد أسفلها مباشرة ضريحى شاه جهان وزوجته ممتاز محل.

تم تصميم "رمز الحب" بشكل مذهل، لدرجة أن الواحد منا قد يصاب بالقشعريرة من الرهبة والجلال لمجرد التفكير في كيف يمكن لشخص أن يحب لدرجة أن يصنع لمحبوبته قبرا بهذه الضخامة والروعة لتخليد ذكراها.. والذي يعد مثالًا على أصدق وأنقى شعور يسمى "الحب".

الإمبراطور شاه جهان وحبيبته جعلا الناس في العالم يؤمنون بأن الحب هو أكثر أنواع المشاعر نقاء،  فكل عاشق هو شاه جهان وكل معشوقة هى ممتاز محل..

كان حبه حقيقيًا، لدرجة أن الوعد ببناء أجمل وأروع ضريح لمحبوبته تحقق، وتحول لواحدة من عجائب الدنيا، ويقف الآن أمامنا شامخًا وقويًا وسيظل رمزا للحب للأجيال القادمة معترفا به كموقع للتراث العالمى لليونسكو.. وهو مفتوح للزائرين من جميع أنحاء العالم ليأتوا ويروا جمال الحب في هذا الهيكل الرخامى الأبيض، الذى أصبح معروفا باسم "رمز الحب"، وينبهروا ليس فقط بجماله المذهل ولكن أيضًا بقصة حب عظيمة وملهمة.. وهو أكثر المعالم شهرة فى الهند فهو نصب تذكارى مذهل للحب والخسارة والفقد والإخلاص الأبدي، الذى قال عنه جواهر لال نهرو رئيس الوزراء الهندى الأسبق: "هذا ليس قبرًا... هذا أغنيةٌ من المرمر".. 

وقد كان شاه جهان ينوى بناء ضريح آخر عبر النهر ليدفن هو فيه، وكان من المفترض أن يشيد ضريحه من الرخام الأسود وأن يكون متصلا بتاج محل بواسطة جسر، ولكن لم يمهله القدر من تنفيذ ما أراده فقد تم خلعه من الحكم فى عام 1658 على يد ابنه أورنجزيب، وتم سجنه فى قلعة أجرا لبقية حياته تحت حراسة مشددة، وبقى تحت الإقامة الجبرية ترافقه ابنته الكبرى جهان نارا، حتى توفى عام 1666 عن عمر 76 عاما، وقد دفن بالقرب من زوجته وحبيبته فى الضريح الذى شيده لها.. تاج محل.

والحقيقة أن السطور السابقة لا تفى إطلاقا بحق تاج محل من الوصف.. فإن وصفه بدقة يحتاج إلى أكثر من مقال.. حتى ندرك حقيقة الفلسفة التى بنى عليها ضريح تاج محل بعمارته فائقة الروعة وحديقته بأنهارها الأربعة وأشجارها النادرة وأزهارها وثمارها، وملحقات الضريح من قصر للضيافة ومسجد، بنقوشها وقبابها وخطوطها والآيات التى حفرت عليها بخط شديد الأناقة.. يكفينا فقط تصور حجم ذلك الحب الذى امتلأ به قلب العاشقين شاه جهان وممتاز محل.. وكيف تجسد ذلك الحب فى شكل أيقونة عالمية تقف منذ 370 سنة شاهدة على  قصة من أروع قصص الحب والفقد والأسى.. تلك الأيقونة التى قال عنها شاعر الهند الأشهر رابيندرانات طاغور: "تاج محل... دمعة على خد الزمن"..