رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


حضارات الخزف.. هنا إفريقيا

23-8-2017 | 16:19


د. هــدى مــدنى

بدأ الاهتمام بالفنون الإفريقية مع نهاية القرن التاسع عشر,ويعود الفضل إلى علماء الأجناس فى اكتشاف وتفهم الفنون الإفريقية التى هى انعكاس حقيقى لحياة الإنسان الإفريقى، وتداخل أساليبه ووسائله ومؤثراته الفنية، وظروفه البيئية وعاداته الاجتماعية والدينية والسحرية، وزخارفه ورموزه التى هى بمثابة الدعامة الأساسية لثقافة هذا المجتمع، مما أثر على كثير من الفنانين العالميين والذى ظهر واضحاً فى القيم التعبيرية والرمزية لأعمالهم الفنية.

وعندما اكتشف المؤرخون وعلماء الأنثروبولوجيا الفن الإفريقى, وجدوا أن الفنان الإفريقي تأثر بالسحر والأساطير والقصص القديمة والأمثال التي ترتبط بتراثهم ومعتقداتهم وتقاليدهم السائدة والاهتمام بأمجاد أسلافهم أو أجدادهم وملوكهم, حتي أن من القطع المنحوتة والمصبوبة في قوالب منحوته (نوك*) (نيجيريا)، والتى هي عبارة عن أشكال بشرية وحيوانات من الطين، وتظهر فيها تقاليد نشأت في زمن كانت فيه طرق التجارة طويلة وبعيدة , وممالك غانا الراقية فى أول عهدها,وحضارة (نوك) كانت تؤذن بمجىء حضارة (إيف**)، والحضارتان فيهما صفات مشتركة، هى تقاليد الأنية الفخارية والتماثيل الصغيرة،ولا يزال يستخدم الفنانون الحرفيون الموجودون فى (نوك) وما حولها نفس المواد لعمل تماثيلهم المصنوعة من التراكوتا, ويسيطرون على تقنيات عمل القوالب وحرق الطين, وبالتالي يكون سمك التمثال من الداخل موحد لأنه مفرغ من الداخل حتى لا ينكسر أثناء عملية الحرق  التى أبدعها الفنان الإفريقى, كما أنها تتميز بالخط الفاصل بين الخزف الذى على هيئة جرة والتماثيل الصغيرة من التراكوتا, فالجزء السفلى على هيئة إناء خزفى وعليه زخارف حلزونية أوهندسية أونباتية، والجزء العلوى على هيئة تمثال, والعلاقة بين الإناء وشكل الرأس يبدو طبيعياً وفى توافق، وعلماء الآثار يشيرون إلى أن انتشار صناعة الإناء الفخارى يعود إلى "العصر الحديدى المبكر فى إفريقيا، وخاصةً بين قبائل (البانتو***)، ويرجع الفضل فى الانتشار إلى خزافين لم يكونوا إلا قلة ضئيلة من السكان الذين استقروا فى إفريقيا.

الخزف الإفريقى

      إن الإناء الإفريقي ليس ترفاً وإنما له ضرورة ووظيفة اجتماعية، كما أن له عدة استخدامات هى: الطهى، وأوعية رفات الميت، ومصابيح الزيت الفخارية، وأوان فخارية تستخدم لتخزين الطعام، وأوان تستخدم لصبغ النسيج وإشعال الأعشاب ذات الرائحة، وأوان لحفظ المياه، أما الأوانى الضخمة فتستخدم لتخزين الحبوب، ومن هذا المنطلق اكتسبت الآنية الإفريقية مكانتها من حيث كونها أعمالاً فنية تؤدى دوراً وظيفياً فى المجتمع الإفريقى، كما أنها

* حضارة نـوك: هى حضارة ظهرت منذ 500 ق. م فى سهول و وسط نيجيريا حيث كان الصناع المهرة يستخدمون تقنية النقش وصناعة الفخار فى نحت روؤس الأشخاص والحيوانات من الطين ثم يجففونه ويحرقونه.

**حضارة إيف: هى حضارة قديمة ظهرت بعد حضارة (نوك)، وتوجد فى دولة نيجيريا، التى تقع غرب إفريقيا.

***قبائل البانتو:تمثل الغالبية العظمى من سكان إفريقيا، ومنتشرون فى أرجائها سواء فى الشرق أو الغرب أو الجنوب أو وسط إفريقيا

تعبير قوى عن حياة الفنان الإفريقى وأساطيره وطقوسه السحرية ورموزه وزخارفه ذات المدلولات الرمزية، حيث إن الزخارف هى عنصر مهم يدخل فى مجال الخزف الإفريقي, فالزخارف بسيطة وأقل انتظاما, وفى أغلب الأحيان تكون الزخارف لحيوانات مجردة سحالى، وثعابين، وسلاحف, كما أنها زخارف متدرجة من التصوير الطبيعى إلى الاتجاه التجريدى وهذا يعنى أنها لم تصمم لمجرد أن تكون مصدراً للمتعة وحسب, وإنما قد يكون لها غرض دينى أو ترمز لشىء ما, ودليل على التميز الاجتماعي والثقافى.

وإذا كان الرجل الإفريقى أبدع فى منحوتاته, فإن المرأة الإفريقية قد أبدعت فى مجال الخزف وصناعة الأوانى الفخارية، واهتموا بتحسين مرونة الطين وإزالة العناصر غير النقية منها, وذلك من أجل الحصول على أفضل الأوانى الفخارية، ويتم صقل سطح الآنية بإمرار أوراق النباتات على سطح الإناء قبل أن يجف (مرحلة الجلد  (Leather Stage, وتقوم النساء فى (ديهومى Dahomey ) بدمج الطين بأكسيد الحديد الأحمر أو تلوين أوانيهم بألوان مختلفة, أما سيدات (كانيورىKanuri  ) من نيجيريا الشرقية فيقومون بدمج الطين بالأكسيد الأحمر والأصفر وفحم الحطب مستخدمين زيت الفستق كقاعدة، وبعد جفاف الأوانى تتم عملية الحريق بأساليب بسيطة تلائم فطرية وبساطة الفنان الإفريقى من خلال عملية حريق الحفرة, وهى أحد طرق الحرق البدائية, والتى ظهرت قديماً فى القبائل الإفريقية, واستخدم فيها الفنان الإفريقى خامات بيئية طبيعية تعطى قيمة فنية فهى منظومة متكاملة تجعل من هذا الإناء البسيط عمل فنى .

 

سمات الخزف الإفريقى

-       قدم هذا الفن واستمر إبداعه عبر العصور.

-       تمسك الفنان الإفريقى بالتقاليد الفنية والتزامه بتلبية متطلبات مجتمعه المختلفة، والدليل على ذلك أن أغلب الأعمال الخزفية كانت لها استخدامات نفعية.

-       تقدير المجتمع الإفريقى لفنانيهم ومواهبهم وإبداعاتهم الفنية، ويتضح ذلك من اهتمام الخزاف الإفريقى بالإناء وزخرفته تبعآ لوظيفته الاجتماعية أوالدينية أوالطبية وغيرها .

-       إسهامات المرأة الإفريقية ودورها المهم فى عملية الإبداع الفنى، خاصة فى مجال الخزف وما لديها من خبرات متراكمة توارثتها عبر الأجيال

  -  صدق الفن الإفريقى نابع من تحقيقه واقع المعايشة اليومية، وعفويته التى هى نتاج خبرات تراكمية تنتقل بين الأجيال دون مجالات للتعليم المقنن ولكن بالممارسة، وبساطته التى تتضح فى التجريدية العميقة للخطوط والأشكال المرسومة، وأصالته الواضحة فى الحفاظ الدائم على الوحدات التشكيلية والزخرفية والتى تتضمن أغلب أعماله الفنية، مع محاولات التجديد والابتكار فى ترتيب تلك الأشكال على المسطحات المختلفة، وبراءته كفن لا يعتمد على طرز فنية سبقته أوعاصرته، وتتضح لغته الجمالية من سرعة التعرف على وجوده، واستخدامه لرموز فنية خاصة به، ولايخفى على المشاهد المتخصص أوالعادى أن هناك نوعاً من الإشعاع  الخاص بالتأثيرات الروحية النابعة من كل أشكال الفنون الإفريقية عامة وبخاصة الأعمال الخزفية .

-  عدم اهتمامه بالمنظور والنسب التشريحية والتفاصيل، وهذا واضح  وجلى فأغلب أعمال خزافى إفريقيا تجمع بين الجمالية والنفعية .

-  زهد الخزاف الإفريقى فى تخليد اسمه الشخصى، فلا توجد أعمال موقعة من فنان إفريقى إلا من هاجر من إفريقيا إلى أوروبا وأمريكا.

-  نجاح الفنان الإفريقى فى إبداع  وإنتاج روائع خزفية بأدوات بسيطة من صنعه، فأغلب الأعمال الفنية منفذة بأدوات يدوية بسيطة لا تدخل فيها أى ميكنة  تذكر، وهو ما يضيف عليها الكثير من القيم الجمالية والتشكيلية.

-  يعبر الخزف الإفريقى عن فضيلة العمل اليدوى والاعتزاز الوطنى والرغبة فى الاستمرار الحضارى، فأغلب الخزافين الحرفيين يقومون على العمل بالمنتجات الفخارية والتى هى مصدر رزقهم، وما يحتويه الإناء من زخارف ورسوم هى استمرار لحضارة زخرفية ممتدة من آلاف السنين ترتبط بطقوس دينية أو عقائدية أو رقصات إيقاعية صاخبة ومميزة.

جماليات الإناء الإفريقى

لكل فن من الفنون جمال يختص به و قواعد وأصول، هو ثمرة جهود السابقين في مجال الجمال الفني، ولقد قام علماء الجمال بالدراسة والتحليـل لاستـخرج عنـاصر الجمال وعـوامل الإبداع فى الإناء الخزفى، كما قام بعض الخزافين من أصحاب الموهبة والكفاية الحقيقية بتقديم أعمال فنية جديدة قد تخضع للقواعد والنظريات السابقة وأعمال آخرى تنشد التجديد والابتكار، وتتوطد مع الاتجاهات الجديدة، والخزف الإفريقى يمتاز بخصائص جمالية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بفلسفة الخزاف الإفريقى وأفكاره ومعتقداته الدينية, حيث إنه بسط وعدل وغير من أشكال أوانيه الفخارية وقام بتوزيع مفرداته التشكيلية لتتناسب مع الغرض المصنوع من أجله الإناء سواء كان دينياً أو دنيوياً، وهذا يتضح فى شكل (1),وسوف نستعرض الخصائص الجمالية للإناء الإفريقى وهى :

– الشكل والخامة.– جماليات الشكل. – الشكل والوظيفة.

شكل (1)

إناء إفريقى من الفخار

قبيلة باغندا – أوغندا

إفريقيا الوسطى

الأبعاد:22 طول × 26عرض سم

منتصف القرن الـ 20 الميلادى

إناء يمثل مكانة رئيسية ووظيفة نفعية لدى المجتمع الإفريقى، فهو يستخدم فى المناسبات الاجتماعية  والاحتفالات القبلية، مثل تنصيب القائد أو الزعيم الجديد، يلاحظ اختلاف شكل قاعدة الإناء عن باقى أشكال الأوانى الأخرى المعتادة، فلقد جمع الخزاف الإفريقى بين القيم التعبيرية والقيم الوظيفية، المتمثلة فى القوة البنائية والتشكيلية للعمل الفنى، فالشكل يعبر عن الوظيفة ويتفق مع الفكرة الابتكارية للإناء.

أشهر الخزافين الأفارقة قديماً وحديثاً

ديف بوتر Dave Potter:

هو فنان إفريقي الأصل ولد فى القرن التاسع عشر، ولقد وقع تحت يد تجار العبيد فبعد أن كان حراً أصبح عبداً، وهو من العبيد الذين استطاعوا الهرب ممن يمتلكونهم, إن ديف بوتر من العبيد الذين حاربوا من أجل الحصول على حريتهم ونتيجة لهذا فقد ساقه فى حادث السكك الحديدية بأمريكا أثناء محاولاته الهرب من تجار الرق والعبيد، نادراً ما نسمع عن عبد استطاع ان يجعل لنفسه اسماً فى ظل العبودية والقهر، لكن (ديف) كان فناناً استثنائياً.

وبدأ (ديف) العمل على عجلة الخزاف وشكل أوانيه الفخارية، وظهرت إبداعاته الفنية فى أوانى التخزين الضخمة التى يصل ارتفاعها حوالى 65سم طولاً، وعرضها حوالى 180سم، وأغلب أوانيه إما مصقولة أومطلية بطلاء زجاجى ملون أوشفاف.

      وأهم ما يميز أعمال (ديف) الخزفية هو توقيعه أسفل فوهة الإناء، حيث يقوم بكتابة اسمه وتاريخ إنتاج عمله الفنى، وأحياناً آخرى يكتب حكمة أوقولاً مأثوراً ثم يوقع باسمه، شكل (2).

   شكل (2)

ديف بوتر – 1858

إناء كروى الشكل يستخدم لحفظ المياه، وهو من الأشكال القليلة والنادرة التى يقوم الفنان (ديف) بتنفيذها، حيث يلاحظ مهارة الفنان فى استخدام البطانات الملونة، فالأرضية لونها أصفر فاتح، وعليها تجزيعات رخامية بنية اللون لإضافة الظل والنور كأحد عناصر التشكيل فى تجسيم الشكل، ثم تم تطبيق الطلاء الزجاجى الشفاف على الإناء لإعطائه  لمعة خفيفة، يلاحظ  ثقل الطلاء الزجاجى الشفاف، والفوهة ضيقة لكى تتناسب مع الوظيفة، وأسفل الفوهة يلاحظ توقيع (ديف) والتاريخ وكذلك أول حرفين لسيده (مايلز لويس) "ديف 6 ديسمبر 1858 .Lm"

لادى كوالى Ladi Kwali:

       هى خزافة إفريقية الأصل من دولة نيجيريا ولدت عام 1925 بقرية تسمى كوالى فى منطقة جوالى شمال نيجيريا، تعلمت صناعة الأوانى الفخارية وهى فى مرحلة الطفولة، حيث إن صناعة الفخار مهنة شائعة بين السيدات الإفريقيات، وعندما أرسلت الحكومة البريطانية (مايكل كاردو) عام 1950 إلى مدينة أبوجا – نيجيريا لإنشاء مركز لصناعة الفخار، أراد أن يضم (لادى كوالى) إلى فريق عمله، ولكنها رفضت حتى نهاية عام 1954، ولكن استطاع (كاردو) إقناعها بأن تأتى للعمل معه لأنه كان يعلم حبها الشديد لصناعة الفخار, شكل (3).

شكل (3)

الفنانة لادى كوالى

الأبعاد: القطر 27سم

طبق مطلى بطلاء زجاجى أزرق اللون، والزخارف حيوانية وهندسية منفذة بأسلوب الرسم بالطلاء الزجاجى الأبيض اللون، وفى منتصف الطبق زخارف هندسية منتظمة عبارة عن خطوط طولية وأنصاف دوائر متسلسلة ومترابطة، يلاحظ أن الخزافة دمجت الزخارف الحيوانية والهندسية وقامت بتنسيقهما داخل العمل الخزفى.