رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


نجيب محفوظ.. بحبك أكتر من امبارح

10-2-2023 | 17:28


نجيب محفوظ

بهاء حجازي

كان أجر نجيب محفوظ عن رواية عبث الأقدار التى صدرت عن دار المجلة الجديدة التي يمتلكها سلامة موسى، هو 500 نسخة ولم يعطوه مليما واحدا، فوضع النسخ في حنطور وظل يلف بها الشوارع!

بدأ نجيب الزواج بالعقل، وانتهى به الأمر للحب بالقلب والعقل وكل الجوارح، أحب عطية كما لم يحب امرأة غيرها، أحبه بكل ما فيه، رحل نجيب محفوظ بعد أن كتب عن كل أنواع الحب، أحب من كرهوه ومن أحبوه، أحب من اختلفوا معه قبل من وافقوه حتى رفض إعدام من حاولوا اغتياله وعفا عنهم، لو سألت أى شخص في مصر والشرق الأوسط وربما بعض الأجزاء في العالم، عن الأدب فى مصر، ربما تكون إجابته "نجيب محفوظ"، ويمكنك القول إن نجيب محفوظ أشهر كاتب مصري وعربي راحل وعلى قيد الحياة، بفضل كونه العربي الوحيد الحاصل على نوبل في الآداب، مما أتاح لكتابته انتشارا كبيرا، انتشارا تستحقه.

 إلى حي الجمالية
11 ديسمبر سنة 1911، كان عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا في قلق دائم بسبب صعوبة ولادة زوجته فاطمة مصطفى قشيشة، ابنة الشيخ مصطفى قشيشة، حالة الولادة كانت متأخرة، فقرر الأب الاستعانة بالعلامة نجيب محفوظ أشهر طبيب في بر مصر، وقتها كانت الاستعانة بالأطباء في توليد النساء أمرا يجلب العار لصاحبه، وكانت الدايات "القابلات، الحاضنات"، هم أصحاب المهمة، فكيف يقبل رجل مكتمل الرجولة، أن يقوم رجل بتوليد زوجته، هكذا كان الحال منذ 112 سنة، وهو أمر لم يتغير حتى الآن عند الكثييرين. 

لكن عبد العزيز الباشا الذي لم يقرأ كتاباً في حياته بعد القرآن غير حديث عيسى بن هشام لأن كاتبه المويلحي كان صديقاً له، قرر كسر القواعد وإنقاذ حياة زوجته بالاستعانة بالدكتور نجيب باشا محفوظ أسطورة عصره، وبالفعل ولد الطفل، هزيلا وضعيفا، واعترافا بالفضل، قرر الأب أن يُطلق عليه اسم نجيب محفوظ "اسم مركب"، من جهة هو يشكر الطبيب على معروفه، ومن جهة أخرى، لكي يحصل الطفل على فال وحظ صاحب الاسم، وقد كان، أصبح نجيب محفوظ في شهرة عالمية مثله مثل صاحب الاسم، لكن شهرة أدب نجيب محفوظ، غطت على إبداع الطبيب نجيب محفوظ، فلو سألت عشرة عن الطبيب نجيب محفوظ، 9 منهم لا يعرفونه. 
مكتبة مصر - حنطور به كتب
نجح الشاب نجيب محفوظ في نشر أولى رواياته، رواية عبث الأقدار، وصدرت عن دار (المجلة الجديدة) التي يملتكها سلامة موسى، وكان أجر نجيب محفوظ عن الرواية هو 500 نسخة من الرواية، لم يعطوه مليما، ذهب إلى الدار، فأعطوه 500 نسخة، وكان السؤال ماذا يفعل بـ 500 نسخة، وضع النسخ في حنطور، وظل يلف بها الشوارع، من الصعب أن يذهب لمنزله، ليخبرهم أنه نشر رواية وأخذ مقابل ذلك 500 نسخة منها، في الطريق وجد مكتبة اسمها مكتبة الوفد (لا علاقة لها بحزب الوفد، ولكن في هذا الوقت كان المصريون يسمون مكتباتهم باسم حزب الوفد، حزب الأغلبية)، بأدبه توقف عند صاحب المكتبة، وعرض عليه أن يشتري النسخ دفعة واحدة، رفض الرجل في البداية، لكن فكرة الرواية شدته، كانت الرواية تدور في عصر المصريين القدماء، وهي فكرة رائجة في ذلك الوقت عند المصريين، بالعودة لأصولهم الأولى.

كان عرض الرجل بخسا للغاية، فقل له: 
- "بص يا سي الأستاذ نجيب.. أنا هاخدهم شروة على بعضهم والنسخة بقرش، يعني كله خمسة جنيه". 
لم يفكر نجيب محفوظ، ولم يفاصل، وافق على الفور، وطلب الخمسة جنيهات، لكن الراجل ضحك، ضحكة واسعة، وقال له: 
- "أنت يا سيدنا الأفندي .. مفكرني كورديا.. أديلك الفلوس والكتب متتبعش.. أقعد أغني محسوبكوا إنداس .. مع المرحوم سيد درويش... أول ما أبيع نسخة تاخد القرش، وتعدي كل كام يوم اقولك بعت كذا نسخة .. واضربلك في قرش.. وإديك حقاتك، وقد كان.

كتب نجيب محفوظ 55 كتابا، و35 رواية، و223 قصة، في 19 مجموعة قصصية، و7 مسرحيات، وكتب سيناريو 26 فيلما، إنجاز كبير لشخص ظل حتى بلوغه سن التقاعد موظفا، لكنه شخص شديد النظام، وشديد الإخلاص لما يقوم به، والرابط المشترك بين كل ما كتب نجيب محفوظ هو الحب، كان محفوظ يفتش عن الحب في كل أعماله، الحب بمعناه العام والخاص، حب كل شيء، حب الإنسان للإنسان، لزوجته، لحبيبته، لبلده، لمكانه، لتاريخه، لهويته، لدينه، كان الحب عنوانا عريضا لأعماله.

في سنة 1973، كتب الحب تحت المطر، وفي سنة 1980 كتب عصر الحب، وفي سنة 1979، نشر القصة الشهيرة الحب فوق هضبة الهرم التي تحولت لفيلم شهير من بطولة أحمد زكي وآثار الحكيم ومن إخراج عاطف الطيب.

واحدة من أجمل الصور الرومانسية في كتابات نجيب محفوظ، هو ما قاله لزوجته عطية الله، السيدة التى رافقته من البداية حتى الرحيل : "إن كان لأحد فضل فى المكانة التى وصلت إليها بعد الله فهى لزوجتى عطية الله، فهى بالفعل عطية من الله إلىّ"، وعندما سألوه عنها، قال: "أحبها أكثر من أمس، وأقل من غدا"، وفي رواية أ "أحبك أقل من بكرا، أكتر من إمبارح". 
يقول نجيب محفوظ المؤمن بالحب، والذي تحدث كثيرا عن عصور الفتوات، وتركيزه أن القوة بلا حب تتحول لبلطجة، والحب بلا قوة يتحول لوبال، وإن كان الحب نفسه مصدرا للقوة: "أدب الناس بالحب، ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب". 

مثله مثل إحسان عبد القدوس، لا يؤمن محفوظ بالحب الأول، فهو يقول: "ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين"، وسبب هذه القصة هو فشل محفوظ في حبه الأول، لكنه يعود ويقول: "عرفت الحب لأول مرة في حياتى. إنه كالموت تسمع عنه كل حين خبرا ولكنك لاتعرفه إلا إذا حضر، وهو قوة طاغية، يلتهم فريسته، يسلبه أى قوة دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصب الجنون في جوفه حتى يطفح به، إنه العذاب والسرور واللانهائى". 

وقصة محفوظ مع الحب الأول، يرويها مع رجاء النقاش، عندما وقع في حب فتاة في العشرين وهو مراهق في الخامسة عشر، كان وجهها جميلا، جميلا بقدر الجمال نفسه، حتى لو أنك أردت وصف فتاة بالجميلة، يكفيك بالقول إنها تشبهها، يقول محفوظ للنقاش: "عرفت كيف يغيب الإنسان وهو حاضر، ويصحو وهو نائم، كيف يفنى في الوحدة وسط الزحام ويصادق الألم"، كانت الفتاة تشبه وجه الموناليزا، وقد وصفها نجيب محفوظ في رواية المرايا: "كانت بيضاء زرقاء العينين ناعمة الصوت، عندما شاهدتها للمرة الأولى تسلل إلى روحى قلق نشيط غامض تتجاذبه قوى خفية من البهجة والكآبة"، وقد ألبسها ثوب بطلته. 

تأخر نجيب محفوظ في الزواج، وتزوج وهو في الثالثة والأربعين من عمره، ويقول عن سبب التأخير: ""كانت والدتى تقوم بكل مطالبى من طعام وغسيل وكى، فكانت حياتى في المنزل منظمة، أعود لأجد كل شىء كما أريده"، لكن الحق أن نجيب محفوظ كان يخاف من مآلات الزواج، فيقول: "كثير من زملائي الذين تزوجوا على أساس الحب الرومانسي فشلوا".
كان محفوظ يخاف أيضا من فشل مشروعه الأدبي لو تزوج، فيقول: "كنت أكتب في يومياتى، هل أتزوج أم لا؟ وكنت أعتقد أن الزواج سيحطم حياتي الأدبية"، حتى قابل عطية الله، ويقول عنها: " كان أحد أصدقاىي متزوجاً، ولزوجته أخت هادئة الطباع رقيقة المشاعر، فوجدت فيها ما أبحث عنه، إذ كانت متفهمة لطبيعة تكويني الشخصية واحتياجاتي ككاتب، فكانت الزوجة المناسبة لى من مختلف الوجوه، فوجدتنى منجذباً إليها وكنت مشدوداً بهاجس يقول لى أنت لو لم تتزوج هذه المرة لن تتزوج أبداً".

بدأ الزواج بالعقل، وانتهى به الأمر للحب بالقلب والعقل وكل الجوارح، أحب عطية كما لم يحب أمرأة غيرها، أحبها بكل ما فيه.

كلمة نوبل.. الحب كله

حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب كأول عربى يحصل عليها عام 1988، لم يسافر محفوظ للحصول على الجائزة بسبب مرضه وخوفه من الطيران، وسافرت ابنتاه، وفى كلمته التى قالها الأديب محمد سلماوى، تحدث محفوظ عن الحب. 
وقال: "اسمحوا لى أن أقدم لكم نفسى بالموضوعية التى تتيحها الطبيعة البشرية.. أنا ابن حضارتين تزوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجا موفقًا، أولهما عمرها سبعة آلاف سنة، وهى الحضارة الفرعونية، وثانيهما عمرها ألف وأربعمائة سنة، وهى الحضارة الإسلامية". 

تحدث عن فقراء العالم الثالث، عن أبناء قطاع غزة ومعاناتهم، تحدث عن حب الإنسان للإنسان، وحب الإنسان للانتماء لعالم خال من كل الآهات والآنات، تحدث عن الغارقين في آسيا من الفيضانات، وفى إفريقيا من المجاعات، وعن ملايين ماتوا في جنوب أفريقيا وقضى عليهم بالنبذ والحرمان من أى من حقوق الإنسان فى عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر.

نجيب محفوظ 2006

رحل أديب مصر العالمى في سنة 2006، بعد أن كتب عن كل أنواع الحب، أحب من كرهوه ومن أحبوه، نجيب محفوظ الذى رفض إعدام من حاولوا اغتياله وعفا عنهم، أحب من اختلفوا معه قبل من وافقوه، لقد كان رسول محبة أتى إلى هذه الأرض، وبلغ الرسالة.

وبالنسبة لي، يبقى أصدق ما قاله محفوظ عن الحب، عندما قال: "لا تأخذ جرعة كبيرة من الثقة، أترك مكاناً للخيبة، ومكاناً لاستيعابها أيضا، وعندما قال: " الحب في صميمه سلوك لا معقول.".