د. رضوى زكي – كاتبة وأكاديمية مصرية
اليوم الذى غادر فيه فاروق الأول الديار المصرية ، عُدّ عيداً للإسكندرية ( 26 يوليو 1952 ) ولأن الإسكندرية مدينة شهدت تواريخ وأحداثاً عالمية ، فإنها أيضاً تعد تحفة معمارية وتراثاً إنسانياً عيدها يجىء هذا العام ، وقد أهال الإهمال والتخريب التراب على عمارتها الساحرة.مدينة الأساطير والجمال تصرخ وتئن يا أهل المحروسة.
المدينة التي ما زالت تحتفظ بشيء من أطياف مجد الإسكندرية القديمة حين جاءها المقدوني الطامح الإسكندر الأكبر، وخلق منها عاصمة لمصر وللبحر المتوسط بأسره، الإسكندرية القديمة التي نُسجت حولها الأساطير لجمال عمرانها، وبهاء عمارتها، أرض ملوك البطالمة ومن بعدهم قياصرة الرومان.
وحين دخل القائد العربي عمرو بن العاص عام 21/641م المدينة، إيذاناً بتحول مصر إلى أرضٍ يحكمها العرب وتدين بالإسلام؛ صارت في غضون قرون تالية أرضاً للمجاهدين في سبيل الله، رباط مصر البحري وثغره، قدم إليها أولياء الله الصالحون من بلاد الأندلس والمغرب العربي، مضوا وبقيت أضرحتهم ومساجدهم تُخلد ذكراهم؛ أبو العباس المرسي، الشاطبي، والطرطوشي.
وما زالت عمائر الحي التركي في الإسكندرية شاهدةً على طائفة المغاربة حين استوطنوا المدينة، عندما كانت مصر تخضع لحُكم العثمانيين، وصار تراثهم المعماري أبرز الأبنية العربية في ظل قلة المساجد والمنشآت الدينية الباقية في الإسكندرية.
أما إذا استحضرنا طابع الإسكندرية الحديثة فسنتذكر محمد علي باشا الذي أعاد إلى المدينة روحها الاستثنائية، المقدوني الثاني، قدر المدينة أن تحيا على يد أبناء مقدونيا؛ الإسكندر أولاً ثم محمد علي.
وبفضل اهتمام حاكم مصر المحروسة وأسرته من بعده بشئون المدينة وتجميلها وتعميرها، وفد إليها الأجانب من كل حدب وصوب، وولدت المدينة العالمية من جديد خلال الفترة من 1860- 1960 .. كانت العاصمة الثانية المدللة؛ حياة أوروبية من الطراز الأول، وكالات وفنادق يديرها الأجانب، باريس صغيرة في أرض مصر.
اكتست المدينة في تلك الفترة بعمائر مشيدة بطرز مختلفة، منها ما هو على الطراز الأوروبي بنكهة فرنسية وإيطالية ويونانية، ومنها ما شُيد على الطراز الإسلامي الجديد الذي استلهم روح العمارة المصرية في العصور الوسطى. صنعت الأيدي المحبة للبناء تراثاً معمارياً فريداً في الإسكندرية من بنايات وقصور شاهدة على مصر المتعددة الثقافات، التي احتضنت مختلف الأطياف والأجناس .. واليوم اندثر جانب كبير من تلك الكنوز المعمارية التي توارثناها، ولم نحفظ عهد الوفاء بها في غضون السنوات السبع الماضية، في سلسلة اعتداءات ممنّهجة على مرأى ومسمع من الدولة وأجهزتها المعنية بشئون العمران والإسكان والتراث.
ابُتليت الإسكندرية منذ أحداث ثورة 25 يناير 2011 عن سائر محافظات مصر الأخرى بظاهرتين متلازمتين، كلاهما له أسوأ الأثر على معمار تلك المدينة وعمرانها. إذ يلاحظ المتأمل لحال المدينة تزامن الإكثار من تشييد المباني الشاهقة غير المرخصة، مع هدم وإزالة كل بناية لها صفة تاريخية وتراثية مميزة، على الرغم من وجود عدد وافر من تلك البنايات على قائمة المباني التراثية التي تخضع لقانون حماية التراث بحسب الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، والذي يُعنى بالتسجيل والإشراف على المباني التراثية؛ وهي المنشآت ذات الطراز المعماري المميز لقيمته التاريخية أو الفنية وفقاً لقانون رقم 144 لسنة 2006.
وبذلك يجتمع على تلك المدينة الغراء حركة الهدم المتواصلة للمباني التراثية، وتزايد إنشاء المباني المخالفة في كل حيز من أرض الإسكندرية بلا رقيب.. على تربة تتسم بعدم الثبات لتسرب المياه الجوفية أسفل أراضيها، فضلاً عن السراديب الأثرية التي تقبع أسفل أحياء الإسكندرية القديمة. وليس أبلغ من واقعة "العمارة المائلة" بحي الأزاريطة تجسيد لحال ما آل إليه المعمار بالإسكندرية من تردِ وفساد، ما أنذر بكارثة محققة أوشكت على الوقوع،تدعو إلى جدية وضرورة مراقبة حركة المعمار والإنشاء في الثغر بصورة حقيقية وفاعلة.
تعد الإسكندرية أكثر مدن مصر معاناة من أزمة هدم المباني التراثية، وفقاً للأستاذ الدكتور محمد عوض، أستاذ الهندسة المعمارية بجامعة الإسكندرية، ورئيس لجنة الحفاظ على التراث العمراني بالمدينة، إذ تم هدم ما يقرب من نيف وثلاثين مبنى تراثياً منذ ثورة 25 يناير وحتى أبريل الماضي، منها ما صدر في حقه أحكام قضائية بعدم التعرض والهدم، ومنها عدة مبانِ خرجت من قائمة المباني التراثية المسجلة في مصر قبل هدمها بحكم القانون المصري.
وقد طالت حركة الإزالة القصرية عدة منشآت ذات قيمة تاريخية، ومن أبرز تلك المباني فيللا أجيون جوستاف التي صممها المعماري الفرنسي أوجست بيريه، والتي تقع بوسط الإسكندرية، كما هُدم قصر داريل بمنطقة محرم بك وسط الإسكندرية، والذي بُني على الطراز الإيطالي، واشتراه الكاتب الإنجليزي لوارنسداريل صاحب العمل الأدبي الشهير "رباعية الإسكندرية".
ولم تسلم فيللا شيكوريل بمنطقة رشدي التي تؤول ملكيتها إلى اليهودي دافيد شيكوريل من الهدم، على الرغم من أنها مسجلة ضمن قائمة المباني التراثية.
أما فيللا سباهي أبرز معالم منطقة ستانلي فشيدت على طراز يُعرف بالطراز الإسلامي الجديد، وصاحبها رائد صناعة الغزل والنسيج في مصر سباهي باشا ذو الأصول السورية في خمسينيات القرن الماضي. ولمعمارها المميز أصبحت فيللا سباهي موطنًا لتصوير بعض الأفلام المصرية، وكان آخر ظهور لها في مسلسل أوبرا عايدة.
ولم تكن المنازل بمنأى عن الإزالة؛ مثل منزل لفنان الشعب سيد درويش بمنطقة كوم الدكة الذي هدمه مالكه، بدلاً من أن يتحول لمتحف يخلد المسيرة الفنية لفنان الإسكندرية البارز. كما جرى إزالة حديقة الخالدين التي تقع أمام مسجد القائد إبراهيم في شهر مايو الماضي بغرض تطويرها، وهُدمت كبائن شاطئ ستانلي المميزة .. بالتزامن مع إنشاء كوبري منطقة سيدي جابر، وهدم مسرح السلام بالكامل، وكأن الإسكندرية مستهدفة بتشويه وجهها التراثي والمعماري المميز.
وتجدر الإشارة أن المجتمع المدني لم يقف عاجزًا أمام الاعتداء الذي يتعرض له تراث الإسكندرية المعماري بصفة شبه منتظمة، وإن كانت جهات الدولة قد صمت آذانها وأعمت عيونها عما تشهده عمائر الإسكندرية الفريدة من خراب.
فتضم مبادرة "أنقذوا الإسكندرية" على سبيل المثال مجموعة من المهتمين بالتراث السكندري، تقدمت المبادرة بعدة شكاوى للجهات المعنية، في محاولة للتوصل لحلول بين مُلاك تلك العقارات وبين الدولة، كما تساهم بصفة فاعلة في تعريف المجتمع المدني بضرورة حماية التراث المعماري السكندري وصونه عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.
والحق أن تضافرت عوامل عدة ساهمت بصورة متزايدة في أزمة هدم للتراث المعماري السكندري، منها الفساد الإداري لمؤسسات منوطة بمراقبة حركة البناء والإعمار، وانتشار البناء العشوائي غير المرخص، والسياسيات الداعية للتصالح مع الأبنية المخالفة. بالإضافة إلى قوانين الإسكان الحالية التي تحفل بالعثرات القانونية، مع التقاعس عن تخطيط مناطق عمرانية جديدة تستوعب الزيادة السكانية الآخذة في النمو، واستبعاد عدد كبير من المباني من مجلدات التراث.
ولكيلا تكون الصورة قاتمة، بلا أية آمال في وقف نزيف التعدي المعماري في ثغر الإسكندرية؛ أوصى بعض المتخصصين والمهتمين بمقترحات من شأنها الحد من تلك الأعمال التخريبية، ومنها؛ مراجعة قوانين واشتراطات البناء الحالية لتحجيم حركة البناء غير المرخص الذي يحل محل المنشآت التراثية، واستصدار تشريعات رادعة تواجه معاول الهدم التي جردت المدينة من بهائها. كما يجب أن يتم التعريف بتلك المباني الخاضعة لقوانين المباني التراثية، عن طريق وضع لافتات إرشادية على تلك البنايات، تحتوي على جميع البيانات الخاصة بها، لتكون أداة توثيق لأي تخريب أو سرقة أو تعدي.
مع تبني سياسة تعويضات عادلة من قبل الدولة لمنع مُلاك تلك المنشآت من اللجوء إلى بيعها وهدمها، على أن تُستثمر تلك المنشآت في أعمالٍ تدر دخلاً ولا تضر بالمبنى في الوقت ذاته، كما يحدث في العديد من المنشآت الأثرية في مصر.
تستحق الإسكندرية، الثغر المحروس، والقطر المأنوس، العجيبة الشأن، الأصيلة البنيان، كما وصفها الرحّالة الشهير ابن بطوطة أن توليها الدولة عنايتها، بدلاً من غض الطرف عن التعديات الكارثية في حق عمارة وعمران تلك المدينة التي جمعت لوقتٍ قريب بين ضخامة وإحكام مبانيها، وحازت إعجاب كل من مروا بأرضها، وشاهدوا معالمها وعجائبها .. قبل أن تفقد المدينة رونقها إلى الأبد ..تئن المدينة منذ سنوات تحت وطأة الهدم والتشويه العمراني والعبث بتراثها المعماري، فهل من مُنصت أو مجيب؟.