رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


ابن الجيران

15-2-2023 | 19:47


وفاء أنور,

لم تكن مناسبة عيد الحب واردة في معجمنا ولم يكن لها رنين في أذاننا، وإن أتى ذكراها فهو يأتي غالبًا في شكل مبسط للغاية من خلال متابعتنا لبعض الصحف ووسائل الإعلام المسموعة أو المرئية، لم تمتلئ المتاجر بالدباديب والهدايا التي تتلون بالألوان الحمراء، وهذا كان رد فعل طبيعي لوجودنا في مجتمع  محاط بالحياء إلى حد كبير، فالإعلان عن كلمة الحب كان أشبه بالاعتراف الذي سيصل بصاحبه إلى عقوبة السجن المشدد، أو ربما الإعدام إن تم ضبطه متلبسًا بذلك، لم يكن مجتمعنا بهذا الشكل المنفتح وبهذه الجرأة المخيفة، كانت المشاعر الجميلة ذات قيمة عالية ، لها شأن عظيم وشرف غال، ما كان ينبغي أن ينطق بكلمة الحب إلا المغامر ذو القلب الذي لا يهاب الموت فهو يعلم أنه كمن يركب الأمواج العاتية لأول مرة في حياته دون سابق خبرة.

سأروي لكم قصة ابن الجيران الذي كان في المرحلة الثانوية وكنت حينها في الصف الثالث الإعدادي وفي فترة إجازة الصيف وجدت أنا وأمي رحمة الله عليها ذلك الشاب الأسمر النحيل يستأذننا في الصعود لسطح المنزل معللًا ذلك بأنه يمتلك "غية حمام"، وبأن إحداهما قد طارت ووقفت على سطح منزل العائلة الذي نسكن فيه، فهمت على الفور خطته التي سبقتها مرات عديدة لمحاولة لفت نظري إليه في الطرقات فقد كان يلاحقني للدرجة التي كنت أثق فيها بأنه ما دمت أنا في الطريق فإنه حتمًا يسير خلفي، ولو اتجهت لشراء بعض الأدوات المدرسية من أي مكتبة كنت سأجده على مقربة مني.

أعود لسطح المنزل وحكاية الحمامة التي حكى عنها ابن الجيران وعن نظرات أمي التي ترجمت بذكائها هذه المحاولة وتلك القصة التي كتبها هو وأعد السيناريو لها من أجلي.

وقالت أمي: "اطلع وشوف أنت يا ابني احنا ما شوفناش حاجة"، فنظر إلى وكأنه يدعوني للصعود معه درج السلم حتى يتمكن من محادثتي بعد أن قدم دليل شجاعته الذي ترجمه بالاقتراب من منزل عائلتي بل والدخول إليه واقتحامه لأجلي، ولكني أتقنت فن اللامبالاة جيدًا ولم أعره أي اهتمام، وإن كنت أضحك في داخلي على فشل محاولته التي سقطت قلاعها وتحطت على صخر سرعة بديهة أمي، وبالفعل صعد للبحث عما ذكره أمامنا، ثم نزل مسرعًا في محاولة منه لإطالة الحديث معنا فقال: "أنا مستغرب بس هي راحت فين عقبال ما طلعت مالقيتهاش أنا أسف أزعجتكم معايا"، فتركت الرد هاهنا لأمي التي قالت له: " إن شاء الله تلقاها في مكانها فوق سطوح بيتكم أكيد هاترجع لمكانها اللي اتعودت عليه".

وتمر الأيام وأكتشف أثناء حديثي مع زميلة لي تسكن بجوار منزله بأن تلك الحكاية المفبركة كانت من نسج خياله ، فهو لا يمتلك غية حمام من الأصل وإنما هي وسيلة اتصال بدائية اهتدى إليها بسبب رغبته الدائمة في محاولة جذب انتباهي.

لم أكن أتخيل حينها أن المجتمع كان سيتغير ليصل إلى هذا الحد، ففي الماضي كان من يحلم بفتاة أحلام ويود التواصل معها كان لابد أن يختزن بداخله صبرًا عظيمًا يظل يغترف منه لأشهر أو سنوات دون مبالغة مني، فكلمة الحب وعلاقات الارتباط كان لها ثمنًا باهظًا لا يفكر فيه إلا الجسور.

أما الآن فالكلمة المتداولة باسم الحب أصبحت باهتة بعد أن فارقها حياء فتاة وتردد فتىً، قد تكون العادات والتقاليد التي أحكمت قبضتها علينا والتي سئمناها في الماضي هي التي كانت تمنح المشاعر والأشياء المعاني الحقيقية لها، وها نحن نترحم عليها الآن بل وأصبحنا نتمنى عودتها مرة أخرى، لتمنح لكل شيء من حولنا قيمته الغالية التي يستحقها.