رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


رسائل الرحمة فى يوم الحج الأكبر

30-8-2017 | 18:13


بقلم:  د.خالد عمران

أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية

يأتى موسم الحج هذا العام ليحمل لنا أريج التاريخ والذكرى ويجمع معه ضرورات الحاضر ومقتضيات العصر ونتذاكر فيه بعض ذكرياتنا وآمالنا، ونرد على كثير من المسائل والرسائل التى نتلقاها عبر استفتاءات المستفتين وأسئلة عقول السائلين.

وأول شىء نذكره بهذا الصدد أن الحج يحيى الرحم الإنسانية التى يجب علينا كمسلمين صلتها وصيانتها ورعايتها، وأقصد بالرحم الإنسانية هى الصلة بينى كمسلم وبين كل إنسان على ظهر الأرض.

تلك الرحم التى نوه القرآن بها عندما قال: {يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: ١]، فالحج يحيى فى نفوس المؤمنين الرحم الذى بينه وبين كل مؤمن بل وكل إنسان، مركزها عند أبى الأنبياء والأديان، إبراهيم عليه السلام.

إنها ذكريات تاريخية شريفة للبيت الحرام وللبلد الحرام عبر عنها القرآن فى كثير من المواطن وفى كثير من السياقات. ومنها ما جاء فى قصة أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام التى يحكى القرآن لنا منها شيئا فى نحو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِى أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم: ٣٥ - ٣٨].

وفى نحو هذا السياق يأتى الأمر الإلهى لإبراهيم عليه السلام بالأذان للحج فيقول تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِى لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ *ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: ٢٦ - ٣٠].

أتى الأمر بالدعوة إلى الحج منذ عهد إبراهيم عليه السلام ليحفظ ذاكرة الأمة الواحدة التى ترجع إلى الأنبياء جميعا وإلى إبراهيم أبى الأنبياء والتى تتبع فى هديها سنة خاتم الأنبياء جميعا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى هذه الصلة الكريمة يشير القرآن الكريم فى قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} [النحل: ١٢٣].

إنها الذكرى الجامعة التى تجمع اتباعنا للأنبياء والذين تجمَّع هديهم جميعا فى خاتمهم صلى الله عليه وسلم، وقد سجل القرآن دعاء إبراهيم بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [البقرة: ١٢٩].

ثم يأتى البيان النبوى من جبل الرحمة على عرفات الله فى خطبة نبوية إنسانية شهيرة بخطبة الوداع تؤكد على الحقوق الإنسانية وتدعو الجميع إلى الأخلاق.

وها هو ذا المصطفى يلقى بيان الوداع أو خطبة الوداع : (أيُّها النَّاسُ)، [هكذا بلفظ الناس وليس المسلمين ولا المؤمنين فتأمل البيان والكلام] اسمعوا قولي، فإنِّى لا أدرى لعلِّى لا ألقاكم بعدَ عامى هذا، بِهذا الموقِفِ أبدًا.

أيُّها النَّاسُ، إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليْكُم حرامٌ، إلى أن تلقَوا ربَّكم كحُرمةِ يومِكم هذا، وَكحُرمةِ شَهرِكم هذا، وإنكم ستلقونَ ربَّكم، فيسألُكم عن أعمالِكم وقد بلَّغتُ، فمن كانت عندَهُ أمانةٌ فليؤدِّها إلى منِ ائتمنَهُ عليْها وإنَّ كلَّ ربًا موضوعٌ، ولكن لَكم رؤوسُ أموالِكم، لا تظلِمونَ ولا تُظلَمونَ قضى اللَّهُ أنَّهُ لا ربًا وإنَّ ربا العبَّاسِ بنِ عبدِالمطَّلبِ موضوعٌ كلُّهُ، وإنَّ كلَّ دمٍ كانَ فى الجاهليَّةِ موضوعٌ، وإنَّ أوَّلَ دمائكم أضعُ دمَ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِالمطَّلب- وَكانَ مستَرضَعًا فى بنى ليثٍ، فقتلتْهُ هُذيلٍ- فَهوَ أوَّلُ ما أبدأُ بِهِ من دماءِ الجاهليَّةِ..

أما بعدُ أيُّها النَّاس، إنَّ الشَّيطانَ قد يئِسَ أن يعبدَ فى أرضِكم هذِهِ أبدًا، ولَكنَّهُ أن يطاعَ فيما سوى ذلِكَ فقد رضِى بهِ مِمَّا تحقِّرونَ من أعمالِكم، فاحذروهُ على دينِكُم.

أيُّها النَّاسُ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: ٣٧]، ويحرِّموا ما أحلَّ اللَّهُ، وإنَّ الزَّمانَ قدِ استدارَ كَهيئتِهِ يومَ خلقَ اللَّهُ السَّمواتِ والأرضَ، و«إنَّ عدَّةَ الشُّهورِ عندَ اللَّهِ اثنا عشَرَ شَهرًا فى كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منْها أربعةٌ حُرُمٌ»، ثلاثةٌ متواليةٌ، ورجبُ الَّذى بينَ جُمادى وشعبانُ.

أمَّا بعدُ أيُّها النَّاسُ، فإنَّ لَكم على نسائِكم حقًّا ولَهنَّ عليْكم حقًّا، لَكم عليْهنَّ أن لا يوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكرَهونَه، وعليْهنَّ أن لا يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ. واستوصوا بالنِّساءِ خيرًا، فإنَّهنَّ عندَكم عَوانٍ لا يملِكنَ لأنفسِهنَّ شيئًا، وإنَّكم إنَّما أخذتُموهنَّ بأمانةِ اللَّهِ، واستحللتُم فروجَهنَّ بِكلمةِ اللَّهِ، فاعقلوا أيُّها النَّاسُ قولي، فإنِّى قد بلَّغتُ وقد ترَكتُ فيكم ما إنِ اعتصمتُم بِهِ فلن تضلُّوا أبدًا، أمرًا بيِّنًا كتابَ اللَّهِ وسنَّةَ نبيِّهِ.

أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قولى واعقِلوهُ تعلمُنَّ أنَّ كلَّ مسلمٍ أخو للمسلِمِ، وأنَّ المسلمينَ إخوَةٌ، فلا يحلُّ لامرئٍ من أخيهِ إلا ما أعطاهُ عن طيبِ نفسٍ منه فلا تظلِمُنَّ أنفسَكمُ اللَّهمَّ هل بلَّغتُ قالوا: اللَّهمَّ نعَم، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم: اللَّهمَّ اشهد».

تلك الرسائل التى أرسلها نبى الرحمة بجوار جبل الرحمة تؤسس للإيمان بالإنسان واحترام الإنسان، استلهمها أستاذ شيوخنا فى كلية أصول الدين د. محمد غلاب ليكتب كتابه (آمنت بالإنسان)، ومن قبله سرى هذا الأمر فى الحضارة الإسلامية كلها نعم إنها هذه أمة آمنت بالرحمن التى جعلت الإنسان إنسان حضارة هو الكامن وراء الحضارة الإسلامية.

إن ذاكرة الحج ليست ذاكرة خاصة بل هى ذاكرة الخير والبشرى للإنسانية كلها وتذكير بمنة الله العظمى على ولد آدم جميعا برسله ورسالاته وليبق المكان شاهدا على الذكرى كلما طفنا أو لبينا أو رمينا تذكرنا رسالة التوحيد الباقية المنقولة عبر رسل الله أجمعين.

وبعد الإيمان بالإنسان يأتى الإيمان بالأمة، وكثيرا ما نُسأل عن انتمائنا هل هو للإنسانية أم للأمة الإسلامية أم للأوطان أم للأديان أم..أم.. لماذا تنتمون؟

وقد وقف العجز عن الإجابة عن هذا السؤال دافعا وراء كثير من التطرفات فى الشرق والغرب، بل أظن العجز عن الوفاء بحق هذا السؤال وقف وراء تلك العقول التى رفعت السلاح فى وجه الأوطان بحجة طاعة الأديان، والحق أن دوائر الانتماء كلها متكاملة لا متعارضة ولا متناقضة، فالوطنية السليمة من التدين السليم ولا يتعارض هذا أو ذلك مع الانتماء للأمة أو للإنسانية وبتعبير موجز فدوائر الانتماء متكاملة لا متعارضة وها أنا ذا مصرى وعربى ومسلم أهفو بعد أن امتلأ قلبى من حب مصر وجعلها الله إنسان عينى وإكسير حياتى أهفو أيضا إلى تلك البقاع المقدسة الشريفة فى مكة المكرمة، بل وأهفو إلى زيارة موطن مولد السيد المسيح عليه السلام فى بيت المقدس، وأقدر ما يهفو إليه قلب كل مسيحى وطنى مصرى لزيارة موطن السيد المسيح وحبه لذلك، حقا لا أجد تعارضا بين الشوقين والحنينين بل الأشواق وألوان المحبة للأوطان والأديان والإنسان.

وعودة إلى مكة، لقد شهدت هذه الأماكن الشريفة ميلاد الرسالة المحمدية وأيامها الأولى، فى مكان منها تنزل الوحى عليه صلى الله عليه وسلم، ومكان آخر شهد صبره هو وأصحابه على بيان دعوته وتبليغها، وآخر شهد جهره بدعوته، وشهد آخر على عبادته وانقطاعه عن الناس إلى ربه متأملا تاركا الخلق إرضاء للخالق، إنها أماكن حوت سجلات حافلة لأيامه صلى الله عليه وسلم، وأى معنى هذا الذى يحمله قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «إِنِّى لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّى لَأَعْرِفُهُ الْآنَ»، رواه مسلم.

ولا زال الحج هو السجل الحافل الذى رمز لتاريخ الوحدة بين شعوب المسلمين، وهو المؤتمر الأكبر الذى تسبب فى تبادل الأفكار والخبرات بين علماء الأمة، فيحدث التقارب والتحاور ويتجلى التطبيق الأسمى لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} [الحجرات: ١٣].

إذا كانت الذكرى التاريخية للمكان وما مر فيه من الأحداث الجسام والأشخاص العظام تبعث رسالة التوحيد لتحقق واجب الخلافة الذى وضعه الله فى عنق بنى آدم، فإنه رسالة لحاضرنا اليوم، فالحج عبادة تجمع بين الماضى والحاضر وأهم رسائل الحج -فيما نحسب-بعد توحيد الحق جل شأنه الدعوة إلى وحدة الأمة وتوحيد قلوبها، فها هى ذى جموع حجيج بيت الله الحرام فى مكان واحد وبلباس واحد وبقلب واحد تلتف قلوبهم فى هذا المكان، ونحن ندعو الله تعالى أن يوحد تلك القلوب ويؤلف بينها على كل المستويات. وإن هذه الرسالة المباركة التى يرسل بها المكان وتبعث بها الشعيرة المقدسة لترد بقوة على كل دعوة لتفريق كلمة الأمة أو تحاول أن تنال من استقرارها وأمنها وتلك رسالة من الفريضة المقدسة إلى الواقع والحاضر، وتنبيه للأمة أن لا تمكن أحدا من النيل منها.

ثم يأتى واجب التجديد بعد التوحيد، وهنا نبدأ بخطاب أنفسنا نحن أهل الفتوى ثم كل معنى بالرسائل التى تبعث بها الفريضة المقدسة ويريد أن يساند ويعاون، فإنه يتوجب علينا نحن الذين وكلت لنا أمانة الدعوة والفتوى فى هذه الأمة أن نسارع فى ترجمة هذه الرسائل إلى واقع يراه الناس، كل بحسب موقعه وعلى قدر مسئوليته، وأخص منهم أصحاب الفتوى بفتاواهم التى تجمع بين فقه النصوص ومعرفة التراث الأصيل وتقدر الواقع المعاش فتكون فتاواهم سببا فى تحقيق مقاصد الشريعة ومقاصد الشعيرة على السواء.

ومع أهل الفتوى والإرشاد تأتى تخصصات الأمة جميعها ووظائف أبنائها التى تحتاجها الفريضة المباركة لتكون هناك مسئولية مشتركة على الجميع تمتد لتصل إلى الباحثين فى كل التخصصات بل والفنيين والفرق المساعدة كلها منظومة واحدة متكاملة تواصل عطاء التاريخ وترسل رسالة للعالم جميعه أن هذه الأمة حية وأن وجه الدين الذى أنزل إليهم ناصع البياض وأنهم ما تمسكوا بشعائره وعباداته إلا وكتب لهم التوفيق والفلاح فى الدنيا والآخرة، وكان ذلك سبيلا لسعادة الدارين.

وقد حققت دار الإفتاء المصرية منذ تأسيسها بقيادة أصحاب الفضيلة من المفتين وبمشاركة أعضاء أمانة الفتوى بها، ومن قبل ذلك فعل مجمع البحوث الإسلامية ولجنة الفتوى بالأزهر الشريف خطوات مشهودة فى تجديد الإفتاء فى قضايا الحج، وكان نصب أعيننا فى ذلك احترام التراث والنصوص وتقدير متغيرات الواقع المعاش ومع العناية بمقاصد الشريعة الإسلامية التى هى السياج الحافظ لحقوق الإنسان وفى رؤوس أقلام سريعة أسجل نماذج لبعض الفتاوى التى صدرت عن دار الإفتاء تحقق هذا المعنى:

أولًا: فى المبيت بمزدلفة قولان للعلماء، فمنهم من قال بوجوبه، ومنهم من قال بسنيته، والمالكية يجعلون المرور فيها بقدر «حط الرحال» كافيًا فى تحصيل المبيت، سواء حطت بالفعل أم لا، والقائلون بالوجوب يسقطون الدم إن تركه الحاج بعذر.

والمعتمد فى الفتوى فى هذه الأزمان التى كثرت فيها أعداد الحجيج كثرة هائلة حتى أصبح ذلك فى نفسه عذرًا مسقطًا للوجوب عند من يقول به هو الأخذ بسنية المبيت فى مزدلفة، وهو قول الإمام الشافعى فى «الأم» و»الإملاء»، وقول للإمام أحمد كما حكاه صاحب «المستوعب» من الحنابلة، بينما يكتفى المالكية بإيجاب المكث فيها بقدر ما يحط الحاجُّ رحله ويجمع المغرب والعشاء. وبناءً على ذلك: فلا شىء عليك فى عدم المكث بمزدلفة إلى نصف الليل.

ثانيا: يجوز للمرأة أن تسافر من غير مَحْرَمٍ بشرط اطمئنانها على الأمان فى سفرها وإقامتها وعودتها، وعدم تعرضها لمضايقات فى شخصها أو دينها. فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخارى وغيره عن عدى بن حاتم أنه قال له: «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ –أى المسافرة– تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لاَ تَخَافُ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ».

فمن هذا الحديث برواياته أخذ بعض المجتهدين جواز سفر المرأة وحدها إذا كانت آمنة، وخصصوا بهذا الحديث الأحاديثَ الأخرى التى تحرم سفر المرأة وحدها بغير محرم. ولذلك نرى المالكية والشافعية يجيزون للمرأة السفر بدون محرم إذا كانت مع نساء ثقات أو رفقة مأمونة وكان ذلك فى حج الفريضة، وقد استدلوا على ذلك بخروج أمهات المؤمنين رضى الله عنهن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحج فى عهد عمر رضى الله عنه وقد أرسل معهن عثمان بن عفان ليحافظ عليهن رضى الله عنه. بل نرى الحطاب المالكى فى كتابه مواهب الجليل شرح مختصر خليل يقول: قَيّد ذلك الباجى بالعدد القليل، ونصه: «هذا عندى فى الانفراد والعدد اليسير، فأما فى القوافل العظيمة فهى عندى كالبلاد، يصح فيها سفرها دون نساء وذوى محارم» انتهى، ونقله عنه فى الإكمال وقَبِلَه ولم يذكر خلافه، وذكر الزناتى فى شرح الرسالة على أنه المذهب، فيقيد به كلام المصنف وغيره. ونص كلام الزناتي: إذا كانت فى رفقة مأمونة ذات عَدَد وعِدَد أو جيش مأمون من الغلبة والمحلة العظيمة فلا خلاف فى جواز سفرها من غير ذى محرم فى جميع الأسفار: الواجب منها والمندوب والمباح، من قول مالك وغيره إذ لا فرق بين ما تقدم ذكره وبين البلد. هكذا ذكره القابسي. انتهى.

وبناءً على ذلك: فسفر المرأة للحج من غير محرم أمر جائز شرعًا ما دام الأمن متحققًا فى السفر ومكان وصولك. وغير ذلك من الفتاوى التى يضيق المقام بأكثر من هذا.

وتبقى نفحة الحج الكبرى هى زيارة مثوى المصطفى الأعظم صلى الله عليه وسلم فى المدينة المنورة وهى وإن لم تكن من أركان الحج فهى من شوق المحب، وماذا بعد الحب إلا الجفاء؟

وتبقى رسائل المكان والزمان والفريضة سارية للقلوب قبل العقول ملبية لدعاء الخليل:{رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: ٣٧]