● شعر أحمد شوقي بأن بيرم هو الوحيد القادر على مزاحمته في إمارة الشعر، ولكن بعامية سهلة، وجدت طريقها إلى قلوب وعقول الناس بسرعة البرق
● لم يجد بيرم من عائلته في تونس ترحيبًا، فتركها بعد أربعة أشهر إلى مارسيليا، ثم انتقل إلى باريس بعد ثلاثة أيام، وفيها عرف الجوع والعطش، والبرد والفقر والمرض فهرب إلى مصر
● يذكرني بيرم بأستاذه عبدالله النديم، فكلاهما تحمل الظلم والنفي والتشريد من أجل الكلمة، وحرية الوطن، ولم تغب روح الفكاهة والدعابة عنهما حتى في أحلك المواقف
محمد محمود مصطفى بيرم التونسي (٤/٣/١٨٩٣-٥/١/١٩٦١) الشهير بـ بيرم التونسي؛ المشاكس الأكبر، قليل الحظ، مناكف، مغضوب عليه، لكنه خالد الذكر!
هو غنوة ربما تطربك، تبعث فيك النشوة والفرح، وقد تشجيك، فتدثرك بمعطف الحزن والأسى! لكنها في الحالتين، غنوة تغمر قلبك بمشاعر إنسانية راقية، تليق بما تحمله من موسيقى ذاتية، ومعانٍ عبقرية، وتركيز معتق صافٍ، قلما تجده في قصائد كلاسيكية عصماء، رغم عاميتها، الموغلة في مصريتها، والمتفردة في مفرداتها والقدرة على التلاعب بألفاظها، وخلق نَظْم، يتفق مع الدفقات الشعورية التي يريد خلقها داخل مستمعه، فلا يملك إلا الانصياع دون مقاومة!
ربما هنا أشير إلى مقولة شائعة لأمير الشعراء "أحمد شوقي" (١٨٦٨-١٩٣٢): "أنا لا أخشى على العربية طغيان أحد أو شيء إلا بيرم وأدبه الشعبي".
كأن شوقي هو حارس العربية الأمين! ولم يكتب بالعامية خمسة عشر قصيدة، تغنى مطربه الأثير محمد عبدالوهاب بإحدى عشرة قصيدة نذكر بعضها "شبكتي قلبي يا عين، في الليل لما خلي، النيل نجاشي، اللي يحب الجمال"!
ربما السبب الأهم الذي دعاه لقول ذلك -إن قاله فعلًا- هو شعوره بأن بيرم الوحيد القادر على مزاحمته في إمارة الشعر، ولكن بعامية سهلة، وجدت طريقها إلى قلوب وعقول الناس بسرعة البرق!
يقول بيرم عن نفسه وعن الكاتب عمومًا:
"يقولون إن لكل كاتب رسالة يؤديها إلى أمته، وأعتقد أن الكاتب العربي صاحب التعبير الرصين والأسلوب العالي في بلد كمصر، هو أبعد الكتاب عن أمته، وسيحمل رسالته على أم رأسه، ويطوف بها على خريجي المدارس والمعاهد، يرضيهم ويرضونه، ويبقى معهم بمعزل عن الأمة كلها، وهذه أنانية من أصحاب الرسالات يؤسف لها" (الإمام مجلد ١٣، العدد ١٧- ١٠/١٢/١٩٣٣).
كيف غاص بيرم بهذه القوة في أعماق التربة المصرية، واستطاع تهديد عروش أمراء اللغة وملوكها؟
وهو التونسي الأصل، الفقير المعدم، صاحب الحياة البائسة، المُشرد، المنفي عن وطنه ما يقرب من عشرين عامًا؟
ولد محمود بيرم في ٤ مارس ١٨٩٣، بحي الأنفوشي، بمدينة الإسكندرية، وفي ذلك الوقت استقرت الجالية التونسية بكثافة في الإسكندرية، ورغم ذوبان هذه الجالية في أرض مصر، فإن أصداء الأرض الأم -تونس- ظلت حية بقوة، يقول الأستاذ عباس محمود العقاد: "نشأ بيرم في بيئة تونسية عريقة، وبقي إلى ما بعد العشرين من عمره يتحدث على السجية، فيذهب لسانه على غير قصد منه إلى نبرات تلك اللهجة ومصطلحاتها، ولقيناه وهو في نحو الخامسة والعشرين (تقريبًا ١٩١٨) يمزج في حديثه بين اللهجة الإسكندرانية واللهجة التونسية، وتبدو منه العبارة المغربية سهوًا فيلحقها بلوازمها عمدًا، ليقطع على المستمع إليه سبيل التقليد والدعابة (عبدالفتاح غبن- بيرم والفصحى- القاهرة -ص ١٥).
أنشأ جد "بيرم" ورشة صغيرة لصناعة الحرير في سوق المغاربة، الذي كان بؤرة تجمع التونسيين في الإسكندرية، وكان والد "بيرم" -محمد- يشرف على الورشة، يستأجر المنشدين للملاحم والسير، ليستمع إليهم أثناء العمل، وربما تأثر ابنه "بيرم" بهذه الملاحم.
لم يشأ الوالد أن يسلك ابنه "طريق الحرير" فأرسله إلى كُتابِ "الشيخ جادالله" في زاوية الخَطاب بين البيت والورشة، لكن بيرم رفض الكُتاب، نتيجة العقاب المتواصل من شيخه!
فقد بيرم والده وهو صبي، ثم تزوجت والدته من المعلم "شريدي" المغربي، صانع سروج الجمال، الذي لم يعبأ بتعليمه، وإنما لقنه ما يعرف من خبرات ومهارات في الحياة. يقول عنه بيرم:
"هذا الرجل لقنني درس الحياة الأول، ولذلك فإذا انسد أمامي بابًا نفذت من الكوة، وإذا استعصى عليَّ الاثنان، انزلقت من تحت عقب الباب" (المصور-٢٨ مايو ١٩٥٤)
استمر بيرم في محل سروج الجمال حتى ماتت أمه عام ١٩١٠، فانقطعت صلته بالمعلم "شريدي" تمامًا، واستغل ميراثه، فباع البيت وعمل في البقالة، وسرعان ما فقد أمواله، لكنه استفاد من الجرائد والكتب القديمة، التي اشتريها بالأقة للف البضاعة، وأحيانًا كان يجد أعمالًا كاملة، يقرأها ويتعلم منها، مثل الفتوحات المكية لابن عربي، الذي قرأها وأعجبه الفكر الصوفي، لهذا حضور بعض الدروس في مقام أبي العباس المرسي.
في ذلك الوقت تزوج بيرم من ابنة عطار في حي الميدان، انجبت له طفلًا ثم طفلة، لكن هذه الزوجة توفيت أثناء الوضع، فتزوج بعد أيام من امرأة أخرى أنجبت له طفلة لم يرها، إذ وضعتها أمها وهو في طريقه إلى منفاه في تونس!
تلك كانت ثقافة بيرم؛ قصاصات ورق، صفحات جرائد، بعض دروس الصوفية في مسجد المرسي أبي العباس، ثم لقاءات ثقافية تعقد على مقهى "بلبل" في السيالة، ومقهى المعلم "صالح أبو الشهود" المقابل لمسجد سيدي تمراز. (مذكرات بيرم التونسي -كمال سعد- بيروت- ص ٢٧).
بعد فشل بيرم في البقالة، تحول إلى بائع سمن، واشترى بيتًا صغيرًا بما بقي له من ميراث والديه، فلم ينتبه لوضعة المالي، وإنما انتبه لأوضاع اجتماعية وسياسية متدنية وملتهبة في مجتمعه!
سلطان أجلسه المحتل البريطاني على العرش، ثم إعلان بريطانيا الحرب على ألمانيا في ٤ أغسطس ١٩١٤، وفي ٥ نوفمبر أصبحت الحكومة العثمانية حليفة لألمانيا، بينما أعلنت الحكومة المصرية وقوفها مع بريطانيا، وانفصالها الرسمي عن الدولة العثمانية، مع إعلان الحماية البريطانية على مصر في ١٨/١٢/١٩١٤، وتطبيق الأحكام العرفية، والرقابة على الصحف ومنع التجمعات.
وكما التهبت أوضاع مصر والعالم، التهبت قريحة بيرم، وهاجت عاطفته، فكتب ينتقد السلطان حسين كامل (١٨٥٣- ١٩١٧) ومن بعده الملك فؤاد الأول (١٨٦٨-١٩٣٦).
بسبب قصيدة "البامية الملوكي والقرع السلطاني" وقصيدة "لعنة الله على المحافظ" الملتوية، التي تشير لفظًا إلى جمع "محفظة" وتلميحًا إلى محافظ القاهرة - زوج الأميرة فوقية ابنة السلطان فؤاد- انتهي أمر بيرم إلى النفي إلى تونس في ٢٥/٨/١٩٢٠!
لم يجد بيرم من عائلته في تونس ترحيبًا، فتركها بعد أربعة أشهر إلى مارسيليا، ثم انتقل إلى باريس بعد ثلاثة أيام، وفيها عرف الجوع والعطش، والبرد والفقر والمرض، فعقد العزم على الهرب والرجوع إلى وطنه "مصر".
يقول بيرم في مذكرات المنفى: "قد تناولت الطعام هذا الأسبوع مرتين أو ثلاثًا، وقبل الليلة التي أدون فيها هذه الكلمات رقدتُ بلا عشاء، وفي مثل تلك الحالة، يشعر الإنسان أن النوم يُغني عن الطعام بعض الغناء، فَبَقيت في الفراش أنظر من النافذة إلى السماء المكفهرة، ولا أعرف إن كان الوقت ضحى أو مساء.. وعندما سمعت نشيش المقلاة عند جيراني، وصعدت رائحة "البفتيك" يقلى في الزبدة علمت أنه الظهر.
بمعاونة عامل مصري يعمل على مركب بريطاني، وصل بيرم إلى بور سعيد في ٢٧ مارس ١٩٢٢، قفز إلى الماء، هاربًا إلى الإسكندرية، واختبأ في حي الأنفوشي، فوجد زوجته قد حصلت على الطلاق بحكم المحكمة.
بعد أربعة عشر شهرًا تم القبض عليه، ووضعه على ظهر مركب متجه إلى فرنسا في يوم ٢٥/٥/١٩٢٣..
عمل بيرم في فرنسا حمالًا، ثم عاملًا في مصنع للكيماويات، فيصاب بمرض صدري، فيتركه ويلتحق بمصنع للحرير الصناعي، فيعاوده المرض ويدخل على إثره المستشفى، فيتم فصله لطول إقامته في المشفى، فيجد نفسه مشردًا.
تصدر الحكومة الفرنسية نهاية عام ١٩٣٢ قرارًا بترحيل كل أبناء المستعمرات، فيتوجه بيرم إلى تونس.
حيث يستقر بها أكثر من ٤ سنوات، يعمل خلالها في الصحافة، وكتابة الأزجال والمقامات التي اشتهر بها في مصر وفرنسا، لكنه بأمر آخر من المستعمر، يترك تونس متجهًا إلى بيروت، ثم إلى دمشق، حيث يصل إليها في إبريل ١٩٣٧.
لم يكمل بيرم عامًا واحدًا في دمشق، حتى صدر قرارًا بنفيه إلى أي بلد في شمال أفريقيا!
بلغت السفينة مدينة بورسعيد في ٨/٤/١٩٣٨ فلاذ بيرم بالفرار، عائدًا إلى طينة اشتاق إلى عبق أريجها، والتأم بجذوره التي استأصلوه منها عنوة ثمانية عشر سنة!
طاف بيرم على كل صاحب سلطة، والتمس العفو من كل ذي سلطان، ليعفو ملكه الجديد عنه! توسط له الشاعر كامل الشناوي، فتحدث مع أستاذه "أنطون الجميل" رئيس تحرير الأهرام، فتعجب الجميل، إذ أنه يعلم مقدار إعجاب محمد محمود باشا رئيس الوزراء، ومحمود فهمي النقراشي وزير الداخلية، وأحمد حسنين باشا الأمين الأول لقصر الملك فاروق بأزجال وأشعار بيرم!
هنا أصدر النقراشي باشا، قرارًا سريًا بعدم التعرض لبيرم!
لقد تحمل "بيرم" من أجل كلمته ووطنه ما لم يتحمله بشرٌ، ربما يذكرني بيرم بأستاذه عبدالله النديم، فكلاهما تحمل الظلم والنفي والتشريد من أجل الكلمة، وحرية الوطن، ولم تغب روح الفكاهة والدعابة عنهما حتى في أحلك المواقف وأصعبها، لكن ملكة بيرم الشعرية، وعبقرية استخدام العامية المصرية بتلقائية مذهلة، وانتقاء الألفاظ الموحية، كل ذلك دعمه وكتب الخلود له.
إن عشق بيرم للغناء، وأذنه الموسيقية كشاعر فذ، كتب له الخلود أيضًا، خاصة مع اقتران اسمه باسم عباقرة الغناء والتلحين في مصر، بداية من الشيخين سيد درويش وزكريا أحمد، وانتهاء بملك العود فريد الأطرش، بل إن السيدة أم كلثوم منحته خلودًا كخلود الأهرامات، حين شدت له بصوتها المعجز أغنيات عظيمة بدأتها بأغنية "أنا وأنت" عام ١٩٤٠، الأغنية الأولى التي جمعت بينهما مع ألحان الشيخ زكريا أحمد.
ثم توالت الدُرر التي شدت بها ثومة، من كلمات بيرم وألحان الشيخ زكريا، في الفترة بين عامي ١٩٤١-١٩٤٧، وتحديدًا مع فيلم "فاطمة" إذ بلغ عدد هذه الأغنيات ستة عشر أغنية، منهما أغنيتان مفقودتان.
أروع هذه الأغنيات الآهات، حلم، الأمل، الحب كده، أنا في انتظارك، أهل الهوى، هو صحيح الهوى غلاب، الأولى في الغرام، حبيبي يسعد أوقاته.
استمر التعاون بين بيرم وثومة، بعد فيلم "فاطمة" حيث غاب زكريا أحمد، وشاركهما التلحين الموسيقار محمد القصبجي والموسيقار رياض السنباطي، ثم الأستاذ محمد الموجي الذي لحن لهما "بالسلام إحنا بدينا".
يقول بيرم: "يعجبني عبدالوهاب إذا غنى ولم يُلحن، وزكريا أحمد إذا لَحَّن ولم يُغنِ، وصالح عبدالحي إذا احتفظَ بأدوارِ عبدالحمولي ومحمد عثمان، وفريد الأطرش إذا غنى الأغاني السورية -تبع بلده- وتعجبني أم كلثوم إذا لحن لها زكريا أحمد، ونجاة علي إذا وجدت مَن يعتني بها، وملك محمد إذا لم تغنِ ولم تلحنْ، أما رجاء عبده فهي أصلح مطرباتنا لتكون مطربة أطفال، ونادرة صوتها يَغيظ، هو أشبه ما يكون بالفول النابت، الذي يملأ البطن ولا يغذي مطلقًا".
هذا هو بيرم الذي قال: "نسينا الدنيا ولهينا في هوانا وطرنا وعلينا.. لا عواذل واقفة حولينا ولا ذنب يتعد علينا"(حلم).