« ليلى الأخيلية وتوبة».. أيقونة الحب والوفاء في الشعر العربى
أ.د. عصمت محمد رضوان
عرفت ليلى الأخيلية بجمالها وقوة شخصيتها وفصاحتها، وكانت من شاعرات العرب البارعات، حيث جعل بعض النقاد منزلتها فى شاعرات العرب بعد الخنساء مباشرة
اتسمت قصة ليلى الأخيلية وتوبة بقوة الحب، وطغيانه على قلبيهما رغم حيلولة الظروف والأعراف دونه، كما اتسمت بالوفاء النادر للمحبوب، فكانت القصة أيقونة للحب والوفاء
كان الشعر العربى سجلًا جامعًا لحياة العرب وأحوالهم، وديوانًا مسجلا لقصصهم ومغامراتهم، مصورًا لخلجات نفوسهم ونبضات قلوبهم.
عبَّر الشاعر العربى فى شعره عن لحظات الحب، وساعات الوصل، ولواعج الهجر، ومدامع الفراق.
واشتهر من شعراء العرب عشاق ذاع صيتهم في عالم الحب، ودنيا الغرام، وعُرفوا بقصصهم التى روتها الأجيال، وبقصائدهم التى تغنى بها العشاق.
فرأينا من هؤلاء عنترة بن شداد وحبيبته عبلة، وجميل بن معمر وحبيبته بثينة، وكثير بن عبدالرحمن الخزاعي وحبيبته عزة، ورأينا قيس بن الملوح وليلى، وقيس بن ذريح ولبنى، ومن هؤلاء أيضا أبو العتاهية وعتبة، وأبونواس وجنان، وابن رهيمة وزينب، وعروة بن حزام وعفراء، وابن زيدون وولادة بنت المستكفى، وغيرهم كثير.
ومن قصص الحب العفيف فى الشعر العربى قصة ليلى الأخيلية وتوبة بن الحُمَيِّر.
وهذه القصة لها تفرد وخصوصية من عدة وجوه: منها أن بطلى القصة كانا شاعرين قال كل منهما الشعر في محبوبه، ومنها أن المحبوبة فى القصة (ليلى الأخيلية) كانت أكثر شهرة من صاحبها، لكونها شاعرة مجيدة، يعرفها النقاد والأدباء، ويجلها الحكام والأمراء، كذلك اتسمت هذه القصة بقوة الحب، وطغيانه على قلبيهما رغم حيلولة الظروف والأعراف دونه، كما اتسمت القصة بالوفاء النادر للمحبوب حتى آخر لحظات الحياة، مما يجعلنا نعد قصة ليلى الأخيلية وتوبة أيقونة الحب والوفاء.
وليلى الأخيلية هي ليلى بنت عبد الله بن الرحال بن شداد بن كعب الأخيلية، من بنى عقيل بن عامر بن صعصعة من هوازن، وهى من شاعرات العرب البارعات، جعل بعض النقاد منزلتها في شاعرات العرب بعد الخنساء مباشرة، وقد عرفت ليلى بجمالها وقوة شخصيتها وفصاحتها عاصرت صدر الإسلام والعصر الأموى، وتوفيت نحو عام ٨٠ من الهجرة.
أما توبة فهو توبة بن الحُمَيِّر بن حزم بن خفاجة العقيلى العامرى شاعر عربى من عشاق العرب من بنى عامر بن صعصعة من هوازن أيضا.
وهو أحد الفرسان الشجعان، وكان يوصف بالشجاعة ومكارم الأخلاق والفصاحة، توفى حوالى عام ٨٥ هجرية.
وكان اللقاء الأول بين ليلى وتوبة عندما كان راجعًا من الغزو، وكانت ليلى من النساء اللاتى خرجن لاستقبال الجيش الإسلامي المنتصر، وكان توبة معهم، فرأى ليلى وافتتن بها، وهام بحبها، ثم توطدت بينهما علاقة حب عذرى عفيف، ولكن رفض والد ليلى كان عائقاً حال دون زواجهما.
بل إن والدها سارع بتزويجها من شخص آخر رغما عنها، حيث زوّجها من رجل يسمى أبا الأذلع، ورغم ذلك استمرت ليلى في لقاء توبة بن الحمير، الأمر الذي أدى إلى شكوى زوجها أبي الأذلع إلى السلطان، الذى أهدر دم توبة إذا ما عاد لزيارة ليلى، وقد انتهز قوم أبى الأذلع الفرصة، فأخذ أفراد قبيلته يترصدون له فى المكان الذى يأتى منه كل مرة لرؤية ليلى كى يقتلوه.
وحينما علمت ليلى الأخيلية بالأمر، خرجت إليه سافرة، مكشوفة الوجه وقد جلست في طريقه، فاستغرب خروجها سافرة، لكنه فطن إلى أنها أرادت أن تعلمه بأن هناك كمينا قد نصب إليه، فأخذ فرسه وركض هارباً وبهذا أنقذت ليلى حبيبها من القتل.
واستمر لقاؤهما بعد ذلك رغم هذه التحديات ، كما استمر تبادلهما قصائد الشعر، ومما قاله توبة فى ليلى:
نأتْكَ بليلى دارُها لا تَزورها
وشــــطّت نواها واســتمَّر مريرُها
وقال رجال لا يَضيرُكَ نأيُها
بلى كـــلَّ ما شفَّ النفوسَ يضيرها
أليس يضير العينَ أنْ تكثرَ البُكا
ويمنعَ منها نومُها وسُرورُها
لكـلَّ لــقاءٍ نلتقيهِ بشاشــــةٌ
وإنْ كــــانَ حولا كلُّ يومٍ أزورُهـــا
وكنت إذا ما زُرتُ ليلى تبرقعتْ
فقد رابنى منها الغَداةَ سُـفورها.
ومما قالته فيه ليلى:
فتىً لَمْ يَزَلْ يَزْدادُ خيراً لدنْ نَشا
إلى أَنْ علاهُ الشَّيْبُ فَوْقَ المسايحِ
تَراهُ إذا ما المَوْتُ حَلَّ بورْدهِ
ضَروباً على أقْرانِهِ بالصَّفائِحِ
شُجاعٌ لدى الهَيْجاءِ ثبْتٌ مشايحٌ
إذا انْحازَ عن أقْرانِهِ كُلُّ سابحِ
واستمر الأمر على هذا الحال إلى أن قُتل توبة في إحدى المعارك. فلما مات رثته ليلى بأجمل المراثى الشعرية، ومن ذلك قولها:
أيـا عَـيْـنُ بَكّي تَوْبَةَ بن حُمَيِّرِ
بـسَـحٍّ كَـفَيْضِ الجَدْوَلِ المُتَفَجّرِ
لِـتَـبْـكِ عَلَيْهِ مِنْ خَفَاجَةٍ نِسْوَةٌ
بـمـاءِ شُـؤُونِ العَبْرَةِ المُتَحَدِّرِ
سَـمِـعْـنَ بِهَيْجا أزهَقَتْ فَذَكَرْنَهُ
ولا يَـبْـعَـثُ الأَحْزانَ مِثْلُ التّذَكُّرِ
كـأنَّ فَـتى الفِتْيانِ تَوْبَةَ لَمْ يَسِرْ
بِـنَـجْـدٍ ولَـمْ يَطْلُعْ مَعَ المُتَغَوِّرِ
ولَـمْ يَـرِدِ الـماءَ السِّدامَ إذا بَدا
سَنا الصُّبْح في بادِي الجَواشي مُوَّرِ.
وكانت ليلى تتردد على قبره لزيارته بين الحين والحين.
وفي أحد الأيام أقبلت ليلى من سفر مع قوم زوجها وأرادت أن تزور قبر توبة، وكان معهم زوجها الذى كان يمنعها من ذلك، ولكنها أصرت قائلةً : “والله لا أبرح حتى أسلم على توبة”، فلما رأى زوجها إصرارها تركها تفعل ما تشاء، فوقفت أمام القبر وقالت: “السلام عليك يا توبة”. ثم قالت لقومها تعدد مناقب توبة: ما عرفت له كذبة، فقال بعضهم ساخرا أليس هو القائل:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمـت علـي ودونى تربة وصـفائح
لسلمت تسليم البشاشة أوصحا إليها صدى من جانب القبر صائح
فما باله لم يسلم عليكِ كما قال، ولم يصح من جانب القبر صائح كما ادّعى ؟!
وكانت بجانب القبر بومة مختبئة بين حجارة القبر، فلما رأت الهودج الذى عليه ليلى فزعت وطارت فى وجه الجمل، فأدى ذلك إلى اضطرابه وفزعه، ورمى ليلى، فوقعت من فوق الجمل على رأسها فماتت في لحظتها، ودفنت بجانب قبر توبة.
وهكذا انتهى حب ليلى وتوبة هذه النهاية الحزينة.
ورغم ما اشتملت عليه القصة من بعض أمور قد تخالف الشرع، وتعارض التقاليد _ لكن قصة ليلى وتوبة لا تزال ترويها الأجيال شاهدا على هذا الحب الخالد والوفاء النادر، لتظل هذه القصة المؤثرة دائمة الحضور في أذهان قارئى الشعر ووجدانهم، ويظل بطلاها أيقونة الحب والوفاء في الشعر العربى.