الفكر الفلسفي في العصر الإسلامي.. قراءة في كتاب «تراث الإسلام»
قدم لنا "جوزيف شاخت" مُؤَلَّفًا يتكون من جزئين، يدور هذا المُؤَلَّف حول التراث الإسلامي الخصب، وحاول "شاخت" خلال الجزآن أن يقدم تصور كلي – وليس جامع مانع – للإسلام. ونجد أن الجزء الأول يتكون من ستة فصول، هم على النحو التالي: الفصل الأول: الصورة الغربية والدراسات الغربية الإسلامية، الفصل الثاني: الإسلام في عالم البحر المتوسط، والفصل الثالث: الحدود القصوى للإسلام في أفريقيا وآسيا، والفصل الرابع: السياسة والحرب، والفصل الخامس، التطورات الاقتصادية، والفصل السادس، الفن والعمارة. أما الجزء الثاني – وهو ما يهمنا هنا – يتكون من أربعة فصول، هم، الفصل السابع: الأدب، والفصل الثامن: الفلسفة وعلم الكلام والتصوف، والفصل التاسع: القانون والدولة، أما العاشر والأخير: العلوم.
والجدير بالذكر أن الكتاب صادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت ضمن سلسلة عالم المعرفة، ويقع الجزء الأول وهو العدد 233 بالسلسلة في أربعة مئة وستة عشر صفحة، أما الثاني وهو العدد 234 بالسلسلة – وهو مقصدنا – يقع في ثلاثة مئة خمسة وعشرون صفحة.
عزيزي القارئ، وقع اختيارنا على هذا الكتاب تحديدًا، لأمران، الأول، علينا أن نتعرف على الصورة الغربية التي يرانا منها الغرب. أما الأمر الثاني، أن يكون لدينا فهم موجز وصحيح حول الفكر الفلسفي في العصر الإسلامي، وهنا جاء اختيارنا إلى الفصل الثامن تحديدًا لِمَا يتضمنه من ثراء معرفي وخصب لموضوع من الموضوعات التي لها ثقالِها في الفكر الإنساني.
يدور هذا الفصل حول ثلاث مصطلحات هم محور الفكر الإسلامي وهي الفلسفة وعلم الكلام والتصوف. الفلسفة: هناك خلفية يقف فيها الفكر الفلسفي الإسلامي. حيث كان أهم حادث في تكوين الفكر الفلسفي الإسلامي دون شك لقاءَه للفلسفة اليونانية في بغداد، أيام حكم الخليفة المأمون في القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي. ولا بد من القول ابتداءً، إن الفلسفة اليونانية التي تلقاها العرب لم تكن هي فلسفة أفلاطون وأرسطو فحسب، بل كانت أيضًا تلك الفلسفة التي صيغت خلال عدة قرون على أيدي من واصلوا فلسفتهما وشرحوها.
وكان هناك إلى جانب الفلسفة الأفلاطونية وفلسفة أرسطو، الفلسفة الرواقية والفيثاغورية وقبل كل شيء الفلسفة الأفلاطونية المحدثة (Neo – Platonism) التي أنشأها أفلوطين (Plotinus) وبرقلس (Proclus). وقد بدت الفلسفة في صورة الحكمة الفريدة التي أسهمت كل العقول الكبيرة في تكوينها. وكان الفلاسفة المسلمون، بل حتى المفكرون المتصوفون المتأخرون، مقتنعين بذلك اقتناعاً عميقاً، لدرجة أنهم جعلوا أساس نظريتهم إلى الكون. كما كان المسيحيون وخاصة السريان في أنطاكية قد مهدوا الطريق لذلك بإضفاء الصبغة النصرانية على فقرات معينة للكتاب القدامى أو على الأقل جعلوها أكثر قرباً للدين.
أما عن مميزات الفلسفة الإسلامية في مجموعها، أولاً: أنها تمثل حدة لا سبيل إلى إنكارها على الرغم من اختلاف الأماكن التي ظهرت فيها، والمؤلفات التي صنفت فيها. كما أن نفس الملامح الأساسية الموجودة عند الفلاسفة المسلمين في المشرق هي بعينها الموجودة عندهم في المغرب. ونقطة البداية عندهم واحدة هي الحقائق القرآنية وتعاليم الإسلام المتعلقة بالحياة اليومية، ولم يكن بينهم من يبلغ به التهور أن يشك فيها. وأقصي ما في الأمر أنهم كانوا يلجؤون إلى التأويل المجازي في موضوعات معينة (مثل الخلق في الزمان وبعث الجسد) وكان لديهم أيضًا نفس الأساس العقلي الذي كان للفلسفة الهيللينستية.
ثانياً: أن هذه الفلسفة جزء من تيار الفكر الإغريقي. وهي تستند بصلة دائمة إلى كبار حكماء العصر القديم، مع الاعتقاد الراسخ بوحدة الحكمة، وبوجود نوع من الإلهام عند الفلاسفة القدماء. وكان فلاسفة المسلمين يرغبون في أن يضلوا مخلصين لذلك التراث من الحكمة. وبلغ من قوة اعتقادهم بوحدة الفلسفة اليونانية.
ثالثاً: أن الفلسفة الإسلامية تنزع إلى أن تكون "حكمة" فقد كان الفارابي وابن سينا وابن رشد مقتنعين بوحدة المعرفة التي تتوجها الإلهيات. والفارابي في كتابه "إحصاء العلوم" يحصي العلوم المتنوعة ويتكلم عنها، ويذكر الفلسفة في النهاية على انها رأس العلوم، لأنها تضمن اليقين في المعرفة التي يحصل عليها بالرهان. وابن سينا في كتابه الكبير الجامع "الشفاء" (والمقصود به شفاء النفس من الجهل)، يحيط بجملة العلوم بحسب الخطة التالية:
1- المنطق، 2- الطبيعيات، 3- الرياضيات، 4- الإلهيات.
ويذهب ابن رشد إذ قال بوجود ثلاثة انواع من العقول بحسب أنواع الأدلة الثلاثة التي بينها أرسطو. فالنوع الأول هو العقول البرهانية القادرة على متابعة دليل يقيني محكم. والنوع الثاني عقول منطقية تكتفي بالبراهين الجدلية. اما النوع الثالث فهو العقول التي تستجيب للوعظ والأدلة الخطابية، وهذه غير مهيأة لأتباع الاستدلال المنظم.
والعقول الأخيرة نجدها عند جميع الناس العاديين، وهم السواد الأعظم الذين لا يستجيبون إلا للخيال والعاطفة وحسب.
وأخيراً فإن الفلسفة الإسلامية تُبدي ولعاً بمسألة المعرفة وأُسسها المتعلقة بالنفس والوجود. ونحن نجد في الرسائل التي كتبها كل من الكندي والفارابي وخاصة ابن سينا حول العقل، تحليلاً دقيقاً ومفصلاً لقوي النفس المختلفة والماحل التي يجب أن تمر بها، بما في ذلك طهارة الخلق حتى تصل إلى الاتحاد مع مصدر الموجودات كلها. وهكذا فإن الفلسفة الأفلاطونية المحدثة تجد نفسها مؤيدة بأضواء معينة آتية من القرآن.
علم الكلام
يمكن أن نقسم جملة تاريخ علم الكلام إلى مرحلتين: فهناك أولاً: ما يمكن أن نطلق عليه مرحلة العقائد، وهي ليست مرحلة تفكير نظري بالمعني الكامل بهذه الكلمة، وإنما كانت هناك محاولات لتلخيص العقائد الواجب الإيمان بها في صيغ موجزة. فـــ "الفقه الأكبر" يتجاوز الصيغ الأساسية التي تعبر عن الايمان أعني النطق بالشهادتين. والثانية: خاصة بالقدر وعلاقته بأفعال العباد، والواقع أن أفعال الإنسان تستند استناداً تاماً إلى إرادة الله. والعلاقة بين الإرادة الإلهية وبين أفعال الإنسان هي المشكلة الحاسمة في علم الكلام النظري فيما يخص الأخلاق.
مسائل المعتزلة
احتلت المعتزلة في ميلاد الفكر الإسلامي مكانة عريقة ورائدة، قد اعتبروا فلاسفة، ولكننا نستطيع أن نعتبرهم أيضًا علماء عقائد، حاولوا أن يفهموا العقيدة، بما يتفق مع مقتضيات العقل، وأن يدافعوا عن العقل ضد منتفضيه. هم أول من حاول أن يقدموا عرضًا منظمًا للعقائد الإيمانية.
وعلي هذا النحو فإن واحدًا من شيوخهم الأوائل، وهو أبو الهزيل العلاف ابتدع المنهج التالي في بيان العقيدة الإسلامية، على النحو التالي:
أولاً: الكلام عن القدر والصفات الإلهية.
ثانياً: التحدث عن وحدة الذات الصفات.
ثالثاً: عن المعاد وما يتعلق به من وعد ووعيد.
رابعاً: في المصطلحات الشرعية والأحكام.
خامساً: عن "الامر بالمعروف والنهي عن المنكر" ودور النبوة والخلافة.
كما قد اُطلق علي علم الكلام أسم "Theology" علم اللاهوت، بالإضافة إلى ان مفهوم كل من هذين الاسمين لا يشمل نفس الموضوع في الاسلام والمسحية.
التصوف
عزيزي القارئ وإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن التصوف او مذهب الصوفية، ندخل في ناحية من أروع نواحي الفكر الإسلامي، بل الحضارة الإسلامية. ذلك أن كلام الكثيرين الذين كتبوا فيه يحرك نفوسنا، كما أن براعة او صافهم تثير إعجابنا. غير أنه لا يمكن أن نكون فكرة حقيقية عن غزاة هذا الميدان إلا إذا تعرفنا على النصوص.
كما أن هناك عدد معين من الأمثال الخاصة التي ترد كثيراً في كتابات الصوفية ترجع في أصلها أيضاً إلى القرآن. مثل نار الله نوره، وحجب النور والظلام التي تطبع على القلب والضمير كرمز للبعث (أو بالأحرى كرمز لخلود النفس)، والجانب الأقصى من السماء (سدرة المنتهي)، والشجرة التي تمثل نزعة الإنسان مصيره، والكأس، والخمر، والسلام، والتي ترمز كلها إلى الإكرام الخاص للمؤذنين، إذ يجلسون على أرائك في الجنة وما إلى ذلك.
وعلي أساس هذه الأفكار نستطيع أن نتبين بوجه عام ثلاث فترات كبيرة في التاريخ العام للتصوف:
الأولي: تغطي القرون الثلاثة الالي من تاريخ الإسلام (أي من القرن السابع إلى القرن التاسع للميلاد). وهي فترة يمن أن ندعوها فترة الصراع من أجل البقاء.
ومن أعظم الشخصيات التي ظهرت في هذه الفترة ويمثل "الخوف الشديد" "الحسن البصري"، أبي التصوف الإسلامي، ويقوم مذهبه في التصوف والزهد على الشعور باحتقار الدنيا.
يُعد الحسن البصري أول شخصية بارزة في الزهد عند المسلمين، فكان يدعو إلى السلام والوفاق بين المسلمين، وعدم التمرد والفتنة، لأنه يري أن ذلك كله صراع علي دنيا تافهة، لا تستحق أبدًا أن يقتل المسلم اخاه المسلم من أجلها، كما يشبه الدنيا بانها حُلم فيقول: "والدنيا حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، والعباد في أضغاث أحلام". وبهذا فهو يدعو إلى محاسبة النفس والشعور، العميق بالمسؤولية.
والشخصية الثانية تمثل "الحب الشديد" "رابعة العدوية"، وقد اعتمدت رابعة في تفكيرها على الآية ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (سورة المائدة: الآية 54).
ومن أشعراها (أحبك حبين، حب الهوى *** وحبا لأنك أهل لذاكا) الحب عند رابعة لا يلغي الخوف، بل يتضمنه، ولهذا نجد عندها إكثارًا من البكاء والحزن، فيذكر الشعراني عنها في طبقاته انها كانت كثيرة البكاء والحزن، وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زمانًا، وكان موضع سجودها كهيئة الماء من كثرة دموعها.
أما الفترة الثانية: تتميز بمحاولة التوفيق بين التصوف وخصومه، وانتصاره انتصاراً يجع قبل كل شيء إلى رجل عبقري هو الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي.
والثالثة: تتميز بانتشار المؤلفات الكبري في التصوف (وتشمل الفترة الواقعية بين القرنين السادس والتاسع للهجرة / الثاني عشر والخامس عشر للميلاد) كما تتميز بدخول التصوف في عصر التدهور ابتداء من القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي.
وبهذا نجد، طريق التصوف يجمع بين الزهد والتصوف في آن واحد. وهو يتطلب تصفية النفس التي تهيئها للاتحاد مع الحقيقة الإلهية. أي أن التصوف يستهدف القلب لينزح منه السواد ويجعله قلباً نقياً مثل بطن اللؤلؤة.
وخير ما نختم به حديثنا، أن الفلسفة الإسلامية من جهة تعين مرحلة مهمة في تطور الفكر الإنساني في جملته. كما أن جهد الفلاسفة المسلمين يبدو محالة نبيلة لكي يتجاوز الإنسان حدود نفسه، ويحقق رغبته في الاتحاد بالله، وينظم الدولة من أجل إسعاد الإنسان. هكذا فإن الروح التي كانت تحدوهم تستحق البقاء.