رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


نهال والأبنودى

9-2-2023 | 20:16


حسين عثمان

حسين عثمان

قصة حب الإعلامية نهال كمال وزواجها من الخال عبد الرحمن الأبنودى واحدة من قصص الحب الجميلة الاستثنائية، والتى لا تقل عن مثيلاتها مما نعدها قصص حب تاريخية

عندما رأت نهال الأبنودى أحست أنه ينتمى لعالم آخر غير عالمها، سواء فى مظهره أو ملامحه شديدة المصرية أو سمار بشرته والتي كان يفتخر بها دائمًا ويقول إن سماره من سمار النيل
كان لقاء نهال كمال بالحاجة فاطمة قنديل والدة الأبنودي نقطة التحول الحاسمة في مصير نهال والأبنودى، وعندما رأتها نهال شعرت معها بألفة شديدة كأنها تعرفها منذ زمن طويل

"لم أشعر حتى الآن أنه قد رحل.. فشل الجميع في إقناعى بذلك!.. فأحاديثنا لم تنقطع، ونصائحه لا تغادر أذنى، وصوره ما زالت تملأ الجدران بهجة، وضحكته يتردد صداها كل يوم وأنا أقرأ كلماته التى خطها لى، ورائحته تعطر البيت، وحبه لم – ولن – يفارق قلبى.

ما زلت أذكر اللقاء الأول، والنظرة الأولى، والكلمة الأولى، والابتسامة الأولى، والنكتة الأولى، والخلاف الأول، والضجة التي أحدثها زواج رجل يقترب من الخمسين بفتاة فى العشرينيات".

لولا أن وثقت الإعلامية نهال كمال قصة حبها وزواجها من الخال عبد الرحمن الأبنودى في مذكراتها "ساكن في سواد الننى"، ربما كنا فقدنا واحدة من قصص الحب الجميلة الاستثنائية في أوجه عديدة، والتى أراها لا تقل عن مثيلاتها مما نعدها قصص حب تاريخية، فكما نحكى عن "قيس وليلى" و"عنتر وعبلة" و"كليوباترا ومارك أنطونيو" وغيرها من قصص الحب التى خلدها التاريخ، يمكن الآن أن نحكى فى مناسبة الاحتفال بعيد الحب عن "نهال والأبنودى".

كانت نهال كمال طالبة في السنة الأولى بكلية التجارة جامعة الإسكندرية، حينما قبلت على مضض دعوة ابنة خالتها إلى حضور أمسية شعرية لشاعر العامية عبد الرحمن الأبنودى فى المركز الثقافى الفرنسى بالإسكندرية، أما التردد في قبول الدعوة فلأن نهال كانت في هذا الوقت "عقادية المذهب" كما تصف نفسها نسبة إلى عباس محمود العقاد، وتنتمى حد التعصب إلى اللغة العربية الفصحى، حتى أنها تقرأ شعر العامية لـ صلاح جاهين وفؤاد حداد، من منظور أن العامية لا ترقى إلى مستوى الفصحى.

تعترف نهال بأن هناك سببا آخر جعلها تقبل الدعوة، ألا وهو دافع الفضول كى ترى شاعر العامية الذى تعرف اسمه من أغنياته ذات الطابع الشعبى، والتى لاقت نجاحًا كبيرًا فى ذلك الوقت، حيث كانت تستوقفها كلماته الجديدة على الأغنية، خصوصًا "قمر أسكندرانى" لـ محمد رشدى وفيها يقول الأبنودى "فى الغربة الدنيا توهة والناس مالهاش أسامى" أو "فى إيديا المزامير وفى قلبى المسامير"، كانت نهال تتعجب من أغنية عاطفية فيها كلمة "المسامير"..!

أيضًا كان يلفت نظر نهال من أغنيات الأبنودى في ذلك الوقت، أغنياته الوطنية مع عبد الحليم حافظ "عدى النهار" و"أحلف بسماها وبترابها"، وأغنيته الشهيرة لـ محمد حمام "يا بيوت السويس"، وأغنيات أخرى لـ شادية وفايزة أحمد وغيرهما، والتي مثلت جميعها نقلة في عالم الأغنية. 

وصلت نهال مع رفيقتها إلى قاعة الأمسية، والتي كانت مزدحمة عن آخرها، ولا يوجد موضع لقدم، حتى أنهما بالكاد وجدا مقعدين خاليين فى آخر الصفوف، وهو ما اندهشت له نهال، فهى اعتادت حضور الأمسيات الشعرية في الإسكندرية، ولم تصادف بها يومًا هذا الكم من البشر. 

تستعيد نهال انطباعها الأول عن الشاعر الصعيدى – زوجها فيما بعد – فتعتريها دهشة شديدة.. كيف أدت هذه البداية إلى تلك النهاية؟!

كل ما تذكره نهال عن تلك الليلة أن الأبنودى كان يرتدي قميصًا أبيض بسيطًا جدًا وبنطلونًا أسود، ولفت نظرها شَعره الطويل المتروك على سجيته دون تصفيف، والسوالف الطويلة – موضة الهيبيز – موضة تلك الفترة، همست وقتها في أذن ابنة خالتها: "شكله غريب شوية وللا بيتهيألي؟!"، فأجابت رفيقتها مبتسمة: هو مختلف.

أحست نهال ليلتها بالفعل أن الأبنودى ينتمى لعالم آخر غير عالمها، سواء في مظهره أو ملامحه شديدة المصرية أو سمار بشرته والتى كان يفتخر بها دائمًا ويقول إن سماره من سمار النيل، وإن ذوى البشرة السمراء هم المصريون الحقيقيون، أما البيض فهم المحتلون والأتراك والشركس والمماليك، وكانت نهال تتهمه دائمًا بالعنصرية لصالح السٌمر.

بدأ الأبنودى إلقاءه في هذه الأمسية، ونهال تدرك أنه من عالم مختلف، إلا أنها أحست لأول وهلة مع إلقائه بيت عبد الرحمن الشرقاوى "الكلمة نور" في مسرحيته الشهيرة "الحسين ثائرًا"، حيث تفتحت أمامها معانٍ نبيلة شفافة رقيقة، وأذهلتها البساطة المتناهية مع عمق المعانى فى قصيدة الأبنودى "الخواجة لامبو مات فى أسبانيا".. "كان شاعر مغنى/يمشى والجيتار عشيقته/يلمسه/يملى ليل أسبانيا بفصوص الأمانى والأغانى البرتقانى".

تؤكد نهال كمال أن هذه القصيدة كانت نقطة تحول في حياتها وفى مفاهيمها الخاصة بالعامية والفصحى، حتى أنها أعادت النظر فيما تقرأ من كتب اعتادت قراءتها، وكأن طاقة نور جديدة انفتحت أمامها، لفت نظرها أيضًا لغة الجسد عند الأبنودى، فقد كان بارعًا في استخدام يديه في التعبير، وأيضًا نظرات عينيه التي لمحت فيها نهال حزنًا دفينًا.

هكذا كان اللقاء الأول بين نهال والأبنودى، رأته ولم يرها، ولكن من مفارقات القدر العجيبة، أنه قبل هذا اللقاء بسنوات طويلة وهي طفلة، جمعتها والأبنودى مدينة السويس إبان حرب الاستنزاف ولم يلتقيا أيضًا، كان والدها يعمل مهندسًا فى إحدى شركات البترول بمنطقة الزيتية بمدينة السويس الباسلة، ولما اندلعت الحرب تطوع والدها كضابط احتياط، وأصبح رئيسًا للمقاومة الشعبية فى السويس، حيث كان يصحب نهال بعد تهجير المدنيين تحت ضغط إلحاحها، عاشت نهال فى السويس طفولة ذكرياتها لا تُنسى.

على الجانب الآخر من المدينة، كان يعيش الأبنودى على ضفاف قناة السويس مع أبطال ديوانه الشهير "وجوه على الشط" عم إبراهيم أبو العيون وجمالات وأم على، وقد سجل من خلاله تفاصيل الحياة اليومية والغارات الإسرائيلية والدمار والخراب الذى أصاب المدينة جراء هذه الاعتداءات الغاشمة.

تحكي نهال: "لهذا كله لم يكن مُستغربًا أن يُحيى عبد الرحمن (والدى) في إهدائه لديوانه (وجوه على الشط) تقديرًا وعرفانًا لما قام به من بطولة في إطفاء حريق الزيتية، فاستحق أن ينال نوط الواجب من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر".

بعد نحو تسع سنوات من أمسية المركز الثقافي الفرنسى بالإسكندرية، كانت نهال كمال قد استكملت دراستها الجامعية في إدارة الأعمال، وسافرت عدة دول أوروبية في صحبة والدها، وهو ما كان نقطة تحول كبيرة في حياتها أثرت خبراتها ومعارفها، فلما عادت مع والدها استقرا فى القاهرة، وبدأت تبحث عن عمل أو وظيفة تناسب اهتماماتها المنصبة على الأدب والثقافة والسينما والمسرح بعيدًا عن أمور الإدارة والمحاسبة، وأيضًا بعيدًا عن نمطية العمل الروتيني المُكَبِل للروح والنفس، والذي يتحول الإنسان معه إلى آلة صماء.

ساقتها الصدفة وقتها إلى العمل بإذاعة الشباب والرياضة كنوع من التجربة فى العمل الإعلامى، وبعدها بعدة شهور اجتازت اختبارات الكاميرا واللغة العربية في مسابقة بالتليفزيون المصري، ليتم تعيينها في برامج الشباب بالقناة الأولى حيث كان اللقاء الثانى لها مع عبد الرحمن الأبنودى.

كانت نهال كمال حريصة على العمل بالتليفزيون المصرى في مجال الثقافة والفنون والآداب، فتقدمت بفكرة برنامج عن الشعر تظهر فيه أجيال مختلفة من الشعراء، واختارت أن تبدأ بحلقة عن شعر العامية الذى يلقى صدى كبيرًا عند الشباب، وحينما اقترحت على رئيسها في تلك الفترة استضافة الأبنودى ضمن ضيوف البرنامج، فوجئت بتحفظ رئيسها مؤكدًا أنه لا مانع بشرط أن يقتصر الحوار على الشعر.

رحب الأبنودي بما هو معروف عنه من تشجيع الشباب، ولاقت الحلقة ردود أفعال طيبة، وعدت على خير دون أن تسبب أي مشكلات لـ نهال في التليفزيون، لتبدأ بعدها رحلة صداقة استمرت سنوات بينها وبين الأبنودى، تتواصل معه وتلتقى به من آن لآخر وتستشيره وتستعير من مكتبته وتحضر أمسياته الشعرية، ضاربة عرض الحائط بتحذيرات زملائها في التليفزيون، حيث كانت قصائده في هذا الوقت من مطلع الثمانينيات تهاجم بشدة الأوضاع السياسية.

لم يكن لقاء نهال كمال بالحاجة فاطمة قنديل والدة الأبنودى إلا نقطة التحول الحاسمة في مصير نهال والأبنودى، فقد فاجأها الأبنودى ذات يوم بأن والدته "الحاجة فاطنة قنديل" قادمة لزيارته في القاهرة، وتحمست نهال لمقابلتها حتى تتعرف على من أنجبت الأبنودى، خاصة وأنه دائم الحديث عنها فى كل وقت وكل مكان، كانت نهال في هذا الوقت مخطوبة لشاب من طرف والدها أخذت فيه رأى الأبنودي وحمسها على الارتباط به.

ذهبت نهال إلى موعدها لتجد الحاجة فاطمة في انتظارها، أما الأبنودى فلم يكن هناك على غير المتوقع.. "سبحان الله!.. كأن عبد الرحمن أمامى.. نفس الروح.. نفس الملامح.. ولكن البشرة بيضاء".. هكذا علقت نهال بمجرد أن شاهدت والدة الأبنودى.

استقبلتها الحاجة فاطمة بحفاوة بالغة وترحيب شديد كأنها تعرفها منذ زمن طويل، وامتدت جلستهما فترة طويلة تطرق خلالها الحديث إلى مناحٍ شتى، حتى أن نهال شعرت معها بألفة شديدة.

في اليوم التالي اتصل الأبنودى بـ نهال معتذرًا بانشغاله في تسجيل أغنيات مسلسل مع عمار الشريعى، ثم سألها عن انطباعها عن "فاطنة قنديل" ورأيها فيها؟.. أجابت نهال: "رأيى إيه؟!.. دي ست عظيمة، أنا عرفت أنت جبت الدرر دى كلها منين، وعرفت المنجم اللي بتغرف منه كلامك وأشعارك وأغانيك، عمومًا أنا حبيتها جدًا وماحستش معاها بأي غُربة وقضينا وقت طيب".

سكت الأبنودى قليلًا قبل أن يقول: "عمومًا هي كمان حبتك، وقالت عنك كلام كويس بس هروحها..".

اندهشت نهال، ولكن بعد إلحاح، أخطرها الأبنودى أن والدته الحاجة فاطمة قنديل تلح عليه فى الزواج من نهال.. "دى جوهرة، دي مليحة، خدها يا ولدى".

يواصل الأبنودى: "إيه يامة دى بنتي وبعدين دول ناسها غيرنا واحنا حاجة وهم حاجة وبطلى الكلام دا لحسن أروحك".. إلا أن الحاجة فاطمة أصرت على رأيها: "ما فيش فى الجواز كبير وصغير، أنا لما اتجوزت أبوك كان طويل قد النخلة، وأنا بنت 11 سنة وخلفتكم كلكم".. اكتفى الأبنودى ولم يكمل تفاصيل حواره مع والدته، وغلب الصمت نهال حتى أنها لم تعلق وأنهت المكالمة سريعًا.

لم يكن هذا الحوار العبثى على حد وصف الأبنودى نفسه إلا دافعًا لأن يعيد هو ونهال اكتشاف نفسه كما يعيد كل منهما النظر إلى الآخر، حتى أن الحاجة فاطمة قنديل عادت بالفعل إلى الصعيد، ولكن بعدها بنحو شهرين كان الأبنودي هناك ومعه نهال بصفتها زوجته!

بداية مُلهمة لقصة حب استثنائية تستحق أن تُخَلد، رجل عمره ضعف عمر حبيبته، تزوجا سريعًا بعد معاناة لم يسمحا لها أن تستمر طويلًا فى مواجهة عادات وتقاليد لا تزال حاكمة، حياة مستقرة هادئة دافئة ناعمة استمرت أكثر من ربع قرن حتى وفاة الأبنودى، وأثمرت بنتين آية ونور يحملان مزيجًا من ملامح وروح الأب والأم، وكأنهما دليل حى على ارتباط روحى لا تزال تعيشه نهال كمال في حضرة الأبنودى مهما غاب.