فارس الرومانسية.. يوسف الرومانسية
الرواية الرائعة بين الأطلال التى تقبلتها الدراما: سينما، تلفزيون، إذاعة بصدر رحب، كتبها فارس الرومانسية يوسف السباعى فى عشرين يوما!
على الرغم من أن السينما تخليد للأدب ووسيلة انتشار له، إلا أن المتعة التى تتركها الرواية داخل النفوس أعم وأشمل وأعظم، سيما مع شخص يحب القراءة ويمتلك القلب النابض الرواية هى البذرة الحقيقية للسينما الناجحة، فالرواية تقدم القصة والحبكة، والوصف الدقيق للمشاعر والأفكار، ناهيك عن أدق تفاصيل الصورة التى تساعد في صياغة المعنى
الحديث عن "فارس الرومانسية" يوسف السباعي كأيقونة رومانسية أدبية، وعز الدين ذو الفقار كأيقونة رومانسية فنية، يحتاج إلى ما يعادل مقدار ما كتبه السباعى في الحب والرومانسية، وما أخرجه عز الدين ذو الفقار للسينما. لكن دعونا نركز حديثنا عن رائعتين رومانسيتين من روائع يوسف السباعي حيث تدفقت فيهما المشاعر عبر قلمه، ورسم بريشته طبيعة ساحرة تأخذ القلوب، فإذا بالحياة تترك خلفها تفاصيلها المادية، العمل والظروف والتقاليد والعادات، المشاعر فقط، الحب فقط، أرواح تتعانق فقط. وينتظره فى شغف مخرج مرهف الحس "عز الدين ذو الفقار" ليلتقط درره وينقلها إلى السينما، حتى في نقده اللاذع لعادات وتقاليد يجب أن تُقتلع من جذورها، كان يقدمها السباعى فى رومانسية هادئة، فما بالنا برواية هى قمة التدفق السياسي والتعبير عن صراع طبقي رهيب، يقدمها لنا في قالب رومانسي أخَّاذ، وأعني روايته "رد قلبي" التى أخرجها للسينما أيضًا عز الدين ذو الفقار عام 1957.
أود أن أنتقل إلى خطاب من فتاة مجهولة، (خطاب هو الآن يعد وثيقة نادرة) يُصور لنا مدى رومانسية قلم يوسف السباعى. الخطاب نفسه مفعم بالرومانسية، وقد وصل إلى يوسف السباعي بعد مهاتفة تليفونية مزعجة بعد منتصف الليل، خطاب ينقل لنا كم هى رائعة روايته "إني راحلة" في رومانسيتها، فحينما تقرأ التفاصيل الدقيقة لقصة الحب "العذرى" وتعيش تفاصيل أحداثها، ويأخذك كاتبها لتتنفس معه هواء حديقة المنزل، وتخشخش خطواتك أرض الطريق بجوار السور حتى تصل إلى الساقية المهجورة، تتألم المنع والتفرقة والفقد، حيث يتميز أسلوب السباعي بالبساطة والخلو من التعقيد، كما أنه يجيد ويُكثر من استخدام الرمز بصورة مميزة في أعماله، وتعد رواية "إني راحلة" من أعمال السباعي المميزة والأكثر شهرة، يتناول فيها قصة حب بين فتاة "عايدة" من طبقة منعمة وثرية وابن خالتها "أحمد" وهو من الطبقة الكادحة، ولكن يرفض والدها زواجهما لعدم التوافق المادى. فعايدة من عائلة ثرية ميسورة، وأحمد لا يزال في بداية حياته، يسعى بنفسه لبناء مستقبله. وتكون النتيجة أن يتزوج أحمد من ابنة الجيران، وتتزوج عايدة من أحد أبناء الطبقة الأرستقراطية نزولا على رغبة والدها، ثم تكتشف المسكينة في النهاية أن زوجها قد خانها مع امرأة متزوجة. فكـان أن تحطمت نفسيا وانطلقت إلـــى بيت زوج تلك العشيقة لتخبره، فما كان من الزوج إلا أن راود عايدة عن نفسهـــا (أى بيئة تلك..!!)، فانطلقت عايدة هائمة فى الطرقات إلى أن التقت حبيبها أحمد الذي ماتت زوجته أثناء الولادة.
تلك التفاصيل الدقيقة التى يسوقها الكاتب في هذه الرواية الرومانسية، ما جعلت (في الواقع)، "فتاة مجهولة" تتصل بعد انتصاف الليل لتنقل إلى الكاتب الروائي يوسف السباعي مشاعرها، اتصال تليفونى قد أزعج أسرته التى تعودت النوم في العاشرة مساء على أقصى تقدير، واتصال فى مثل هذا التوقيت مؤكد يحمل خبرا كارثيا، وزادت الحيرة بعدما أفزع الاتصال الأسرة أربع مرات ولم يتحدث أحد على الطرف الآخر غير صوت نسائى ناعم أجاب فقط على السباعي حينما حمل السماعة بعد أن حملتها الخادمة في المرة الأولى، ثم عمه في المرة الثانية وفى الثالثة زوجته، وفى كل مرة يُغلق الخط بدون إجابة، فى الرابعة يرد هو، ويأتيه هو فقط الصوت بأنها "معجبة" وتود أن تتحدث معه بشأن روايته "إني راحلة"، ولأن المقام الآن لا يسمح لنا بسرد الكثير من التفاصيل، فقد طلب السباعى منها أن ترسل رأيها في خطاب على المنزل أو المكتب أو الجريدة، تحدث معها بهدوء وهو الأمر الذي أزعج زوجته والأسرة كلها أيما إزعاج. لكن .. وبالفعل، بعد يومين، وصله خطاب، ونص هذا الخطاب هو الذى يعنينا فى هذه القصة، ذلك لأنه يحمل الكثير من المشاعر ويعبر عن أثر عميق نقشه السباعى بقلمه فوق حنايا القلوب العاشقة، وكان نص الخطاب كما يلي:
"عزيزي.. تحياتى وإعجابى الذى لا حد له ولو أنك لا تعرفنى، ولا أظن أنك تهتم بمعرفتي إلا بمقدار ما يكون بين كاتب وقارئ له، لذلك اسمح لى أن أخفى عنك شخصيتي، إنما أكتب إليك معتذرة عما كان مني ليلة أن كلمتك في التليفون، وحجتي أنني كنتُ مندفعة إلى البحث عنك وسماع صوتك بجوارحى وشعورى وبأى ثمن بعد أن انتهيتُ من قراءة قصتك "إني راحلة" ولعل لك بعض الذنب في ذلك إذ أنك أخرجتنى عن وعيى، وأفقدتني كل سيطرة على نفسى، بالرغم من كثرة الأصوات التى توالت في الرد عليَّ فقد هدانى قلبي إلى معرفتك، ولو لم يكن لك بي سابق معرفة، فقد كان لإبداعك ما أخذ بمجامع قلبي وأشعرنى أن هذا ليس بالخيال وإنما هو صادر عن الواقع وعن الشعور الصادق الرقيق، وأنه ترجمة بارعة صادقة لأجمل ما يخفق به قلب رقيق فياض العاطفة، حتى إني لم أفكر في الوقت وفيما صادفته محاولتي أن أكلمك، فقد كنتُ فى نشوة من سرورى ولهفتى ودموعى، ولعل تلك التى ردت عليَّ وأعادتنى إلى الواقع لم تحس بما شعرتُ به أثناء قراءتى لك، وإلا التمستْ لى عذرًا .. أنا التى تعيش حياتها ... مقفرة من شعاع عاطفى يملأ كياني ويثير وجدانى، وقد وجدتُه ولو فى صفحة من كتاب، ولكن وصفك لسور معسكر الحرس، والحقول التي خلف السراى، والساقية المهجورة، هزَّ كيانى وأعادنى إلى الخيال والذكرى، فكل هذا هو مرتع طفولتى، ومبعث إحساسى، وقبلة قلبى، ومطمع آمالى، ولكني أرى إني قد أطلتُ عليك .. لا تظن أني تألمتُ لما سمعتُ، فقد كفتنى رنة الأسف التي ظهرت من نبرات صوتك، لقد كانت أكثر مما أرجو وإلا لما سامحتُ نفسي". 13 ديسمبر 1950م.
هذه الرواية الرائعة التى تقبلتها الدراما: سينما، تلفزيون، إذاعة بصدر رحب، كيف ومتى كتبها فارس الرومانسية يوسف السباعى؟ كتبها في عشرين يوما.. تخيلوا .. ؟! عن هذا يقول الكاتب يوسف السباعى نفسه (فى صيف عام 1949سافرتُ إلى الإسكندرية لقضاء الإجازة، وصممتُ على أن أمضى هذه الأسابيع فى راحة تامة، وبدأتُ الراحة، وأنا مخلوق لم يتعود الراحة، فوجدت الحنين إلى الكتابة يعاودنى، وجدتها فرصة سانحة أستغلها لكتابة قصة طويلة، ومضت بضعة أيام وأنا أحاول البداية حتى نجحت فيها.. واندفعت بعد ذلك فى الكتابة، أعيش جو القصة وأوقع بين أبطالها، وبدأت أتلقى اللوم ممن حولى، وقالوا إنى فى "أجازة" ولست فى أشغال شاقة، وإن من الجنون أن أكتب عشر ساعات فى اليوم، ولكنى استمررتُ فى الكتابة حتى أصابني الملل و أنهكنى الجهد فكرهت الكتابة وكرهتُ القصة وكرهتُ أبطالها.. وكرهتُ نفسى. وحاولت أن أستعيد فى ذهني ما كُتِب وأنا مجهد متعب، فوجدتنى لم أكتب سوى سخافات ورأيتُ أن القصة التى بذلتُ فيها كل هذا الجهد ستكون أتفه ما كتبت، وتركتُ الكتابة وأخلدتُ إلى الراحة، وقلت لنفسى: إن كرهى للقصة هو نتيجة الإفراط فى الكتابة. ومر يوم دون أن أكتب.. ولكنى لم أكد أحس ببعض الراحة حتى عاودتُ الكتابة.. وأخيرًا انتهيتُ من القصة بعد عشرين يومًا.. أجل إن كتابتها لم تستغرق أكثر من عشرين يوما.. فقد كان علىَّ أن أنتهى منها قبل أن تنتهى الإجازة).
تحولت رواية "إني راحلة" إلى فيلم سينمائي عام 1955 بطولة مديحة يسرى وعماد حمدي وإخراج عز الدين ذو الفقار.
وأما رائعته الرومانسية، وروائعه الرومانسية كثيرة، التى تركت بصمة في الأدب والسينما فهى "بين الأطلال .. اذكريني"، وبالرغم من أنه تم تحويل هذه الرواية إلى فيلم بطولة عماد حمدى وفاتن حمامة عام 1959 بعنوان "بين الأطلال" وإخراج عز الدين ذو الفقار، وتم تحويلها إلى فيلم آخر بعنوان "اذكرينى" عام 1978 بطولة محمود ياسين ونجلاء فتحى وإخراج بركات، إلا أن العملين لم ينقلا أدق التفاصيل التى ترصدها الرواية، وإن كانت السينما تخليدًا للأدب ووسيلة انتشار له، إلا أن المتعة التى تتركها الرواية داخل النفوس أعم وأشمل وأعظم، سيما مع شخص يحب القراءة ويمتلك القلب النابض. ولن تصدق أن رواية بهذه الروعة "بين الأطلال" كتبها مؤلفها في عشرين يومًا فقط..!! .. نعم .. لا تتعجب .. فها هو يوسف السباعي يقول عنها "هذه القصة كتبتها بطريقة السجن مع الكتابة، فقد بدأتها فى رمضان 1370 هجرية الموافق 1951م إذ وجدتُ الصيام يهيئ لي ساعات طويلة متواصلة من الكتابة بلا توقف.. وهكذا بدأت عملية الحبس يوميًا من الساعة التاسعة صباحًا وحتى الخامسة مساء، وفى اليوم العشرين كنتُ قد انتهيتُ من القصة). والسؤال الذي أود أن أختم به هذه السطور، لماذا خُلِدَت أعمال سينمائية مثل "رد قلبي – إني راحلة – بين الأطلال – اذكريني – نادية .... وغيرها"؟. والإجابة ببساطة لأنها "السينما الروائية"، أي السينما المأخوذة عن روايات، فالرواية، الرائعة بالطبع، تقدم القصة والحبكة، تقدم الوصف الدقيق للمشاعر والأفكار، تقدم أدق تفاصيل الصورة التى تساعد في صياغة المعنى، الرواية هى البذرة الحقيقية للسينما الناجحة المستمرة، وإني أنصح صُناع السينما بالبحث في عالم الروايات وتحويلها إلى أعمال سينمائية، فتلك هى الخطوة الأولى على طريق النجاح. وأخيرًا لا يفوتني إلا أن أرفع يدى بالتحية تقديرًا لفارس الرومانسية "يوسف السباعى" الذى اغتالته يد الغدر في 18 فبراير 1978م.