د. سامية حبيب
مؤلم هو إحساس اللاجدوى الذي يخلفه الأخرون المؤذيون في نفسك أمام أي فعل أو عمل تقوم به ، فكم هو مؤلم احساسك هذا أمام شفافيىة روحك وبراءة مشاعرك، انه يزيد احساسك بالغربة بين الأخرين حتى إن كانوا قريبين من محيطك الجغرافي والاجتماعي فمابالك لو كانوا بعيدين من مكان أو مدينة أخرى، تلك مشكلة عاطف وأزمته بل أزمة كل "عاطف ".
في تقديري إلى تلك الأزمة الاجتماعية والإنسانية "فشل الشريف بين الأشرار"يعود نجاح مسلسل "بالطو " إضافة إلى التناول الكوميدي للأحداث عبر نسج مواقف وشخصيات قريبة منا نعيش معها، إنه التناول البسيط الذي واجههنا بأزمتنا إلى حد الألم.
فالقصة اعتمدت على فكرة درامية بسيطة ألا هي وجود غريب في مجتمع مغلق او مغاير عن مجتمعه الذي عاش به وتربى على قيمه وعاداته وتقاليده .
واستدعى للذاكرة نص رائدنا توفيق الحكيم " يوميات نائب في الأرياف " وبطله القانوني الشاب الذي وقع في نفس المأزق شاب قاهري في مدينة هو غريب عنها تكشف له الأحداث العادات والتقاليد في تلك المنطقة الجغرافية كيفية مراوغة القانون التي ظن انه جاء ليعمل به ويطبقه ، مما يؤثر على سير عمله ويعوقا تنفيذه للقانون وتنتهي الرواية بعجز النائب عن انفاذ القانون أو الوصول للحقيقة .
كذلك يستدعي موضوع المسلسل رواية " طبيب أرياف " للمنسي قنديل وكلا الكاتبين طبيب في الأصل .
ويبدو أن دكتور عاطف بطل "بالطو وفانله وتاب" كنص منشور عام 2016 أو "بالطو "كنص مرئي" مسلسل تليفزيوني " اذيع منذ أيام في مارس 2023 ، سيصل لنفس النتيجة التي وصل إليها سابقيه، بسبب عدم فهم البطل للعادات والتقاليد من ناحية، ولسيطرة الجهل على المحيط الاجتماعي الذي توجد به من ناحية أخرى .
قرأت كتاب " بالطو وفانلة وتاب " بتوصية من ابني، فالأبناء يتواصلون مع جيلهم أكثر من الأباء، والحقيقة الكتاب لطيف بسيط يحكي به كاتبه الطبيب أحمد عاطف مسيرته في مرحلة مابعد التخرج في كلية الطب وما شابها من مشكلات بيروقراطية وإنسانية واجهها غيره في مجال العمل بعد مرحلة التعليم الجامعي المعجونة بطموحات وردية بريئة .
ميز الكتاب لغته البسيطة التي مالت للعامية المصرية أكثر من العربية الفصيحة ، كما تميزت لغة الكتاب بتعليقات من أفلام وأغنيات ساقها الكاتب في سياق مشابه لها مر به وهذا مايقوم به ابني فعلا ، بل وشبه بعض من قابلهم بممثلين ومشاهير مثل السيدة أمينة رزق والفنان أحمد عبد العزيز.
وهناك جزء في نهاية الكتاب حمل عنوان ( شوية تحاليل ) يتناول الكاتب بالسخرية اللاذعة بعض مشاهد من أفلام ومسلسلات مصرية حول مواقف طبية وانسانية، تشعر وكأنها خارج سياق الكتاب ولكنها ليست خارج سياق أحاديث الشباب.
ويبدو أن السنوات السبع مابين تاريخ نشر الكتاب وإذاعة المسلسل وهما لنفس الكاتب أحمد عاطف قد أضافت الكثيرمن الوعي الاجتماعي لديه، وإن كنت أظن أن ثمة رؤية للمخرج عمرالمهندس ساهمت في ذلك ولاشك ، بعد ما تابعت بعض أعمال المخرج السابقة مثل فيلمه البديع " بطل رأس السنة".
يضع النص المرئي او السيناريو الدراما موضع القوة ، فيخرج المسلسل من مجرد يوميات طبيب شاب نشرت في كتاب تحت عنوان أدب ساخر، ليتحول لنص يطمح لأكثر من ذلك ، فالمسلسل – دون أن يخرج عن روح اليوميات المنشورة – يستفيد منها ويعمق فكرتها بالتطرق لقضايا في مجتمعنا أعم وأشمل مثل الجهل والفساد والمتاجرة بالغيبيات والتحايل على القانون وتمرير المصالح المريبة، إنها أفات المجتمعات المغلقة الغير متطورة التي تنتشر في جنبات هذا الوطن.
مازاد النص المرئي أي المسلسل الذي تابعه الملايين قوة وبلاغة عن النص المكتوب، الدخول في موضوعات هامة وتمس واقعنا الذي لم يتغير كثيرا عن الثلث الأول من القرن العشرين، أي من قرن مضى، أهمها الفساد الإداري والمالي الذي يتحكم في الوحدة الصحية وهنا خلقت شخصيات جديدة مثل دكتور سمير طبيب الأسنان الذي يستغل المرضى ويحصل منهم على مال مقابل العلاج، وشخصية الإداري المتسيب عبد البديع الطرشوني لكنه طيب ومتعاطف مع الطبيب الشاب ، والصراف المستغل لموقعه كمصدر لمرتبات الموظفين ، هذا إلى جانب التأكيد على وجود شخصيات الممرضات وإعطاء كل منهن دورا كشخصيات مساعده في الأحداث الفاسدة مثل شخصية مس حلمية ومس ألفت .
أما شخصية الشيخ مرزوق فكانت على رأس الشخصيات الفاسدة التي اعتمد عليها البناء الدرامي في بلورة أزمة الأحداث وخلق الصراع ، إنه الدجال الذي يخدع أهل المدينة بالتقوى ويشكك في جدوى علاج الطبيب بل والوحدة الصحية كلها وذلك لأن " الشيخ مرزوق " يتكسب هو من علاجهم بالخرافة والدجل تحت مسمى البركة. وبذلك تتبلور المشكلة أمام أعين المتفرج وهي تصديق أهل المدينة لأفكار الشيخ مرزوق الجاهلة الهدامة والعمل بها دون وعي بأضرارها عليهم أفرادا وجماعات.
ثم تصيب أضرارها شابا يتطلع لمكانة في مهنته حين يتجمعون ضده أمام مندوبة الرقابة الإدارية ويوجهون له اتهامات باطلة بدفع من زميله دكتور سمير والشيخ مرزوق.
ماتخلفه التجربة هو احساس اللاجدوى من أي عمل فردي بين تلك المنظومة المكتملة المترابطة من الفساد لكن المسلسل يأبى تلك النهاية المتوقعة، فيبرئ الطبيب الشاب من موأمرة زميله والشيخ مرزوق بعد ثبات براءته في التحقيق بمساعدة الموظفين وكبيرة الممرضات ، ويؤكد المسلسل على روح التفائل حين يقرر الطبيب الشاب عاطف الاستمرار في العمل بالوحدة إلى انتهاء فترة التكليف القانونية ورغم أن تلك النهاية جاءت سريعة عبر حكي البطل ولم تجسد في مشاهد إلا أنها حملت بعض الأمل في واقع مؤلم .
وفي "بالطو" مواقف كثيرة جسدت تلك المفارقة بين الجهل والعلم وخلقت منها الكوميديا بأنواعها كوميديا الموقف مثل ولادة السيدة الحامل وافتقاد الطبيب الشاب الخبرة في ذلك، ورفض الزوج كشف الطبيب على زوجته، أو في تعجب الطبيب من حمل سيدة كبيرة في العمر ، أو أم تطعم طفلها الرضيع الفول وتسبب له مشاكل صحية خطرة في هذا العمر.
وهناك أيضا كوميديا اللفظ كما في موقف الطبيب مع السيدة التي تعاني اسهال وتصفه بكلمة " اتمشى" وغيرها من تعبيرات لايفهم معناها الطبيب.
كانت كل فنيات العمل على مستوى الكتابة والفكرة تحت قيادة مخرج واعي واعد جدا عمر المهندس ، وقد حقق مقولات الكبار عن تجربتهم مثل الاستاذ كمال الشيخ أن المخرج الجيد يحمل خبرة مونتير وصلاح أبو سيف حين قال المخرج لا بد وأن يفهم أهمية السيناريو، مبروك علينا عمر المهندس وكل فريق العمل معه فقد كان المونتاج والتصوير والديكور أبطال حقيقييين في انجاز عشر حلقات ممتعة . ولاشك أن فريق التمثيل كان من العناصر المؤكده للنجاح فاجتمعت خبرتهم مع الشباب، بل تألق الكبار في أدوار جديدة محمود البزاوي الذي كلما رأيته اتذكر بحزن اعماله كمخرج موهوب أيام الدراسة بالمعهد وأقول خسره مسرحنا، لكنه هنا يلعب دور المشعوذ بطريقة جديدة تؤكد موهبته فى كل مجال فني .
كذلك الفرفور المكير محمد محمود الذي يؤدي الصعب بسهولة مذهلة تؤكد خبرته التي اكتسبها بإخلاصه للتمثيل طوال عمره .
ولم تكن عارفة عبد الرسول سوى دأبها في كل دور صعب عدم الاقتناع بها وتصديقها في كل كلمة ولفته إنها مس كوثر فعلا . ولعل دور الأب للقدير محمد رضوان ودور الأم القديرة لاشينة لاشين كان يمكن أن يمتدا قليلا لكنهما أثبتا أن الدور ليس بالمساحة ولكن بالقيمة وهذا ما ينطبق على كل ضيوف الحلقات زميل العمر خالد الصاوي والبارعة سلوى خطاب والماكير رضا إدريس . اما الشباب فوجدناهم ينهلون من معين الكبار في الدأب والجدية محمود حافظ طبيب الأسنان المستغل الفظ براعة يحسد عليها ، الوجه البشوش مريم الجندي ، الممرضة حلمية سلافة والممثلة التي قامت بدورممرضة الأسنان فهي ممثلة تصنع تفاصيل للشخصية في المظهر والحركة بمنتهى البساطة ، أما بطل المغامرة دكتور عاطف أو عصام عمر، فقد كان مفاجأة جميلة للجمهور ينتظر منه الكثير.