رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


عندما تحدث ابن حزم الأندلسي عن الحب والمحبين

10-2-2023 | 16:59


أبو الحسن الجمال

أبو الحسن الجمال

يعتبر طوق الحمامة وثيقة عن العصر الأندلسى نستشف من خلاله أحوال المجتمع وبالأخص أحوال المرأة في قرطبة زمن ابن حزم ورغم أهمية كتاب طوق الحمامة إلا أنه لم يصلنا منه إلا نسخة واحدة غير كاملة كتبت في القرن الثامن أى بعد وفاة ابن حزم بثلاثة قرون.

كتاب طوق الحمامة أروع كتاب درس الحب في العصر الوسيط في الشرق والغرب، في العالمين المسيحى والإسلامي وهو كتاب غير مسبوق في التراث العربى الإسلامى.

كان الإمام ابن حزم الأندلسى أمة وحده، فهو موسوعي الفكر، لم تشغله نوائب الدهر عن التفكير والعطاء يوماً.. وقد برع في مجالات علمية عدة: في العلوم الدينية وفي التاريخ وفي الفلسفة وفي الطب وفي مقارنة الأديان، هضم الفكر الإنسانى كله واستفاد من تجارب الأمم السالفة له حتى تكون له زاد وفير.. وفي الحب وفسلفة الحب كان إمام المحبين، وترك للبشرية كتاباً فريداً في هذا المجال، هو كتاب "طوق الحمامة "في الألفة والألاف" سار حديث الركبان في الشرق والغرب، على نحو لم يعرفه غير قليل من كتب التراث العربى، ونقل إلى بعض اللغات في أكثر من ترجمة.. واهتم به المفكرون، وهو القائل في صدره "الحب، أعزك الله، أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل".

 نشأ ابن حزم (384- 456هـ/994-1064م) بمدينة قرطبة حاضرة الأندلس وأعظم مدنه، بل كانت أعظم مدن الغرب الإسلامى والعالم المسيحى على السواء، فلم تكن تدانيها مدينة، بل كانت تنافس بغداد حاضرة الدولة العباسية والقاهرة حاضرة الدولة الفاطمية، وفي مسجدها الجامع كان يحج إليها الناس من شتى البقاع من العالم الإسلامى ومن الممالك المسيحية في أوربا، ومن رحيق الأندلس الوضاء انتقل رحيق الحضارة الإسلامية إلى أوربا وعلي هدى هذا النور بدأ الغرب يعيد حساباته وبدأت النهضة تأخذ طريقها إلى التقدم والازدهار.. في قرطبة كان كل شيء جميلاً، الشوارع نظيفة وتضاء ليلاً، والحدائق الغناء في مكان.. واختلاف السكان من كل الملل والنحل، حيث عاش المسلمون جنباً إلى جنب النصارى الكاثوليك واليهود في تسامح وود، وضمت قرطبة بين جنباتها قطاعات شتى من البشر حيث عاش العرب إلى جانب البربر والصقالبة واللاتين والسودان، الكل يسهم بثقافته وموروثه.

كان الأندلسيون في هذا العصر قد بدأوا بستشعرون أندلسهم وطناً، يتعبدون به دوماً، يتغزلون فيه شعراء حين يكونون على بساطه، ويحنون إليه وجداً حين يكونون بعيدين عنه، وقد عبر ابن حزم عن هذا المعنى حينما قال في بيت شعرى: ويا جوهر الصين سحقاً فقد/ غنيت بياقوتة الأندلس

في هذه الأجواء نشأ ابن حزم في أسرة أرستقراطية قريبة من البيت الحاكم، فهو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسى، ولد في قرية "لبله" ـ غرب الأندلس ـ وسط أسرة اشتغلت بالسياسة وتقلد بعض أفرادها الوزارة، وقد اختلف الناس في نسبه.. كل الأجناس تريده أن ينتمي إليها؛ فمنهم من نسبه إلى اليونان أو الإسبان أو الفرس. ويرى الدكتور محمود إسماعيل أنه ينسب إلى العرب الذين كانوا موالين للخلافة الأموية فى الشرق والذين نزحوا إلى الأندلس مع عبد الرحمن الداخل عام 138 هـ. عاش في قصر أبيه، وتلقى العلم في هذا القصر المنيف، وتعلم العلوم الدينية والفقه والأدب والتاريخ، وقد جدّد "المذهب الظاهرى" الذي أسسه داود بن علي الأصفهاني (ت270هـ) كبديل عن المذهب المالكى، ولذلك عمد ابن حزم إلى التمسك بظاهر القرآن والسنة مع إعمال العقل في استنباط الأحكام من منطوق اللغة، ورفض القياس والرأى واستعاض عنهما بالبرهان والدليل العقلى.

 وعندما جاء إلى الدنيا كانت الأندلس في أشد اللحظات قساوة، فشمس الخلافة الأموية بدأت في الأفول، ودخل الأندلس فترة عصيبة انتهت بظهور دويلات الطوائف، وكان لابن حزم معهم صولات وجولات من الصراع، فقد كان من أشد المؤيدين للخلافة الأموية، وكان شاهداً على هذه الأحداث والتغيرات الدراماتيكية، على المستوى السياسي والفكرى والاجتماعى، ودوّن ما شاهده في كتبه الكثيرة التاريخية والفكرية والأدبية، ومنها هذا الكتاب الوثيقة "طوق الحمامة"، وفيه حديث عذب عن جوانب من من حياته العاطفية واعترافاته في جراءة غير معهودة وكذلك حدثنا فيه عن حياة غيره من أعلام عصره، ونستشف من خلال الكتاب أحوال المجتمع وبالأخص أحوال المرأة في قرطبة زمن ابن حزم .. إذن الكتاب وثيقة عن هذا العصر، ولم يصلنا من الكتاب رغم أهميته إلا نسخة واحدة غير كاملة كتبت في القرن الثامن أى بعد وفاة ابن حزم بثلاثة قرون، وقد عثر عليها المستشرق الهولندى "فون وارنر" في مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة العثمانية حينما كان يعمل سفيراً لبلاده واستمر فيها في الفترة من 1644- 1665م، قد أغرم بالتراث العربي الإسلامي وصار يقتنى نفائسه من مكتبات العثمانية التى كانت تزخر بها، وظفر بهذه النسخة من مكتبة حاجى خليفة المتوفي 1658م، وكان يمتلك مكتبة عظيمة، ثم بعد قرن ونصف القرن عكف عليها المستشرق الكبير "رينهارت دوزى"، ونقل منها الصفحات المتصلة بحب ابن حزم في كتابه الأشهر "تاريخ مسلمى الأندلس"، ثم حققه بعد ذلك المستشرق الروسى بتروف وظهرت طبعته عام 1914، ثم ظهرت منه بعد ذلك طبعات بها سقط كثير وتحريف، إلا أنه عكف على تحقيقه ودراسته أستاذنا العلامة الدكتور الطاهر أحمد مكى في طبعة دقيقة واستوفى فيها شروط التحقيق، وعكف على دراسة الكتاب وصداه لدى الثقافات الأخرى في كتابه "دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة" وقد استفدنا من هذه النشرة وهذا الكتاب في هذا المقال. 

في مقدمته لتحقيق كتاب طوق الحمامة ذكر الدكتور الطاهر أحمد مكي أن الكتاب أروع كتاب درس الحب في العصر الوسيط في الشرق والغرب، في العالمين المسيحى والإسلامى وأنه غير مسبوق في التراث العربى الإسلامى، فضلاً عن جسارة مؤلفه وصراحته، وجمعه في المعالجة بين التحليل النفسي والواقع التاريخي والتجربة الذاتية، وأن الكتاب سيرة ذاتية أو قريب منها للجانب العاطفى من حياة ابن حزم، وهاد إلى الحياة العاطفية لعدد من معاصريه ورفاقه، ممن شغلوا مناصب رفيعة في الإدارة والقضاء والجيش على أيامه ويعد هذا الكتاب مصدراً مهماً للحديث عن هذا الجانب من حياة فقيه قرطبة العظيم.

جاء كتاب طوق الحمامة فى ثلاثين باباً، منها في أصول الحب عشرة، في ماهية الحب وعلاماته، ثم من أحب في النوم ومن أحب بالوصف، ومن أحب من أول نظرة ومن لا تصح محبته إلا مع المطاولة، ثم التعريض بالقول، والإشارة بالعين، والمراسلة، ومنها فى أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر باباً، وإن كان الحب عرضاً والعرض لا يحتمل الأعراض وغيرها.. ليس هذا فقط بل ويستشهد بقصص واقعية ومنها قصص له شخصيًا، ويعلق على كل قصة بأبيات من الشعر من نظمه.

وعن علامات الحب يقول: "للحب علامات يقفوها الفطن، ويهتدى إليها الذكى، فأولها إدمان النظر، والعين باب النفس الشارع، وهى المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها والمعربة عن بواطنها. فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب وينزوى بانزوائه، ويميل حيث مال كالحرباء مع الشمس.

كما عدَّدَ وفصّلَ تلك العلامات ما بين: السهر، واستطياب الجلوس بقرب المحبوب، ومطاولة النظر، والفزع عند رؤيته أو رؤية شبيه له أو سماع اسمه فجأة، وأن يقبل من محبوبه ما لا يقبله من سواه، وأن تصبح كل نوائب الدهر هينة طالما كان محبوبه بقربه، وأن يغفر لمحبوبه كل خطأ على الدوام ويعود الود كما كان.

 ويحكي قصة عن ذلك فيقول: إنه كان يومًا جالسًا في دكان إسماعيل بن يونس الطبيب، وكان رجلًا ذا فراسة، فقال له أحد جُلسائه وكان مجاهد بن الحصين القيسى: ما تقول في هذا؟ فنظر إليه وقال: هو رجل عاشق، فقال له: صدقت، فمن أين قُلت هذا؟ قال لبُهت مُفرط ظاهر على وجهه فقط دون سائر حركاته؛ فعلمت أنه عاشق وليس بمريب.

كما وصف الحب من النظرة الأولى: كثيرًا ما يكون لصوق الحب بالقلب من نظرة واحدة. وهو ينقسم قسمين، فالقسم الواحد مخالف للذى قبل هذا، وهو أن يعشق المرء صورة لا يعلم من هى ولا يدرى لها اسما ولا مستقراً، وقد عرض هذا لغير واحد.

وحاول تفسيره وتوضيح ماهيته: "هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود، قد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة فى هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع".

كان ابن حزم ذا إحساس مرهف يهوي كل ما هو جميل ويعشق الجمال ويجله وكان يرى الجمال سلطاناً لا يقاوم، ويؤمن بالحب وما يفعله بالنفس وقد استطاع أن يصوره في كتابه أحسن تصوير حديث خبير عركته التجارب.. عاش ابن حزم فى بيئة عامرة بالصبايا الجميلات، وأحب في سن مبكرة للغاية وهو لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره، وكان في حبه غريباً عصرياً للغاية يتميز عن الروح الشرقى والغربى تماماً، فلا يؤمن بالحب من النظرة الأولى ويحسبه من الشهوة، لا ينفذ إلى حجاب القلب، ولا يتمكن من صميم الفؤاد، والشهوة تسقط على المرء من أول نظرة والحب يحتاج إلى زمن ومعاناة وفهم متبادل، وفي هذا يقول: "ما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل".. فالشهوة تتعدد باختلاف ما تقع عليه العين من أشكال الجمال، والحب متوحد دائماً، فإذا رأيت من يحب اثنين في الوقت الواحد، فاعلم أنها الشهوة، تسمى على المجاز حباً. 

 كان ابن حزم خبيراً مجرباً درس أحوال المحبين وعرف آلامهم وأخبارهم والعقبات التي واجهتهم عبر محطات حياتهم، فكان يعرف ما للسعادة من دور عندما تغمر قلوب المحبين فقال: "وما في الدنيا حالة تعدل محبيْن إذا عدما الرقباء، وأمنا الوشاة، وسلما من البين، ورغبا عن الهجر، وبعدا عن الملل، وفقدا العذل، وتوافقا في الأخلاق، وتكافيا في المحبة، وأتاح الله لهما رزقاً داراً، وزمناً هادياً، وكان اجتماعهما على ما يرضي الرب من الحال، وطالت صحبتهما، واتصلت إلى وقت حلول الحمام الذي لا مراد له، ولابد منه". 
    ثم يقول: "ولقد وطئت بساط الخلفاء، وشاهدت حاضر الملوك، فما رأيت هيبة تعدل محبوب لمحبوبه، ورأيت تمكن المتغلبين على الرؤساء، وتحكم الوزراء، وانبساط مدبرى الدول، فما رأيت تبجحاً، ولا أعظم سروراً بمن هو فيه، من محب أيقن أن قلب محبوبته عنده، وواثق بميله إليه، وصحت مودته له".

وابن حزم كان يتعاطى الحب وكان نهماً في غرامياته إلا أنه لم يفجر في حبه ذات يوم فقال: "ما رويت قط من ماء الوصل، ولا زادني إلا ظمأ.. ولقد بلغت من التمكن بمن أحب أبعد الغايات التى لا يجد الإنسان وراءها مرقى، فما وجدتني إلا مستزيداً، وحين يكون مع من يحب لا يجول بخاطره فن من فنون الوصل، إلا وجدته مقصراً عن مرادى، وغير شاف عن وجدى، ولا قاض أقل لبانة من لبناتي، ووجدتنى كلما ازددت دنواً ازددت ولوعاً، وقد حث زناد الشوق نار الوجد بين ضلوعى". 

ويرى ابن حزم أن العفة شيء أساسى في الحب، الحب يعني النقاء والسمو به عن الحيوانية واللذة العابرة، فهو نفسه يعترف ويقطع الطريق على حساده وخصومه بأنه لم يرتكب ما يشينه ويشين أخلاقه خلال رحلته مع الحب، فقال: "وبالجملة فإني لا أقول بالمراءاة، ولا أنسك نسكاً أعجمياً، ومن أدى الفرائض المأمور بها، واجتنب المحارم المنهي عنها، ولم ينس الفضل فيما بينه وبين الناس، فقد وقع عليه اسم الإحسان.. ويعلم الله، وكفى به عليماً، أني برىء الساحة، سليم الأديم، صحيحى البصرة، نقى الحجزة، وأني أقسم بالله أجل الأقسام أنى ما حللت مئزرى على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا، مذ عقلت إلى يومى هذا". 

ثم يذكر قصة أخرى تبرهن على عفة الحب: "ولقد حدثتنى امرأة أثق بها أنها عَلقها فتى مثلها من الحسن وعلقته، وشاع القول عليهما، فاجتمعا ذات يوم خاليين، فقال: هلُمي نحقق ما يُقال فينا، فقالت: لا والله، لا كان هذا أبدًا. قالت: فما مضى قليل حتى اجتمعنا في حلال".

هذا قليل من كثير ذكره المؤلف في ثنايا كتبه من تنظير للحب في أقوال صيغت في جمل رائقة عذبة وأسلوب آخاذ رائع كالذهب لم يفقد بريقه رغم كتابته منذ ألف عام أو يزيد، ثم ذكر الأخبار والأشعار والملح والنوادر، أنه بحق يمثل درة نفيسة في تراثنا العربى الإسلامى على وجه العموم والتراث الأندلسى على وجه الخصوص.