رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أصحاب النظارات لا يصلحون لصور للذكريات

23-8-2017 | 15:59


محمود عبد الدايم - قاص وكاتب من قنا

"لا أمتلك صورة واحدة لطفولتى.. مراهقتى.. وسنواتى التى تلت مرور قطار عمرى بـمحطة الثلاثين"..حقيقة أطلقتها فى وجه صديقى بعدما امتد بنا الحديث إلى منطقة الذكريات، حدثنى عن صورة أبيه الشهيد التى لا تزال حاضرة فى حائط غرفة "المسافرين" المواجه لباب الشقة، وانتقل بالحديث إلى صورة حبيبته الأولى الـ (4×6) التى يحتفظ بها فى مكان سرى بمحفظة جيبه، وصورة طفله الأول، لكنه لم يتطرق إلى الصورة التى تعلقت بها عيناى، منذ دخلت بيته، صورة زواجه، وأصابنى – كعادتى – الإحراج من سؤاله عن السر وراء تجاهله أمر الزواج وصورته مع المرأة التى طلقها فى عام زواجهما الخامس.

لم يجدالذهول مكانا له على وجه صديقى عندما أخبرته عدم امتلاكى أية صور يمكن أن تمنحه – غير حكاياتى المقتضبة- شيئا عن سنواتى الماضية، يعرفنى هو جيدا، ومن الممكن أن السهولة التى مررت بها أحرف الجملة، والصوت المحايد الذى خرجت به كلماتى منحاه الأسباب الكافية للمرور على  محطة صورة الماضى تلك دون أية إشارة.

فى الحادية عشرة والنصف مساء، بعدما تأكدت أن نوبة الاكتئاب فارقته إلى حين ليس بقريب، استأذنته فى الرحيل، لحقت بالمترو الأخير، تعلمت خلال سنواتى الطويلة أن الأشياء التى تأتى فى المرتبة الأخيرة دائما يكون بها متسع للجلوس والتأمل والصمت، والتذكر ، فما إن أرحت جسدى على المقعد المتسخ، وتأكدت أن من يشاركوننى عربة المترو، والمقاعد المتسخة، وما تبقى من توسلات المتسولين، لديهم ما يشغلهم عنى، بحثت فى ذاكرة هاتفى عن الأغنية المفضلة لى، وما هى إلا ثوانٍ، وكان "عبد الوهاب"، يغنى: " قالوا لى هان الود عليه".

أخرجت بطاقتى الشخصية، وجدتنى فيها كغالبية المصريين، لست أنا من فى الصورة، تذكرت الموظفة التى طالبتنى أن أخلع نظارتى لتتمكن من التقاط صورة البطاقة، أخبرتها أن عينيّ لن تظهرا لو استمعت لنصيحتها وخلعت النظارة، شرحت لها الأمر باستفاضة، أخبرتها أن سنوات كثيرة مرت لم أخلع فيها نظارتى إلا فى اللحظات تلك التى أكون فيها وحيدا، أشعر أن روحى،حياتى كلها، يجب أن تظل مختبئة خلف تلك العدسات الثقيلة، حتى لا يلمح أحدٌ العجزَ الذى أعانيه، لكنها رفضت، أكدت أن التعليمات التى وضعتها مصلحة الأحوال المدنية تشدد على أن المواطن يجب ألا يكون مرتديا نظارة أو أى شيء آخر، حاولت تلطيف الأجواء، البحث عن طيف ابتسامة ترتسم على وجهها، فأخبرتها أن حكومتنا الرشيدة تريدنا كما ولدتنا أمهاتنا، لكن الملعونة لم تتجاوب مع مزحتى، وأعادت على مسامعى بصوت لا يطيق معى صبرًا: "اخلع النضارة يا أستاذ.. عشان نخلص فى يومنا ده".

أعدت بطاقتى لمكانها، وارتكنت بمرفقى على شباك المترو، وفى الخلفية صوت "عبد الوهاب":

خلوني أحبه على هواي وأشوف في حبه سعدي وشقاي

ده مهماطول شوقى إليه ومهما زاد هجره وبكانى

علاقتى بالنظارة بدأت منذ كنت فى العاشرة من عمرى، لم أكن الولد المفضل لأبى، لكنه كان الأب المفضل لى، تركت كل أمور الحياة، لم ألعب كطفل فى العاشرة، لم أجعل أمى تبحث عنى فى ليالى الصيف الطويلة المرهقة بين تجمعات أقرانى الذين يلوذون بالشارع لقتل الوقت ، كانت دائما تعرف أننى هناك حيث مكان أبى، أرتدى نظارته، أجلس مكانه، مقلدا طريقته فى الجلوس، ممسكًا بكتاب كان يقرؤه منذ ساعات، أحرك شفتيّ بكلمات لم أكن أعى فحواها، لكنها كلمات مرت على عيون أبى، إذًا فهى ذات أهمية، كل ما كان به رائحة من أبى كان يشدنى.

فى الثالثة عشرة أدركت أمى أننى لا أرى جيدا.. أدخلتنى اختبارات عدة، طالبتنى أن أحصى دجاجاتها التى تطلقها فى "حوش" البيت، فشلت خلال المرات الأربع فى اختبار أمى الأول، لم يعرف اليأس طريقا لقلب أمى، ولم تكن تريد الاعتراف بأن وليدها يحتاج لما يساعده فى رؤية الأمور، لهذاوضعتنى فى امتحان إحصاء كم "زرزور" يقف على أسلاك الكهرباء الممتدة فوق سطوح بيتنا، وعندما تعثرت قدماى فى بيض إوزتها الوحيدة، فاتحت أبي فى الموضوع، أخبرته أننى ولد لا يعرف أن يضع قدميه.

بمرور السنوات، أصبحت خبيرا فى أنواع النظارات، أعرف الجيد منها، وأدرك الرديء من النظرة الأولى، صنعت لنفسي سبع نظارات، لا لشيء، إلا لاكتشافى أننى لا أمتلك من الدنيا شيئا، ولأن الامتلاك لا بد أن ترافقه خسارة، فقد عرفت أن رغبتى فى أن تكون النظارة حاضرة فى كل المشاهد، تواجهها رغبة الآخرين فى أن أتخلى عنها.

 فى جميع المناسبات، وجدتنى فى مكان خلفى، فى البداية، أخبرنى المصور الذى استأجرته مدرستى الثانوية لتصوير دفعة التخرج أننى يجب ألا أتصدر الصورة، فعدسات نظارتى تعكس أضواء "الفلاش"، واختار لى مكانا على طرف الصف الأخير، ظهرت فيه النظارة ولم أظهر أنا جيدا، كنت مجرد بقعة ضوء لامعة فى صورة تملؤها الوجوه المبتسمة، حمدت الله يومها، فـ"حب الشباب" الذى كان يحتل وجهى، علامة على بلوغى، سيظهرنى شبيها بـ"المسخ"، فقلت:«بقعة ضوء أفضل من وجه مشوه».

فى صور الذكريات التالية، دون ملاحظات المصور، قررت الوقوف فى طرف الصف الأخير، أى صف أخير، وطوال السنوات تلك لم أتلق أية ملاحظة على مكانى، وكأن جميع شركائى فى الصورة يمتلكون الخبرة الكافية التى تتيح لهم اختيار المكان الأفضل لصاحب العدسات الثقيلة!

الصوت المسجل، يخبرنا أنها محطة السيدة زينب، محطات 4 لا تزال متبقية، و"عبد الوهاب" أنهى أغنيته، فأعدت تشغيلها، وقررت منحها جزءا من اهتمامى، لعلها تنقذنى من الذكريات تلك، لكننى فوجئت برأسى تذهب إلى أنه كان مثلى يرتدى نظارة، عدساتها ثقيلة كعدسات نظارتى، لكننى أحب صوته ولا أريد أن أكون شبيها به، طردت الفكرة سريعا، وأعدت الكرة لعلنى أتمكن من التركيز فى كلمات الأغنية فيغيب وجه صاحبها عنى.

أنا بحبه وأراعى ودُه إن كان في قربه ولا في بُعده

وأفضل أمنِي الروح برضاه ألقاه جفاني وزاد حرماني

هو اللي حالي كده وياه كان افتكرني عشان ينساني

زوجتى الأولى لم تكن من أصحاب الأملاك مثلى، لا أدرى ما الذى جذبها ناحيتى، لكن سرعان ما وجدتنى أقف فى استديو التصوير، ويطالبنى المصور بأن أخلع نظارتى، لم أكن فى مزاج يسمح لى بالدخول فى مناقشات، خلعت النظارة، وسألته: "عيون العروسة ظاهرة؟"، أكد لى أنها عشرة على عشرة، فقلت له "توكل على الله"، ولم أظهر كبقعة ضوء فى الصورة...!

فى زواجى الثانى، لم أعط للأمر أهمية، فزوجتى كانت من أصحاب الأملاك مثلى، لكنها سرعان ما فاجأتنى بقرار "الليزك"، لا أعرف حتى الآن لماذا اتهمتها بالخيانة، الأحوال بيننا تدهورت، أصبحت لا أراها جيدا، فمنذ قررت إجراء العملية اللعينة تلك، وأنا قررت ألا أرتدى نظارتى فى وجودها، فكان الطلاق.

محطتى هى التالية، الصوت المعدنى أعادنى من هناك، انتبهت للأمر وكان "عبد الوهاب" ينهى أغنيته"بكرة يعز الود عليه ويفتكرنى عشان ينسانى".