وما من مرَّة يتصدى فيها السياسيون للحديث عن الوطن.. إلا وتتقافز من أفواههم هذه الكلماتُ ذاتُ الرنين الأخَّاذ، والتي يتردَّدُ صداها في جنبات فعاليَّاتهم، وسط تصفيق أنصارهم، وكلما اشتد صياحهم زادت الأكفُّ الملتهبةُ من طرقات تصفيقها... وكأنهم يسعون لدخول موسوعة الأرقام القياسية..!، وقد يزيِّنون أحاديثهم بأبياتٍ شعرية لهذا الشاعر أو ذاك، آملين أن تُلهب هذه الأبياتُ المشاعرَ الوطنيةَ؛ حيث يختارونها من النوع المباشر والزاعق، وكأن الوطنية لا تثبت دلائلُها، ولا تبين معالمُها إلا إذا أظهرت الحناجرُ والأكفُّ مهاراتِها الصوتيةَ..! فتجد أحدهم مثلاً يترنم مُعجَباً ببيت الشاعر "ابن الرومي" الذي يبدأ مطلعه: (ولي وطنٌ آليتُ ألَّا أبيعَه ## وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا) لقد أغرى التركيب (لي وطنٌ) وما تلاه من قَسَمٍ من الشاعر بعدم التفريط في الوطن أو يرى غيرَه متحكِّماً فيه، أقول لقد أغرى ذلك كلَّ المترنِّمين به، فلم يفطنوا إلى أن مقصود الشاعر من لفظة (وطن) لا يتجاوز لفظة (بيت)..! والشاعر هنا يشكو إلى الوالي جيرانه الراغبين في إجباره على ترك منزله من خلال الإساءات المتكررة.. يؤيد ذلك ما توالى بعد المطلع من أبياتٍ ! لكنها الرغبة العارمة في الاستحواذ على مشاعر الجماهير وتصفيقها الحاد!
وإذا كان هناك شعراء كبارٌ قد عبَّروا عن مشاعرهم الوطنية بصورةٍ مباشرة؛ فذلك لا يجعلهم محلَّ اتهامٍ، أو موضع شكٍّ في صدْق أشعارهم.. فهذا أميرُ الشعراء "أحمد شوقي" يخاطب وطنه بعد طول اغترابٍ في منفاه: (ويا وَطَني لَقَيتُكَ بَعدَ يَأسٍ كَأَنّي قَد لَقيتُ بِكَ الشَبابا)، بساطة التصريح بحب الوطن والفرح الطاغي بلقياه كمن استعاد شبابه المفقود، ولطالما كان الوطنُ الجوهرةَ في قلب أمير الشعراء "أحمد شوقي"؛ ولطالما قدَّس الوطن تقديساً، ولطالما عبَّر عن عاطفته الوطنية كعقيدةٍ دينيةٍ، لا تقبل المساومة أو التغيير.. وتأمّلْ معي هذا البيت الرائع بما حوى من مبالغةٍ مُسْتحبَّةٍ في معرض الحديث عن حب الوطن إذْ يقول: (أُديرُ إِلَيكَ قَبلَ البَيتِ وَجهي ## إِذا فُهتُ الشَهادَةَ وَالمَتابا ) ..!
لكن مثلما تطورت الفنون.. تطوُّر فنُّ الشعر، وأصبح للشعراء طرائقُهم الجديدةُ التي منحتهم مساحاتٍ رحبةً ما بين التصريح والتلميح، ويعتبر محمود درويش أحد أبرز من ساهم بتطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية فيه. ففي شعر درويش يمتزج حب الوطن بالحبيبة الأنثى ببراعة آسرة، ولدينا اليوم إحدى روائعه بعنوان "لوصْف زهر اللوز" يقول مطلعها:
ولوصْفِ زهر اللوز .. لا موسوعةُ الأزهار تسعفني .. ولا القاموسُ يسعفني .. سيخطفني الكلام إلى أَحابيل البلاغةِ .. والبلاغَةُ تجرح المعنى وتمدح جُرْحَهُ !
هذا المطلعُ الساحر فيه يعترف درويش بقصور أدواته إذا ما أراد وصْفَ جمال زهر اللوز ، والمتلقي يتجاوب واعتراف الشاعر.. وما الذي يملكه المتلقي إزاء اعترافٍ كهذا والشاعر يسوق أدلَّتَه على قصور أدواته : فكيف يشعُّ زهر اللوز في لغتي أَنا .. وأنا الصدى؟! .. هكذا يأخذنا الشاعر إلى مساحات رحيبة من الجمال البصري في الألوان والجمال السمعي في ذلك الترنُّم الدرويشي ، دونما تصريح باستمتاع حاسة الشم .. كل الحواس قد امتلأت صحافها بما تشتهي ، وقد مدَّت القصيدة مائدتَها العامرة بما يأخذ بأرواحنا ، إلى أن يفاجئنا محمود درويش في ختام القصيدة بالمعادل الموضوعي لزهر اللوز:
لو نجح المؤلِّفُ في كتابة مقطعٍ في وصف زهر اللوز .. لانحسر الضبابُ عن التلال .. وقال شَعْبٌ كاملٌ : هذا هُوَ .. هذا كلامُ نشيدنا الوطنّي ....!! ختامٌ لا يتوقعه أحدٌ ... إنها المفاجأةُ السحْرُ ! وللشاعر الجنوب أفريقي "دينيس بروتوس" قصيدةٌ رائعةٌ تقترب من ذلك الإطار، الذي يمزج مابين حب الوطن وحب الأنثى ، ولولا عنوانها المباشر ( الأرض الحبيبة ) لحقَّق الشاعر " دينيس روسوس " الإدهاش والمفاجأة:
تبدأ القصيدة بوصف سماء الليل الممتزجة بنور القمر أشبه بحليبٍ يذكِّر بالبراءة في اللون والمذاق ليبدأ بعدها الشاعر في خطاب حبيبته التي يتجاوز نور بسْمَتها التلال، مشتهياً العناق والتقبيل والانحناء طلباً للراحة على سهول صدرها، معترفاً بما تمنحه منابع حبيبته الخفيةُ من فرَحٍ؛ ليأتي ختام القصيدة مفاجئاً مدهشاً إذْ يقول (أقبِّلك يا أرضي الحبيبة.. أقبِّلك!)؛ فنحن أمام قصيدةٍ عاطفيةٍ يصف فيها "دينيس بروتوس" لقاءً بحبيبته لولا ختام النص الذي يخرج به من الذاتية الضيِّقة، ولولا عنوان النص المباشر لتحقق لختام هذي القصيدة عنصرُ الإدهاش كاملاً .. فهيا مع الشاعر "دينيس بروتوس" وقصيدته الرائعة: (أرضي الحبيبة!)
سماء الليل غارقةٌ في حليبٍ بلون القمر .. عانقيني ياحبيبتي !
ابتسامتكِ النوَّارةِ وثبتْ من التلال العالية .. على سهل صدرك المرتعشْ إنني أنحني فوقك بحنانٍ وعذوبةٍ .. منابعُك الخفيَّةُ تمنحني الفرح !
في العتمة المليئة بالأسرار أقبِّلكِ .. يا أرضي الحبيبة أقبِّلُك !