رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


نجيب محفوظ.. لوعة الفراق والغياب أصبح عمرها ١١ عاماً هكذا كتبت الثلاثية

30-8-2017 | 17:29


بقلم – يوسف القعيد

اليوم يمر ١١ عاماً على رحيل شيخ الروائين أديب نوبل ، رحل نجيب محفوظ بالجسد لكن بقى الأدب والأسم وبقيت لوعة الفراق التي يعيشها محبى وعشاق أديبنا الكبير

من يصدق، ومن يتصور أننا فى هذه الأيام – ٣٠/٨ – نكمل أحد عشر عاماً على رحيل نجيب محفوظ عن عالمنا؟ هذا اليوم المحفور فى الوجدان لحظة بلحظة، كأنه جرى بالأمس فقط. لكنه الزمان الذى يتحرك مثل نهر النيل المسافر فى المكان والزمان دائماً أبداً. أحد عشر عاماً عنوانها: لوعة الفراق ولوعة الغياب. لكنها طبيعة الحياة التى لابد أن نقبل بها.

أتذكر الآن بعض ما قاله لى، سواء فى دردشات شخصية فى لقاءات متواصلة ومستمرة أو حوارات صحفية. إنه أطلال كلام – ولا أقول بقاياه - سمعته منه فى حياته، ربما بدت بعض العبارات كأجزاء من حوارات مقتطعة. وبعضها يصلح مانشيتات. لكنها كلها نتيجة لما جرى بيننا من أحاديث وحوارات لا يجمع بينها سوى أن قائلها نجيب محفوظ. وأن ناقلها هو أنا.

 

- انعكست حياتى فى الطفولة فى الثلاثية، وفى “حكايات حارتنا” شكل أكبر، كانت طفولة طبيعية، لم أعرف الطلاق، أو تعدد الزوجات، أو التيتم.

- كان الخيط الثقافى فى الأسرة هو الدين، فى ١٩٣٧ توفى والدى عن خمسة وستين عاماً، كنت أعيش مع والدتى فى العباسية، التى انتقلنا إليها منذ عام ١٩٢٤ لكن المكان الذى بقيت مشدوداً إليه، أتطلع إليه دائماً منطقة “الجمالية”. فارقت منطقة الجمالية إلى العباسية وعمرى اثنا عشر عاماً. وكان لانتقالنا إلى العباسية تأثير كبير على حياتى.

- أغلب رواياتى كانت تدور فى عقلى كخواطر حية أثناء جلوسى فى هذه المنطقة، أثناء تدخينى “النرجيلة”، يُخيل لى أنه لا بد من الارتباط بمكان معين، أو شئ معين، يكون نقطة انطلاق للمشاعر والأحاسيس، خذ مثلاً كتابنا الذين عاشوا فى الريف، مثل محمد عبد الحليم عبدالله، أو عبد الرحمن الشرقاوى، ستجد أن الريف هو حجر الزاوية فى أعمالهم ومنبع أعمالهم، نعم. لا بد للأديب من شئ ما، يشع ويلهم.

أول حــب

- عدت إلى الجمالية كموظف، عندما عملت فى مكتبة الغورى، وأشرفت على مشروع القرض الحسن، فى أواخر الأربعينيات وأواخر الخمسينيات، كنت أعمل فى مكتب وزير الأوقاف، وحدث أن تغيرت الوزارة، طلبوا منى أن أختار مكاناً مختلفاً لأعمل فيه.

- عندما تكتب عملاً روائياً طويلاً، فإنك تحرص على اختيار البيئة التى تحبها، التى ترتاح إليها، حتى تصبح “القعدة حلوة”، أما الخلاء الذى يظهر فى عالم الحارة، فاستوحيته من العباسية، أثناء سكنى فى العباسية كثيراً ما كنت أخرج إلى حدود الصحراء.

- فى العباسية عانيت أول حب حقيقى، كنت أحس بالجمال فى الجمالية بقدر الأحاسيس التى تراود صبياً فى الثامنة أو العاشرة. لكن العباسية عرفت أول حب لى، كانت تجربة مجردة من العلاقات، نظراً لفوارق السن، والطبقة، من هنا لم تعرف هذه العلاقة أى شكل من التواصل، وربما لو حدث ذلك لتجردت العاطفة من كثير مما أضفيته عليها، وسوف تبدو آثار هذه العلاقة فى تجربة كمال عبد الجواد فى الثلاثية وحبه لعايدة شداد.

- لا أحب إلا الجلسة التى أصبح فيها مع أصدقائى وكأننى بمفردى.

أول رواية

- بدأت التأليف وأنا طالب فى المرحلة الابتدائية. ولكنه تأليف من نوع غريب، كنت أقرأ الرواية وأعيد كتابتها مرة أخرى، بنفس الشخصيات مع تعديلات بسيطة، ثم أكتب على غلاف الكشكول، تأليف: نجيب محفوظ، وأختار اسما لناشر وهمى.

- عشت أقرأ للعقاد ولم أره، طه حسين لم ألتق به أبداً إلا عندما دعانا المرحوم يوسف السباعى لمقابلته فى نادى القصة.

- الذى اختار مجموعة “همس الجنون” المرحوم عبد الحميد جودة السحار، لم أكن أريد نشرها.

- “عودة الروح” أعجبتنى كعمل أدبى، ولكننى أجد أنها أقرب إلى المسرح منها إلى الرواية.

- الدكتور طه حسين يكتب رواية، لكن من طه حسين؟ إنه المفكر. العقاد يكتب سارة، لكن من هو العقاد؟ إنه المفكر، بل إن العقاد كان يحتقر القصة والرواية. إذا كان هؤلاء يحتقرون الرواية، فكيف ستلتفت إليها من خلالهم.

- من روافد قراءتى الهامة، التراث العربى، عرفته فى سن مبكرة، عندما درست فى المرحلة الثانوية بعض عيون التراث العربى، مثل الكامل للمبرد، والأمالى لأبى على القالى، وكان ذلك بفضل مدرسى اللغة العربية المعممين، وظهر أثر ذلك فى موضوعات الإنشاء.

- انتهيت من الثلاثية فى أبريل ١٩٥٢.

- كان مرتبى الذى تقاضيته عندما التحقت بوزارة الأوقاف فى الثلاثينيات، كان صافى ما أقبضه ثمانية جنيهات، وكانت سنوات الأزمة الاقتصادية التى أفلس فيها التجار، ولم ينج من ضنكها إلا أصحاب الدخول الثابتة. أقصد الموظفين. لم أفكر فى الأدب كمصدر دائم للرزق، إن ذلك مستحيل عملياً، لكن هناك فترة كان من الممكن أن أكتفى فيها بدخلى من الأدب، وهى السنوات القليلة التى توالت فيها الطبعات وانتهى ذلك فى سنة ١٩٦٥، عندما بدأ تزوير الكتب فى الخارج.

حكايات الثلاثية

- جاءتنى فكرة الثلاثية على دفعات، أستطيع تحديد اللحظات الأولى، كنت أقرأ فى كتاب عن أجرومية الرواية، قرأت العديد من الكتب عن فن الرواية، أول ما تعرض له هذا الكتاب.

- وفى هذه الأثناء أصدر طه حسين رواية “شجرة البؤس”، وجدتها قريبة من رواية الأجيال، ولكنها قصيرة إلى حد ما، فى هذه الفترة أخطأت خطأ كبيراً، لم أكرره فى حياتى، فى هذه الفترة تحدثت عن هذا النوع من الروايات، وأفضت فى شرح أفكارى، ونيتى فى كتابتها يوماً ما، أحد الأدباء الذين استمعوا إلىَّ ذهب وشرع فى كتابه رواية أجيال، وأصدرها بعد ستة شهور، منذ هذه التجربة تعلمت ألا أحكى أى شئ، أى تفاصيل عن مشروعاتى، بالطبع لك أن تتخيل قيمة الرواية من الناحية الفنية إذا كانت قد كتبت وصدرت فى ستة شهور فقط.

- أعود إلى طه حسين، كانت” شجرة البؤس” رواية أجيال ولكنها صغيرة، سيطرت الفكرة علىّ تماماً، وهنا بدأت أقرأ الروايات الكبرى التى تعرض للأجيال، قرأت “ملحمة أسرة فور سايت” لجولز ورثى، و”الحرب والسلام” لتولستوى، و”آل بودنبروك” لتوماس مان، فى لحظة معينة شعرت أننى وصلت إلى نقطة معينة امتلكت فيها زمام الموضوع، لم أعد قراءة أعمال معينة قبل أن أكتب إحدى رواياتى ولكن هذه القراءات كانت جزءاً من ثقافتى واطلاعى، إن أعمالى تنتمى إلى المدرسة الواقعية، وهناك روايات لا حصر لها تمت إلى هذه المدرسة، لكن العمل الأدبى الوحيد الذى كتبته ولم أقرأ له شبيهاً، ولم أستطع تصنيفه فى مدرسة معينة، هو “حكايات حارتنا”.

- الثلاثية العمل الوحيد الذى يحتوى جزءاً كبيراً من عقلى وقلبى، بعض الناس يقولون لى، أليس فى شخصية أحمد عاكف شئ منك؟، وهذا غير صحيح، أحمد عاكف شخصية حقيقية، كان موظفاً فى الجامعة، بالتحديد فى إدارة الجامعة، قرأ الرواية بعد صدورها ولم يعرف نفسه، لم يعرف أبداً أننى استوحيت بطل الرواية منه هو، وهذا يدلك على شئ غريب أيضاً، كان أحمد أفندى عاكف الذى عرفته مجرد موظف صغير بإدارة الجامعة، كان يظن أنه يعرف كل شئ فى مصر، كان لديه البكالوريا فقط ويظن أنه جمع علوم الدنيا كلها.

- كتبت الثلاثية وأنا فى عنفوانى، صبور، جلد، عمل كهذا كان يحتاج إلى صبر وصحة، لو أنك رأيت أرشيف الثلاثية ستدرك مدى ما أقول، ما خططته من أجل كل شخصية، كل شخصية كان لها ملف، حتى لا أنسى الملامح والصفات، خاصة وأننى أعمل فى كل سنة من أكتوبر إلى أبريل فقط بسبب مرض الحساسية الذى يصيب عينى، كذلك التخطيط للرواية بحيث تمضى فى بناء متماسك، قسم كبير من الأوراق، والكراسات.

- كتبتها فى أربع سنوات، بدقة، بهدوء، بتأن، تحدونى الرغبة إلى أن أنهى شيئاً جيداً، ولم يكن صراعى مع اللغة قد بدأ بعد والذى واكب الأشكال الحديثة، كنت أكتبها بأسلوب هادئ، أكبر صراع خضته فى حياتى مع اللغة العربية، منذ أول كتاب، فى عبث الأقدار تجد أسلوباً قرآنياً. كما تعلمنا. إن الأسلوب لا علاقة له بالموضوع، وعندما جئت إلى الأدب الواقعى، كان الأمر صعباً، كان الأسلوب «لا يمشى فى يدى»، لا يطاوعنى، دخلت فى صراع بلا شعور، بينى وبين اللغة، ربما لو كنت أدرى أننى فى صراع كنت فقدت الاتجاه.

مشاكلى مع اللغة

- لكن الخناقة دارت فى اللاشعور، كيف أذلل اللغة؟ كيف أطوعها؟ كيف يكون الحوار مقبولاً مع أنه فصيح، ولذلك إذا استعرضت بعض القصص الأولى ستجد أشياء مضحكة، على سبيل المثال ربما تجد شخصية فى مقهى بلدى وتتحدث بأسوب فصيح متقعر، لم يكن هناك مثال أحتذيه. كل العباقرة الذين سبقونا لم يكتبوا عن أحياء شعبية، وإذا كتب، فإنه يكتب الحوار بالعامية، ليست هناك مشكلة وإنما أن تطور اللغة كى تصبح فنية وواقعية، فتلك مشكلة، وهذا أصعب ما وجدته، أو صادفته فى حياتى الروائية، لم يكن هناك نموذج يحتذى.

أم كلثوم

- أم كلثوم لم أسمعها فى البداية هناك، سمعناها فى إسطوانات سنة ١٩٢٦، تصور أننى تشاجرت مرة مع واحد لأنه قال إن أم كلثوم أحسن من منيرة المهدية، كنت من عشاق منيرة المهدية.

- كتب نجيب محفوظ فى جريدة الأيام فى ٢١ ديسمبر ١٩٤٣ مقالاً عن أم كلثوم قال فيه:

- “وما من جمود مثل أن تقارن أى صوت من الأصوات المصرية بهذا الصوت المتعالى فقل فى غناء أسمهان وليلى مراد ونور الهدى ما تشاء إلا أن تقارنه بصوت أم كلثوم فتضره من حيث أردت أن تنفعه وتهينه من حيث أردت أن تكرمه وتمرغه فى التراب وقد أردت أن تسمو به للسماء.