بقلم – أحمد النجمى
«من غشاء الصمت الثقيل انطلق صوت يقول: خدامك يا معلم! تحولت الأبصار بذهول نحو «شطا الحجرى»، فتى جاوز العشرين بعام أو عامين، أحدث من انضم إلى العصابة، لم يشترك بعد فى معركة»..
هذه عبارة مجتزأة من سياق طويل يحمل عنوان قصة قصيرة لشيخ الرواية العربية «نجيب محفوظ» تحمل اسم (الرجل الثانى) وهى ذاتها التى تحولت إلى فيلم شهير تحت عنوان «الشيطان يعظ» قام ببطولته الراحلون نور الشريف وفريد شوقى وعادل أدهم وتوفيق الدقن قبل نحو ٣٧ عاما.
عبارة فى قصة قصيرة لمحفوظ تحمل مصيراً بالغ التعقيد لقيه هذا الشاب - شطا الحجرى - وما أصعب المصائر الخاصة والعامة فى أدب نجيب محفوظ! تطرح المصائر الخاصة (الفردية) ظلالها فى صورة أسئلة عن المصائر العامة (الجماعية) فى الأدب المحفوظى كله على تتابع مراحله الفنية والفكرية، التى لم ينشغل فيها كاتبنا الكبير بمصير أبطال رواياته وقصصه أو شخوصها قدر انشغاله بقضايا أكبر تعلق معظمها بالوطن.. وتعلق بعضها بالوجود كله..!
مثلاً.. «شطا الحجرى» هذا كان يبادر إلى تلبية دعوة المعلم - الفتوة الأعظم - «الديناري» فى هذا النص - الرجل الثانى - وإن كان الدينارى يملك عصبة من الرجال يحركهم بإشارة من إصبعه، فإنه تقبل أن يتولى «شطا» الذى كان أصغر هؤلاء الرجال وأضعفهم شأناً وأحدثهم انضماماً إلى خدمة الفتوة الكبير، وكانت المهمة هى مراقبة خطيبة المعلم أخلاقياً قبل أن يتزوجها المعلم، فإذا بشطا يتعلق بالفتاة ويتزوجها ويهرب بها إلى حارة أخرى، على رأسها فتوة وضيع الأخلاق خارج على الفتوة الأكبر «الدينارى» اسمه «الشبلى».. يغتصب الشبلى زوجة شطا - خطيبة الدينارى السابقة - فيضطر شطا إلى العودة إلى الدينارى مع زوجته هذه، ثم تدور معركة يقتل فيها شطا غريمه الشبلى ويقتل هو أيضاً..!
هلك الجميع إذن.. الشبلى - ممثل الطغيان والجبروت والوضاعة - وشطا الحجرى الشاب الطموح الذى ليته ما قبل تكليف المعلم الدينارى من البداية.. فمن هو الدينارى؟ وما هذا المصير الذى ألقى بشطا فيه؟.. هل الدينارى - مثلاً - هو الزعيم أو الدولة المهيبة التى ضاع شبابها فى تحقيق حلمها على مدار عشرات السنين؟ أم أن (شطا) هو الإنسان المعاصر فى صراعه المستمر مع قوى الشر التى تهلك أحياناً ليتبقى المجد للقوى الأكبر التى تتحكم فى مصير الإنسان (الدينارى)؟.
ربما تنقلك إلى أسئلة من نفس هذا الطراز - الكونى - فى أدب نجيب محفوظ عشرات النصوص الروائية والقصصية المحفوظية!
هناك تساؤل مشابه فى قصة قصيرة لمحفوظ تحمل عنوان «النوم»، إنها إحدى قصص مجموعة خطيرة الشأن لنجيب محفوظ تحمل عنوان «تحت المظلة»، كتب نجيب محفوظ نصوصها - التى من بينها ٥ مسرحيات قصيرة لا تزال جديرة بالتأمل الشامل - بين أكتوبر وديسمبر ١٩٦٧وهذه القصة تطرح قضية قريبة من القضية التى تطرحها «الرجل الثانى».. برغم الفارق الزمنى بينهما.. فنجيب محفوظ كتب (النوم) وقصص «تحت المظلة» كلها أواخر ١٩٦٧، أما مجموعة «الشيطان يعظ» التى ضمت قصة (الرجل الثاني) فقد طرحت فى العام ١٩٧٩، بينهما - إذن - أكثر من ١٠ سنوات.. الفكرة فى (النوم) أكثر وضوحاً، إنها لمدرس يقع تحت تأثير النوم لدرجة يستعصى معها أن ينقذ (المولّدة) - القابلة الشابة التى تعرفها «حلوان» كلها - وهى تقتل على بعد مترين أو ثلاثة منه، وهو شارد فى الملكوت، تحت تأثير سهرات فكرية تطول وتمتد فى بيته حتى الفجر.. (اشتد عليه ثقل رأسه عقب ليلة لم ينم فيها أكثر من ساعتين.. فبعد انفضاض حلبة التحضير قال زميله مدرس التاريخ: يطيب الآن الحديث فى المصير)!.. إنه وأصدقاءه يحضرون الأرواح فى شقته.. وينسى أنه لم يتزوج بعد، برغم أنه يحب (القابلة) أو الآنسة المولدة! لا أعتقد أن شيخنا نجيب محفوظ كان يقصد هنا تحضير الأرواح، ولا يقصد أن المدرس نائم بالفعل فى حديقة السكة الحديد فى صباح اليوم التالى، ولا يقصد المولدة ولا القتل.. القصة هى من شذرات تأمله لنكسة ١٩٦٧، وما الآنسة إلا رمز لمصر، وما المدرس إلا المثقف الوطنى الذى غفل عن حلمه فى التقدم والحرية حتى حدثت النكسة، كأنه كان نائماً، وما جلسات التحضير سوى جلسات المثقفين فى «ريش» ومقاهى وسط البلد.. إذا وضعنا أنفسنا فى مقام نجيب محفوظ الذى حدث عمنا الناقد العظيم الراحل «رجاء النقاش» فقال فى فصل من فصول كتاب النقاش الشهير «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته» إن النكسة زلزلته وأحزنته كما لم يزلزله ولم يحزنه شىء من قبل..! أضف إلى ذلك أن محفوظ ذو نزعة «وفدية» عميقة فى نفسه، ولم يكن متعاطفاً - مائة بالمائة - مع التجربة الناصرية فى الستينيات!
وإذا كانت قصة «الرجل الثانى» المعروفة سينمائياً بفيلم «الشيطان يعظ» قد طرحت سؤال المصير الإنسانى ككل، والقوى التى تبقى والقوى التى ترحل، فإن «النوم» تطرح قضية أو تساؤلاً مفاده: هل كان من الممكن تفادى النكسة لو كان للمثقف دور فاعل فى توجيه دفة الأمور.. وتطرح نصوص محفوظية أخرى المزيد من الأسئلة!.
«ثرثرة فوق النيل» تطرح نفس السؤال السابق.. وتوشك هذه الرواية - صعبة المراس لمن يقرأها للمرة الأولى - أن تطرح تساؤلاً عن مصير الدولة المصرية قبل حدوث النكسة (طرحت فى عام ١٩٦٦).. فـ»النخبة» مشكّلة فى عناصر جلسة الحشيش التى لا تنقطع عن العوامة التى تدور فيها الأحداث.. الحشيش رمز هنا لغياب هذه النخبة، وما العوامة إلا الوطن نفسه.. والمصير بعد هذا مفهوم!.
«ميرامار» - الصادرة ١٩٦٧ - تطرح القضية ذاتها بصورة أكثر وضوحاً.. وقد تحولت كل من «ثرثرة فوق النيل» و»ميرامار» إلى فيلمين من أهم أفلام السينما المصرية.. «سرحان البحيرى» العضو الناشط فى «الاتحاد الاشتراكى» وأحد سكان بنسيون «ميرامار» السكندرى الأنيق يغدر بحبيبته «زُهرة» خادمة البنسيون بعد أن جعلها تحلق معه فى سماء الحلم وتحصل على دروس خصوصية لكى تليق به.. ثم يموت بأزمة قلبية بعد أن تنكشف مؤامرته لسرقة مخازن الشركة التى يعمل بها! يسقط الحلم فجأة، ينهار كل شىء فجأة، وتبدأ «زُهرة» من جديد..! المثقف فى (النوم) خان القضية الوطنية بغفلته - حسب وجهة النظر المحفوظية - والمثقف فى (ميرامار) كان انتهازياً وشكلانياً ومتداعياً من الداخل وضيع القضية ووصمها!.
وتصل درجة انشغال نجيب محفوظ بفكرة «المصير» وتحديداً فى الشق الإنسانى العام منها إلى الذروة فى روايته شديدة التعقيد فى بنائها «حديث الصباح والمساء» الصادرة سنة ١٩٨٧، فى هذا العمل الذى نسميه رواية - مجازاً - إذ أنه يصعب تصنيفه من الناحية الشكلية (القالب)، يتتابع الموت والحياة بصورة متوالية، والأبطال جميعهم من نسل أسرة واحدة يتصل بينها الدم والنسب فى نحو مائتى سنة هى الفترة الزمنية للعمل، صحيح أنه رصد للتطور الاجتماعى لمصر فى هذه الحقبة الطويلة، لكننى أحسب أن هذا لم يكن ما يعنى نجيب محفوظ فى المقام الأول، وأن ما كان يعنيه حقاً هو فكرة الحياة والموت، الكلمتين الوحيدتين اللتين تشكلان الحقيقة الصلبة والقانون الحاكم لحياة الإنسان.. ولنتأمل مصائر الشخصيات فى هذا العمل الفذ، ويكفيك - أيها القارئ الكريم - لكى تصل إلى صلب فكرة نجيب محفوظ فى هذا العمل «الفلسفى» المحكم أن تطل على الهيكل الذى أسس عليه محفوظ العمل: الشخصيات مرتبة ترتيباً أبجدياً وكل منها يأخذ فقرة أو اثنتين أو ثلاثاً.. إنه (سجل المصير الإنسانى) المحتوم.. كان محفوظ هنا قد وصل إلى مرحلته الصوفية فى كتابة الرواية، التى لاحت تباشيرها فى (الشيطان يعظ) من قبل!.
وفى «أصداء السيرة الذاتية» - ١٩٩٥ - يصل محفوظ إلى ذروة مرحلته الصوفية التى أشرنا إليها.. يخرج أيضاً عن كل التصنيفات الكلاسيكية للفن، إذ أنه ليس برواية ولا قصص قصيرة، ولغته تتراوح بين لغة السرد ولغة الشعر، وبين جنبات العمل البديع صور متنوعة من حياة نجيب محفوظ: التلميذ فى المدرسة، الباحث عن الوظيفة، الموظف، صاحب المعاش.. أيضاً المراهق، الشاب، العاشق، الصديق، المحب للجمال، المولع بالغناء، الحكيم والطائش، المفكر والمتخبط، وتعجب وأنت ترى - تقرأ - هذه الصور هل هى لنجيب محفوظ أم للإنسان بصفة عامة؟ وتعجب وأنت ترى التآلف البديع بين الحس الصوفى وبين مباهج ومسرات الحياة؟ فى إحدى الشذرات الخطيرة فى (أصداء السيرة الذاتية) يصل نجيب محفوظ إلى خلاصة (المسألة) التى سيطرت على ذهنه فى العقدين الأخيرين من حياته.. يصل إلى أخطر أسئلة المصير: لماذا جئنا إلى الحياة من الأساس؟.. فى هذه اللمحة الفنية الخطيرة من بين عشرات اللمحات فى هذا العمل الفذ يحدثنا نجيب محفوظ كيف أن أمه أعطته مليماً ليشترى شيئاً ما وهو طفل، فانتابته الحيرة فى الطريق، نسى ما كان من المفترض أن يشتريه، بل إنه تاه فى الطريق ذاته، لم يعد متأكداً إلا من أنه خرج لشراء شىء ما بتكليف من أمه وأن قيمة هذا الشىء مليم (.. أعطتنى الحياة عمراً وإرادة، وكلفتنى بمهمة ما وقد نسيت المهمة وقد عبرت سنوات العمر حائراً فى متاهة، وكل ما أنا متأكد منه أن المهمة التى كلفت بها أياً كانت ليست سوى مهمة تافهة).. فكرة صوفية خالصة: ازدراء هذه الحياة والتقليل من شأنها، أى حياة هذه التى ينسى فيها الإنسان مهمته الأساسية حتى تضيع وتنتهى كأن لم تكن؟!
هذا السؤال ذاته طرحه محفوظ قبل (أصداءالسيرة الذاتية) فى قصة بديعة حملت عنوان (الحاوى خطف الطبق) فى مجموعة (تحت المظلة).. الطفل الذى تعطيه أمه مليماً ليشترى الفول فى الصباح فيضيع منه الطبق تحت تأثير فرجته على الحاوى ويضيع منه المليم ويتلهى بحب برىء لمدة دقائق مع طفلة مثله، ثم يرى - عن غير قصد - لقاء الجسد بين شحاذ وغجرية فى ركن منزو من الحارة، ثم يضل الطريق إلى البيت فى آخر النهار، لكن الطفل يستجمع قواه للعودة إلى البيت وإن كان لا يعرف الطريق، أما فى (أصداء السيرة الذاتية) فقد انتهت رحلة البحث إلى لا شىء..! وبين (تحت المظلة) و(أصداء السيرة الذاتية) ما يقرب من ٣٠ سنة، تراكم فيها فى خيال نجيب محفوظ وتجاربه الذاتية والعامة الكثير من رصيد الحياة!.
وتبدو أسئلة المصير فى أدب محفوظ أكثر صعوبة فى تفكيك ألغازها فى المرحلة التى تبدأ فى الستينيات ثم فيما بعد ذلك حتى رحيله قبل ١١ عاماً (٢٠٠٦)، قبل الستينيات كانت الأسئلة المصيرية أوضح.. كسؤال بدأ به مشروعه الفنى وهو مصير «المكون المصرى القديم» - أو الفرعونى كما يسمى - فى الشخصية المصرية، يبدو أن محفوظ كان مفتوناً بفكرة استعادة «المكون المصرى القديم» فى الشخصية المصرية كعادة (الوفديين القدامى) ثم منشغلاً بمصير الطبقة المتوسطة المصرية فى (خان الخليلى) و(بداية ونهاية) والثلاثية المعروفة..!
هكذا بقيت الأسئلة الكبرى فى أدب نجيب محفوظ بلا أجوبة إلى الآن.. بعضها يخشى المثقفون الإجابة عليه، وبعضها الآخر لا يعرفون إجابته من الأساس!.