د. عمر محمد إبراهيم
امتلأت كتب التاريخ والأدب بقصص الهيام والولَع بالمحبوبة، والتى انتقلت إلينا عبر ميدان القصيد، فحفظها من النسيان، ومن عوادي الزمان، من أبرز قصص الحب العذري في عصر ما قبل الإسلام، قصة عنترة العبسي وابنة عمِّه عبلة وهي قصة أليمة مليئة بالمعوقات والتحديات، الهدف من إبراز هذه التجارب أن نبث في الوعي الجمعي هذه الفضائل، والحفاظ على المحبوبة حتى من العاشق نفسه، فهو يحبها نعم، لكنه حبٌّ لا إثم فيه ولا ابتزاز.
مِن المسلَّم به أن الأدب العربي حافلٌ بقصص الحُبِّ التي سارت بها الركبان، وتأبتْ على النسيان؛ لما فيها من تحديات وصعاب وآلام قد تفوق طاقة البَشَر، حتى باتت أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقيقة.
وتنقسم هذه التجارب- التي أبطالها شعراء- قسمان: الأول عفيفٌ عُذري، والثاني حسيٌّ غرائزي شهواني، وذلك منذ عصر ما قبل البعثة المحمدية، حتى بلوغ أوج هذه الظاهرة في العصر الأموي.
ويهمنا أن نبرز النوع الأول؛ إعمالًا لدور الأدب والأدباء في حراسة الفضيلة، والبناء الهادف للوعي الجمْعي؛ فالأدبُ الأصيلُ له دور رائد في خدمة الإنسانيَّة، والحفاظِ على الهُويَّة، كما أن له دورًا لا يُنكر في الذَّود عن المبادئ والقيم، فقد وقف -منذ قديمٍ- صِنوًا للفِكْر في الدفاع عن الأصالة والقِيَم، وضبْطِ بوصلة العقلِ؛ لحمايته من الانحراف؛ لما يحمله -في طيَّاته- من تصوُّرٍ مستقيمٍ في مفاهيمِ الكون والحياة، والعَلاقةِ بين الفرد والمجتمع، وتوصيفِ المشاعر الإنسانيَّة والارتقاءِ بها؛ إذ إن الفن يعمل -ضمن ما يعمل- على تحقيق التكامل النفسي والاجتماعي، وذلك على الرغم مما تصطبغ به الآثارُ الفنيَّة من صِبغةٍ ذاتيَّة فرديَّة.
والشعراء -كما هو معلوم- مِن أرهف الناس شعورا، وأصدقهم أحاسيسًا، وأرقهم قلوبًا، ولذا اتسم تعلّقهم بالمحبوبة بالتحدي الذي اشتد أوراه بالمنع، والصبابة التي أرهقتها المعاناة، حتى وُصف بعض هذا الحُب المتعفف بالتصوف المتجرد من شوائب المادة والحسِّ؛ حيث إنه -في نظَرهم- خالٍ من الشوائب، مترفع عن الدنايا، بقدرٍ لا يتعارض مع الطبيعة البشرية التي تنزع للجنس الآخر بنَسبٍ متفاوتة.
وإننا حين نتحدث عن هذا الجانب الإنساني الاجتماعي في حياة العرب الأوائل، لا يشغلنا ذلك عن تذوق البيان العالي، والألفاظ والتراكيب والصور التي نقلت إلينا هذه المشاعر والأحاسيس، والتي صيغت صياغة بديعة، ضاربة في الأدبيّة بسهمٍ وافر؛ فتتضاعف المُتعة واللذة عند قراءتها أو سماعها، مرة للموضوع والمحتوى، وأُخرى للصياغة والبيان.
الحُبُّ طبيعةٌ فطرية.
لقد جُبل الرجل والمرأة على ميْل كلٍّ منهما للآخَر، فهذه طبيعة بشرية، لا مراء فيها ولا جدال؛ لتسكُن النفس وتتكامل كما يتكامل الليل والنهار، ويستمر العنصر البشري، وتتوارث الأجيال في عمارة الأرض، وخلافة الله فيها، ولذا امتلأت كتب التاريخ والأدب بقصص الهيام والولَع بالمحبوبة والحنين إليها، والتعلُق بها، وانتقلت إلينا عبر ميدان القصيد، فحفظها من النسيان، ومن عوادي الزمان.
الحب العُذري قبل البعثة المحمدية
شاعت في كثير من كتب الأدب والأخبار والتراجم قصصٌ كثيرة، وقصائد تتغنى بالمرأة، في العصر الجاهلي، سواء أكان ناشئا عن عاطفة صادقة، ومحبوبة معلومة، أم غزلًا تقليديا تبدأ به القصائد، وذلك بداية من امرئ القيس(ت 545م)، والمرقش الأكبر (550م) وطرَفة (569م)، حتى المرقش الأصغر (570م)، مرورًا بالنابغة (605م) وعنترة (608م) وزُهير بن أبي سُلمى (609م)، حتى عروة بن حزام (650م)، ولم يكن هذا الغزل نوعا واحدًا، بل فيه الحسي الفاحش، وفيه العُذري المتعفف، على خلاف الشائع عند البعض، حتى إن الدكتور "أحمد الحوفي" قد رجّح بأن "الغزل العُذري نشأ وكان فنًّا مستقلًا في العصر الجاهلي، وقد ساعد الإسلام على نمائه"، ومن الأسباب التي ساعدت في انتشاره في العصر الجاهلي: القيَم البدوية، والأعراف القبيلة، والنخوة العربية، غير أن الدكتور "شوقي ضيف" يرى أنها لم تكن بالظاهرة، إنما كانت -فقط- عند بعض الأفراد من الفرسان، ويميل لهذا الرأي نفر غير قليل من النقاد والمؤرخين، بينما يرى الدكتور "طه حسين" أن هذا الفن لم يشتد عوده إلا في العصر الأُموي، ومن الممكن أن يقال: إن بعضًا من الشعراء الجاهليين هم من أسسوا لهذا الغرض، حتى استوى على سُوقه في العصر الأموي.
نماذج من قصص الحب العذري
وتعد قصة "عنترة العبسي" وابنة عمِّه "عبلة" من أبرز قصص الحب العذري الذي وصَلَنا في عصر ما قبل الإسلام, وهي قصة أليمة مليئة بالمعوقات والتحديات؛ الأمر الذي أثر في نفْس العاشق الولهان، والشاعر الهيمان، والشجاع الذي لم يعتد التسليم والإذعان، والمتعفف الذي لم يسمح لقِدَمه أن تزلَّ في وحْل الدنايا، يقول:
أَغشى فَتاةَ الحَيِّ عِندَ حَليلِها وَإِذا غَزا في الجَيشِ لا أَغشاها
وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي حَتّى يُواري جارَتي مَأواها
إِنّي اِمرُؤٌ سَمحُ الخَليقَةِ ماجِدٌ لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها
لكن عنترة مع هذا يهيم عشقا في محبوبته "عبلة"،حبًّا لا إثم فيه ولا تفحش، وهو في إطار تقديمه لنفْسه، يتكئ على شجاعته وفروسيته، يقول:
أَلا يا عَبلَ قَد زادَ التَصابي وَلَجَّ اليَومَ قَومُكِ في عَذابي
وَظَلَّ هَواكِ يَنمو كُلَّ يَومٍ كَما يَنمو مَشيبي في شَبابي
كما أورد في كتابه تاريخ آداب العرب: "وقد ظل عنترة يتغنى بحبه، بقلب يائس، ونفس حائرة، وعفة لا يتسرب إليها القصد السيء، ومن ثم كان يمكن أن يعد- حسب رأي الدكتور شوقي ضيف- أبًا للشِّعر الحُبِّ العذري عند العرب، كما يُعد -فعلًا- أبًا للفروسية العربية بخصالها وخلالها النبيلة السامية التي استرعت أنظار الصليبيين؛ فاتخذوا منها مثالًا لفروسيتهم وما انطوى فيها من حب عذري".
عروة بن حزم"، وحبيبته "عفراء"
وليس "عنترة" وحْده من يقف تحت هذه الراية، بل شايعَهُ بعضُ الشعراء العاشقين، ومن هؤلاء، "عروة بن حزم"، وحبيبته "عفراء" وهي قصة، طويلة -أوردها صاحب "الأغاني"- لا يتسع المقال لذِكْرها، لكن خلاصتها أنه كان لـــ "عروة بن حزام" ابنةُ عمٍّ تسمى "عفراء" وهي من أكثر النساء جمالًا وأدبًا، وفصاحة؛ فرُبِّيا معًا، وله من العمر أربع سنين، فلما بلغا الحُلُم سأل عمه تزويجها فوعده ذلك، وأخرجه إلى الشام، وزوجها ابنَ أخٍ له، فلما بلغ عروة ذلك؛ زادت به لواعج النوى؛ فأنشد:
وقدْ علمتْ نفسي مكانَ شفائها قَرِيبًا وهل ما لا يُنَال قَرِيبُ
حَلَفْتُ بِرَكْبِ الرّاكعين لِرَبِّهِمْ خشوعاً وفوقَ الرّاكعينَ رقيبُ
لئنْ كانَ بردُ الماءِ عطشانَ صاديًا إليَّ حبيبًا، إنّها لحبيبُ
وانتهى به الحال أن مات شوقًا لها، فذهبت "عفراء" على قبره تندبه؛ حتى ماتت هي الأخرى على القبر، وقد تنبأ بذلك عروة، حيث يقول:
وما عجب موت المحبين في الهوى ولكن بقاء العاشقين عجيب
وغيرهما الكثير من قصص الحب العذري الجاهلي، مِن مثل "النابغة الذبياني" وحبيبته "نُعم"، والمرقّش الأكبر الضُّبَعيّ وحبيبته "أسماء بنت عوف بن مالك"، والمرقش الأصغر وحبيبته "فاطمة بنت المنذر"، وكلها قصص تنبئ عن مكانة المرأة في العصر الجاهلي، عند كثير من الشعراء.
بنو عذرة ونوادر الشعراء
جاء في "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" لابن قيّم الجوزية، تصوُّر "بن عذرة" للحُبِّ، وتعريفهم له، من خلال هذه المحاورة: قال سفيان بن زياد: قلت لامرأة من عذرة، رأيتُ فيها هوى غالبًا؛ خِفت عليها الموت منه: ما بال العِشق يقتلكم معاشرَ "عذرة" مِن بين أحياء العرب؟ فقالت: فينا جمالٌ وتعفُّف، والجمالُ يحملُنا على العفاف، والعفاف يورِثنا رِقَّةَ القلوب، والعشقُ يُفني آجالنا، وإننا نرى عيونا لا ترونها.
من خلال هذا التصور تزول علامات التعجب عند سماع قصص العشق التي تودِي ببعضهم إلى الهلاك، فإنه عند قراءة/ سماع أخبار شعراء هذه القبيلة ومحبوباتهم، تكثر الأسئلة، وتزيد درجة الاندهاش.
ومن هؤلاء "قيس بن ذَريح العذري" (68هـ)، و"لُبنى بنت الحباب" هذا العشق والتعلق، وقد تمكنا من الزواج، غير أن "لُبنى" لم تكن تُنجب الولد؛ فأرغم قيس على تطليقها، وقد سجَّل ذلك في أبياته الباكية، يقول:
يقولون لُبْنَى فتنةٌ كنتَ قبلها بخير فلا تَنْدَمْ عليها وطلِّقِ
فطاوعتُ أعدائي وعاصيتُ ناصحي وأقررْتُ عين الشامت المُتخلِّق
وَدِدْتُ وبيتِ الله أنّي عَصَيْتُهم وحُمِّلت في رِضوانِها كلَّ مُوبِق
وكُلِّفتُ خوضَ البحر والبحر زاخرٌ أَبِيتُ على أثْبَاج موج مُغَرِّق
كأنّي أرى الناسَ المحبّين بعدها عُصارةَ ماء الحنظل المُتَفَلِّق
فتُنكر عيني بعدها كلَّ منظَرٍ ويكره سمعي بعدَها كلَّ منطق
وقد ذكر أكثر الرواة "أنهما ماتا على افتراقهما، فمنهم مَن قال: إنه مات قبْلها، وبلغها ذلك؛ فماتت أسفًا عليه، ومنهم من قال: بل ماتت قبْله، ومات بعدها؛ أسفًا عليها، قال "أبو عمرو المدني": ماتت "لبنى"، فخرج "قيس" ومعه جماعة من أهله، فوقف على قبرها، فقال:
ماتَت لُبَينى فَمَوتُها مَوتي هَل تَنفَعَن حَسرَةٌ عَلى الفَوتِ.
وَسَوفَ أَبكي بُكاءَ مُكتئب قَضَى حَياةً وَجدًا عَلى مَيتِ
ثم أَكبَّ على القبر يبكي حتى أُغمي عليه، فرفعه أهله إلى منزله وهو لا يعقل، فلم يزل عليلًا لا يفيق ولا يجيب، حتى مات، فدُفن إلى جنبها، وأترك للقارئ الكريم الإجابة على هذا السؤال، هل أخطأ قيس بتطليقها أم لا؟
ونجد عند "جميل بن معمر"(82هـ) والذي يعد من أشهر شعراء الغزل في العصر الأموي، فقد جمعته قصةُ حُبٍّ مع "بثينة بنت ربيعة"، حيث عاشا في "وادي القُرى"، وهو قريب من "المدينة المنورة"، وترجع قصة حُبِّهما إلى الطفولة، فقد أحبَّها في مهْد الصِّبا، وكان الخلاف الذي دار بينهما حول المرعَى من أسباب تعلقه بها، يقول:
وَأَوَّلُ ما قادَ المَوَدَّةَ بَينَنا بِوادي بَغيضٍ يا بُثَينَ سِبابُ
وَقُلنا لَها قَولًا فَجاءَت بِمِثلِهِ لِكُلِّ كَلامٍ يا بُثَينَ جَوابُ
وقريب من ذلك تجربة "توبة بن الحميِّر "(85هـ) صاحب "ليلي الأخيلية" (80هـ)، ووضاح اليمن (90هـ)، وروضة الكندية، و"كثير الخزاعي (105هـ)" مع "عزة"، وكل هؤلاء شربوا من كأس الهوى، وألمهم البين والفراق، وكلها تجارب كانت في مدة زمنية محددة قريبًا من نصف قرن، ساعد في نموها وانتشارها عوامل عدة، سياسية واقتصادية واجتماعية وجغرافية، لكن التجربة الأجدر بالوقوف عليها والتأمل فيها: قصة "جميل وبثينة"، يقول الأستاذ "العقاد" في كِتَابه "جميل بثينة": "كن الوقوف على تجربة أقربهم إلى الطبيعة -فيما نرى- جميل صاحبنا فهو لا يتفق له وجود -حيث وجد- إلا على الصورة التي تجملها لنا قصائده وأنباء رواته، وعلاقته بمعشوقته "بثينة"، مستقيمة على النهج الذي ينبغي أن تستقيم عليه، وإخلاصه لها أو إخلاصها له هو الإخلاص الذي ينطوي عليه كل عاشقَين مثلِهما.
والهدف من إبراز هذه التجارب في هذه الحقبة الزمنية التي نعيشها على هذا الكوكب: أن نبث في الوعي الجمعي هذه الفضائل، والحفاظ على المحبوبة حتى من العاشق نفسه، فهو يحبها نعم، لكنه حبٌّ لا إثم فيه ولا ابتزاز، وهو الأمر الذي يسعى إليه المشتغلين بإيقاظ الوعي، والواقفين على ثُغور الأمة؛ حتى يعتصم شبابها، ويدركوا أن لهم أجدادًا حرصوا على العفاف وتمسكوا بالفضيلة، ونشروا القيم السامية؛ فرقَّتْ قلوبُهم، وأمِن كلُّ أحدٍ على نفْسه وعِرضه.