بيرم التونسي.. صاحب الجوهرة الإذاعية «عزيزة ويونس»
• يقول بيرم إن أغانى أوبريت "عزيزة ويونس" في الـ 30 حلقة كانت من تأليفه وألحانه، ولو كان حديث بيرم غير حقيقى لكذبه الشيخ زكريا أحمد
• كان بيرم من أشد المؤيدين لثورة يوليو، فكتب عددًا من الأشعار الداعمة لها، حتى إنه أول من ألقى شعرًا بصوته في الإذاعة المصرية احتفاءً بقيام الثورة
• كانت فترة إقامة بيرم التونسى في تونس حافلة بالعطاء الفكرى والأدبى، فلم يكن يتيح لنفسه فرصة الراحة، فقد كان مجبرًا على الإنتاج المتواصل لأنه مورد رزقه الوحيد
قبل التعرف على التفاصيل الدقيقة للعمل الفنى، الجوهرة الإذاعية، عزيزة ويونس لمبدعه بيرم التونسى، دعونا نتغنى معه هذه الكلمات "الأولة مصر، قالو تونسى ونفونى. والتانية تونس، فيها الأهل جحدونى. والتالتة باريس، وفيها الكل نكرونى ". عائلة تخرج من أرض تونس الخضراء إلى مصر وبالتحديد مدينة الإسكندرية ليترعرع ابنها، كشاعر عبقرى، غُرِس في أرضها واختلط بملحها، وشب بين أهلها، إنه الشاعر الفذ "بيرم التونسي" صاحب الكلمات السابقة التى تُلخص حياته. ولنستمع إليه أيضًا في كلمات وإن كانت بداية لإحدى قصائده إلا أني شعرتُ وكأنها تلخيص لفلسفته فى الحياة ومواجهته لسوءاتها.
الأوله ليه؟ والتانيه ليه؟ والتالته ليه؟
الأوله ليه يغنى، داللى صوته نشاز؟
والتانية قصده أيه منى، داللى مدهون جاز؟
والتالتة ليه بينازلنى، داللى بيته قزاز؟
وبديهى أن يعبر الأديب، نثرًا أو شعرًا، عن مكنونه النابع من تأثره بالبيئة التى يعيش فيها وكيف يتأثر بأدق تفاصيلها ويؤثر فيها بفكره ووجدانه. بيرم التونسى وأستطيع أن أطلق عليه "شاعر الحارة، أو أديب الشعب"، أديب من طراز رفيع لم يكن يكتب قصائد بقدر ما يكتب قصص من الحارة وللحارة، يكتبها شعرًا، فتراه مثلا يحكي لنا قصة "زوجة غانم مصطفى السجان" الذى كان يعذبها ولم تنجب منه وكيف نقلت ثروته إلى بيت أمها لما وجدته يلفظ أنفاسه الأخيرة وكيف تحايلت على الورثة حتى تفلت منهم بالـ 16 فدانا، قصيدة أو قصة لذيذة بعنوان "زوجة السجان" يقول بيرم فى مطلعها:
توفى فى الحي غانم مصطفى السجان/ لا له بنات كان مخلفهم ولا صبيان
فــــات لــــهــانم مراته 16 فدانا/ وكل ده من رشاوى الأكل والدخان
وقبل أن نتجول في بستان بيرم التونسى لنتنسم زهوره العطرة، يجب أن نتعرف عليه هو أولا في عجالة، فقد ولد محمود محمد مصطفى بيرم الحريرى 23 مارس 1893في مدينة الإسكندرية، وسُمى بالتونسى؛ لأنه ينحدر من أسرة تركية استوطنت تونس، ثم رحلت إلى مصر وعاشت في حي الأنفوشى ﺑ «السيالة»، وقد كان لهذه النشأة أكبر الأثر في أشعاره العامية؛ ذلك لأن الشعر ينبع من البيئة الوجودية التي ينتمي إليها الشاعر. استهل بيرم سبيله الدراسي بالالتحاق بكُتاب الشيخ جاد الله؛ ولكنه سرعان ما كره الدراسة فيه نظرًا لِتَعَنُّت الشيخ وقسوته؛ فأرسله والده إلى المعهد الدينى، وعندما توفى والده انقطع عن الدراسة، وعمل في تجارة أبيه؛ وخرج من هذه التجارة صِفْرَ اليدين. ثم خاض بيرم التونسى غمار المعترك الصحفى؛ فأصدر مجلة «المسلة» عام ١٩١٩م، وبعد إغلاقها أصدر مجلة «الخازوق»؛ ولكنها مُنِيَت بنفس المصير المأساوى الذي منيت به نظيرتها السابقة. وبعد تجربته الصحفية عاش أيامًا ذاق فيها مرارة الكفاح من أجل النضال؛ فقد نُفى إلى تونس بسبب مهاجمته لزوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد، ولكنه ضاق ذَرْعًا بتونس؛ لِما شهده من قمع المستعمر الفرنسى؛ فسافر إلى فرنسا ليعمل حمَّالًا في ميناء مرسيليا لمدة سنتين، ثم عاد إلى مصر بأزجاله النارية التي ينتقد فيها الاستعمار الجاثم على صدور المصريين؛ وهنا يُلقى القبض عليه مرة أخرى، وتنقله السلطات إلى فرنسا، ويعمل هناك فى شركة للصناعات الكيماوية؛ ولكنه فُصِلَ منها لمرض أصابه، ثم تمَّ ترحيله من فرنسا إلى تونس؛ لأن السلطات الفرنسية قامت بطرد الأجانب، وهناك أعاد نشر صحيفة «الشباب»، وأخذ يتنقل بين لبنان وسوريا؛ لكن السلطات الفرنسية قررت إبعاده إلى إحدى الدول الإفريقية؛ لكي تستريح من أزجاله الساخرة اللاذعة، وسوف تتعرف على طبيعتها إن تعرفت على مجموعة من العناوين للتدليل على اتجاهه العام فنجد أسماء قصائده كما يلي" قصيدة الفقر، السَّاعِد اللِّي بَنَى الْأَهْرَام، السِّيَاسِي، الصَّحَافَة، الصُّلْب والْبِتْرُول، الطَّيَرَان الْمَصْرِى قَبْل الثَّوْرَة، أَلْف شُغْلَانَة، الْقَرْع السُّلْطَانِي، الْقَفَا!، إِيهْ نَابْنَا بَعْد الْحُرُوب؟، بُولِيس سِيَاسِى، تَصْرِيح ٢٨ فِبْرَايِر، تِقْبَضْهَا وِتْبَلِّمْ، سُوق الْهِتَاف، سِيَاسَه مْدَبَّرَهْ ١٩٤٧، شُوف الْخَوَاجَة فُلَان، اسْتِقْلَال عَدْلِي، الِاسْتِعْمَار، الِاشْتِرَاكِيَّة، إِلَى جون بول رَأْس الْغُول، حُكْم التُّرْك، قُولُوا لِعِين الشَّمْس مَا تِحْمَاشِي، كُرْسِي الْبَرْلَمَان، لَجْنِة مِلْنَر، يَا خَادِم الْجَمَاهِير خَلِّيك مَعَ الله، الْجَلَاء عَلَى الْأَبْوَاب، اللَّتِّ وِالْعَجْن، تُوت عَنْخ آمُون، حَتَّى الْغُورِيلَّا مِتِّفْقِين، مَصْر حِتَّة مِنْ أُورُوبا، نَكْبَة وَطَنِية، وَالله النِّيَابَة أَمَانَة، قَلْدَس جِرْجِس يَا غَبِي"، وهناك عدد آخر من أشعاره التى ضمها الجزء الثاني من كتابه "ديوان بيرم التونسى" الصادر في طبعته الأولى عام 1948م، منها "الفقر، الجعايدة، حانة مانولى، القاهرة فى الصيف، خليل المنزولجي، اختين شقايق، خناقة في الفراش، الثورة المصرية 1919م، إيه نابنا بعد الحروب، مدارسنا و مدارسهم، استقلال عدلي باشا، ، أوامر عدلي باشا، ستاتنا، في السكة الجديدة، ثورة الشباب، آه يا سودانى، على الأرغول، هزيمة اليونان، معاهدة الترك و الروم، خلافة بنى عثمان، صعيدى فى باريس، علموا الجنس اللطيف، القطن، محطة الإذاعة، يا أهل المغنى".
من أعماله للإذاعة المصرية، غير أغانيه لأم كلثوم التى كانت تبثها بشكل مستمر، كتب "سيرة الظاهر بيبرس" و أوبريت "عزيزة ويونس" والذى يقول عنه فى حوار له نشر يوم 10 مارس 1959 في مجلة الإذاعة المصرية إن الأغنيات في الـ 30 حلقة كانت من تأليفه و ألحانه وليست من ألحان زكريا أحمد الذى كان قد لحن 13 أغنية في مسرحية عزيزة ويونس، وخبر مثل هذا يعد مفاجأة لأن الأوبريت الإذاعى حتى اليوم مكتوب عليه أنه ألحان زكريا أحمد، ولو كان حديث بيرم غير حقيقى عام 1959 لكذبه الشيخ زكريا أحمد الذى عاش بعدها حتى رحيله في 14 فبراير 1961، عموما لنقرأ ما قاله بيرم التونسى عن عزيزة ويونس: "تعتمد حوادثها على بعض الواقع الذي شهدته مصر وتونس أيام حكم الفاطميين، وقد قدمت"عزيزة ويونس" من قبل كمسرحية منذ عشر سنوات، وكانت تحتوى على 13 أغنية لحنها في ذلك الوقت زكريا أحمد فلما طلبتها مني الإذاعة سنة 1954 رفضتُ تقديمها حيث كان موضوعها لا يتفق من تآخى العرب الجديد وتكاتفهم واتحادهم، وأخيرًا اتفقت الإذاعة مع المخرج الإذاعى عثمان أباظة على أن يقدمها فى صورة حلقات إذاعية تذاع فى شهر رمضان بعد أن عدل الفكرة وطورها بما يتفق مع عروبتنا وجعلتُ موضوعها ينمو نموًا فكاهيًا، وفى الوقت نفسه يفيض بالمحبة والمودة بين العرب. ولم تتفق الإذاعة مع الشيخ زكريا أحمد على إعادة تلحين الأغاني القديمة التى قدمها فى المسرحية، فوضعتُ أنا للأوبريت الذي سيذاع 30 أغنية جديدة من أغاني الفلكلور التونسى التى أحفظ ألحانها، ولذلك أمليتُها على تخت الموسيقي سيد فرج وفرقته، فحفظها ورددها معه كلا من أبطال الأوبريت الفنانة صباح والفنان محمد جمال.
وكانت فترة إقامة بيرم التونسى فى تونس حافلة بالعطاء الفكرى والأدبى، كما ذكر في مقدمة كتاب "محمود بيرم التونسي في المنفى حياته وأثاره" والذي جمعه وقدم له الدكتور محمد صالح الجابرى، الطبعة الأولى 1987، فلم يكن يتيح لنفسه فرصة الراحة، ويعود عمله الدائم هذا إلى أنه كان مجبرًا على الإنتاج المتواصل لأنه مورد رزقه الوحيد، وإذا رفضت صحيفه نشر كتاباته عَمِلَ في مهن أخرى مثل صناعة الحلويات والطواف بها على الباعة لاكتساب قوته، أو كتابة الأغاني والأزجال والمسرحيات والسيناريو السينمائي وإرسالها إلى الفنانين المصريين للحصول منهم على بعض المال كي يستطيع العيش، وهى أمور كلها جعلته يكتب طائعًا أو مكرهًا لأنه في الأخير احترف الأدب وارتضاه سببًا من أسباب بلائه وشقائه، ولكل هذه الظروف يعود الفضل الأكبر في هذا العطاء الوفير والإنتاج الغزير الذي أثرى الأدب العربي قاطبة. وكما عبر عن الحارة وأهلها وكل التفاصيل المحيطة بها في مصر، فإنه فعل ذلك في تونس حينما تغلغل في أعماق هذا الشعب وتعرف على أخص خصائصه ولمس جراحه وتحسس مواطن عطبه، فعمل جاهدًا من خلال ما كتب وأنتج على تخفيف هذه المحنة، حيث اتسم إنتاجه بالسخرية والفكاهة، بشكل أسهم في إزاحة الكابوس القابض على النفوس وإشاعة البسمة وبث التفاؤل. واقع الأمر أن بيرم التونسى الذى كرس كل إنتاجه للشعب والدفاع عنه لم يكن يتهيب في كثير من الأحيان من مواجهة الشعب نفسه وتوجيه سهام نقده للانحرافات التى يشاهدها في حياة العامة، فهو يعدها من العوامل التى أفقدت الشعب قدراته وسلبته إرادته وشلت عزيمته، فكان ذلك من الدوافع التى جعلته يهتم بالصغائر ويتناول بالتشريح والتحليل سلوك الناس وأهواءهم ويحرضهم على رؤية واقعهم والثورة على نفوسهم والتمرد على الاستعمار الذي كان سبب بلائهم. وفى افتتاحية العدد الأول من جريدة الشباب التى أصدرها محمود بيرم التونسى يوم 29 أكتوبر عام 1936 كتب مقالا بعنوان "من الشباب إلى الشباب" ولنتعرف على أسلوبه النثرى كما قرأنا شيئا من زجله، حيث يقول فى بداية هذا المقال "وبعد .. فاضحك أيها الشباب، لأن كل شيء حولك يسير على ما يرام، بلادك تجود للعالم بأكبر محصول من الزيت المبارك، وتخرج أجود أنواع التمر الشهى، ومقادير هائلة من القمح الممتاز، وفيها مناجم غنية بالفوسفات، والرصاص والبترول، ولكن آباءك وأعمامك يضعون أيديهم على خدودهم ويقولون والدموع تنهمر من أعينهم: الله غالب، بلادنا فقيرة، معدمة، مجدبة، بائسة"
حصل بيرم التونسى على الجنسية المصرية عام 1953 بعد قيام ثورة يوليو التى كان من أشد المؤيدين لها لانتقاده الكثير من السياسات في العهد الملكى، فكتب عددًا من الأشعار الداعمة للثورة حتى إنه أول من ألقى شعرًا بصوته في الإذاعة المصرية احتفاءً بقيام الثورة، وفى عام 1960 منحه الرئيس جمال عبدالناصر جائزة الدولة التقديرية. قال عنه الكاتب كامل الشناوي: فنان ثائر، عاش طوال حياته يعانى العرق والقلق، وشظف العيش، وقد يتهيب المثقفون عندنا من الاعتراف به فى حين كانت جامعات أوروبا تدرس آثاره وتعترف بموهبته الأصلية وفنه الرفيع.
وفى يوم 5 يناير من عام 1961 بدأت الروح تغادر جسد بيرم التونسى، فكان صوت السعال لا ينقطع من فمه، والكلام يخرج ثقيلًا، ووجهه أصفر باهتًا، وأصيبت زوجته بالجزع، فأرسلت تستدعى أبناءه، فجاءت ابنته عايدة مع زوجها، ثم جاءت نعيمة، وجاء محمد من الإسكندرية، ويموت على أيديهم الساعة الواحدة ظهرًا.