فلاسفة غيروا وجه العالم .. فرنسيس بيكون وأوهام العقل
على ماهر عيد – كاتب مصرى
حياته: هو فيلسوف بريطانى، عاش 65 عاما من (1561م:1626م) فى عصر الملكة إليزابث الأولى.
والده كان حاملا لأختام الملكة.
أما أمه وهى صاحبة التأثير الأكبر فى حياته فكانت تترجم مخطوطات العالم القديم (تراث الإغريق والرومان)، وكانت تجيد عدداً من اللغات، ولأن فرنسيس كان الابن الأصغر، احتضنته، وتولت تعليمه بطريقة ذكية، وهى لفت نظره فى وجوه الاختلاف ووجوه الاتفاق فى الأشياء فى الطبيعة وفى الفكر وفى السلوك.
وفى سن الثانية عشرة التحق بكلية ترنتى بجامعة كمبردج، وظهر ذكاؤه الحاد فى طريقة البحث عن الأسباب، وربط الأشياء ببعض، والبحث عن أوجه التشابه والاختلاف، وعدم التسليم المطلق بما يدرس.
وفى سن السادسة عشرة أعلن جهاراً أن أساتذة كمبردج يخطئون لاعتمادهم فى كل دراساتهم على منطق أرسطو وسيطرة التفكير الدينى المتخلف.
وأدرك فرنسيس بيكون أن عليه رسالة، وهى تحرير العقل من لاهوت أرسطو، وسلطة الكنيسة على العلم.
وفى هذا العمر المبكر عرضت عليه وظيفة مع السفير الإنجليزى فى باريس، ولذلك توجه باهتمامه إلى السياسة بجانب دراسته للفلسفة- مات والده وقد بلغ التاسعة عشرة ، وحسب قوانين الميراث فى إنجلترا التى تعطى الأخ الأكبر كل شىء، وجد فرنسيس نفسه لا يمتلك شيئاً وغرق فى الديون لتعوده على الحياة المرفهة.
لجأ إلى عمه رئيس الوزراء ليلحقه بوظيفة فى البلاط لتنقذه من الإفلاس لكن عمه كان يدخر هذه الوظيفة لابنه.
قرر فرنسيس استخدام ذكائه الحاد فى انتهاز الفرص المتاحة، والسياسة علمته البحث عن المنفعة، وآمن بأن المعرفة التى لا تؤدى إلى عمل وثراء معرفة شاحبة لا خير فيها.
فلجأ إلى (لورد أسكس) منافس عمه، ومدحه وأشاد به، لمس اللورد ذكاء فرنسيس، فساعده على الالتحاق بمعهد جراى، وتخرج فى القانون وظهرت مواهبه فى الخطابة بصوت جهورى، وعبارات ناصعة محكمة. وأهداه اللورد مزرعة وبيتا جميلا ليضمن ولاءه له ضد أعدائه.
لم يكتف فرنسيس بهذا، بل بحث عن زيجة تضمن له ثراء واسعاً، لكنه لم يوفق، توسع فى دراسة الفلسفة، بجانب عمله فى القانون، وكتب مقالات فى مديح الملكة والإشادة بها، لكنها لم تهتم به.
إلى أن وقعت خصومة شديدة بين اللورد أسكس والملكة إليزابث فنسى فرنسيس كل مساعدات اللورد له، وأخذ جانب الملكة لأنه الجانب الأكثر ربحا، ولأن ذكاءه لا يعترف بالأخلاق.
وقدم اللورد أسكس للمحاكمة، وكان شاهد الإدانة القوى ضده هو فرنسيس بيكون، وأعدم اللورد، وكوفىء فرنسيس بـ 200000 جنيه.
واستطاع أن يأخذ مقعدا فى البرلمان، واشتهر فى البرلمان بخطبه وانتقاداته. وهو مؤمن بأنه مولود لخدمة البشر، وأن يغمر حياتهم بنور التفكير، وأيضا يؤمن بالسلطة والثروة، وأنه مؤهل بعلمه وفكره لذلك.
مر عليه اثنا عشر عاماً فى البرلمان وفى دراسة الفلسفة والعلوم والتأمل ومحاولة إيجاد مكان له فى البلاط، وكتب مقالات كثيرة لفتت إليه الأنظار ومن كلماته «إن رسالتى هى ترقية الإنسان، وواجبى هو إنشاء حضارة عقلية جديدة».
ومن مبادئه أنه يؤمن بحكمة الثعبان لا برقة الحمامة. وكتب رسالة فى نهضة التعليم تعتمد على تخليص العلم من كل آثار اللاهوت، والاعتماد على الأسباب والتجربة، وتوسيع آفاق الطب باستخدام التشريح، والتوجه للبحث فى إطالة العمر.
وفى البرلمان ركز جهوده فى تأييد سياسة الملك جيمس الأول، وكتب دراسات فى تأييد سياسته بل كتب إليه رسالة «إنى لأشد رعيتك تلهفا على أن أفتديك بالنفس».
ونجحت جهوده أخيراً فى أن يعين مدعيا عاما لإنجلترا.
وتزوج وعمره 45 عاما من سيدة ثرية، ومنح لقب البارون، فتفرغ لكتابة كتابه المهم (الأورجانون الجديد).
واهتم فى هذا الكتاب بتخليص العقل من أوهام التفكير وقد حصر أوهام التفكير فى أربعة أنواع وهى:
1- أوهام القبيلة: وهى الأوهام التى تسيطر على جنس الإنسان عموما، وما ينتابه من تسرع، وتغليب المصلحة، واختلاط العاطفة وأن يكون الإنسان مقياسا لكل شىء، وتأثر العقل بالإرادة والعواطف، ولذلك يجب أن نضع التفكير تحت ضوء الشك المنهجى، وألا نسمح للعقل بأن يقفز ويطير من المسائل المحدودة إلى البديهيات البعيدة، وقد يكون الخيال والتصور ألد أعداء التفكير، فى حين يجب أن نعتمد التجربة والاختبار فقط.
2- أوهام الكهف: وهى الأخطاء التى يختص بها الإنسان الفرد بسبب تربيته وثقافته وبيئته وطبيعته ومزاجه وحالة جسمه وعقله، فبعض العقول تنزع إلى التحليل وترى أوجه الخلاف فى الأشياء أينما وجدت.
وبعض العقول تميل إلى البناء والتركيب وترى أوجه الشبه بين الأشياء، وعقول تميل إلى كل ما هو قديم، والآخر يتحمس لكل ما هو جديد.
3- أوهام السوق: تنشأ من التجارة، وتعامل الناس فى السوق حيث تفقد الألفاظ دقتها العلمية، فرجل الشارع يميل إلى التعميم والتهويل، والكلمات تمتلىء بالرغبات الدفينة، وتوجهها المصلحة، وتكتسى الكلمات بالتشبيه والاستعارة وتفقد مدلولها الحقيقى.
4- أوهام المسرح: وهى الأوهام التى تسربت إلى التفكير من نظريات الفلاسفة وعقيدة الأولين، والحكم الشعبية، والأمثال القديمة.
وبذلك وضع فرنسيس بيكون آلة التفكير، وهى العقل تحت أدوات التشريح لتخليص العقل من كل ما يسبب زيغه عن الرؤية الموضوعية الصائبة.
وهذا الكتاب أثر كثيراً فى توجيه العلماء والمفكرين فى محاولة لتغليب التفكير العلمى بدلا من التفكير الخرافى.
وهو يعتبر أول فيلسوف طارد أسباب التخلف فى أوروبا، ووجه الأنظار إلى التفكير العلمى ومطاردة التفكير الخرافى، والفيلسوف الثانى هو ديكارت الذى دعا العقل إلى الشك المنهجى.
والفيلسوف فرنسيس بيكون كتب مدينة فاضلة باسم أطلس الجديدة ووضع العلماء والمهندسين والمعماريين على رأس الحكم للتعامل مع الطبيعة وزيادة الموارد بطريقة علمية مدروسة.
لكن لا علم بدون أخلاق هذا لم يؤمن به فرنسيس الذى آمن بذكائه وعلمه فقط، وصعد به العلم إلى أعلا درجات السلطة، فأصبح كبير القضاة وأخلاقه لم تمنعه من قبول الرشاوى.
وسرعان ما انكشف أمره، وقدم للمحاكمة التى حكمت عليه بالسجن وغرامة مالية كبيرة، وتدخل الملك وأعفاه من الغرامة، ولم يسجن إلا أياماً قليلة، لكنه حرم من الوظائف العامة، فتفرغ للدراسة والعلم وإجراء التجارب، وفى إحدى تجاربه ذبح دجاجة، ودفنها فى الجليد، فى محاولة لاكتشاف طرق الحفظ، وفى هذه التجربة تعرض للبرد الشديد، فأصيب بالالتهاب الرئوى، ومات وعمره خمسة وستون عاما.
ومن أقواله المأثورة.. التى ضمنها مقالاته.
- إنه صالح جدا لدرجة أنه لا يصلح لشىء.
- سعيد الإنسان الذى تعلم أسباب الأشياء، وداس تحت قدميه جميع المخاوف.
- المعرفة يجب أن تؤدى إلى عمل.
- أريد التخلص من كلمة مصادفة فى القاموس العلمى.
- فى الكتب نتحدث مع الأذكياء وفى العمل نتحدث مع الأغبياء.
- ليس الإنسان إلا ما يعرف.
والخلاصة .. إن فرانسيس بيكون هو أول ضوء ظهر فى أوروبا لإنقاذها من ظلام العصور الوسطى .