د. سامية حبيب,
أنا من أجيال كثيرة رافقها صوت أبلة فضيلة منذ طفولتنا إلى اليوم ونحن أمهات وأباء وبعضنا أصبح جد لأطفال صغار ومازلنا نستمع لصوتها، بل كثيرا ما كنت احكي لطفلي بعض من حكايات أبلة فضيلة من ذاكرتي أو أستمع إليها في الصباح وأرويها له في المساء. فمازال النداء الذي تحمله أغنية برنامجها الخالد "غنوة وحدوتة" لنا كل صباح حاضرا في أذهاننا" يا ولاد يا ولاد تعالوا معايا علشان نسمع أبلة فضيلة راح تحكي لنا حكاية جميلة تستمع للأغنية وكأنك تجري وتمرح مع الموسيقى ولست ساكن الحركة بجانب الراديو والجميل في الأغنية أنها بصوت طفل يدعونا ويرد عليه أطفال مثلنا مع موسيقى خفيفة سريعة الإيقاع راقصة ثم يدخل أثناءها صوت أبلة فضيلة وهي تخاطبنا بجملة لازمة في بداية كل الحلقات "حبيبي الحلوين.." حكايات أبلة فضيلة كانت بسيطة في لغتها الفصحي التي تقترب من العامية تتضمن فكرة تربوية مثل حدوتة "نفسك تطلع إيه" عن المهن الهامة في حياتنا اليومية لكن تهمل ولا تقدر التقدير الكافي أو حدوتة عن معلومة يفهمها كل طفل مثل حدوتة "كوب اللبن" حول الغذاء الصحي، أو تبث فيها قيم إنسانية مثل "حكاية قطتين" على الاختلاف بين الكائنات في اللون والمظهر وهو ما يناقش اليوم تحت مسمى "التنمر" أو حكايات تدور حول سلاطين وملوك بها إثارة لخيالنا، فكثيرا ماكنت أسأل عن معاني تلك الكلمات وأصاحبها حتى أحببت قراءة التاريخ والقصص التاريخية. بالطبع تعود الكتابة لأقلام قديرة مثل الراحل عبد التواب يوسف والراحل نادر أبو الفتوح وربما غيرهم لكن أداء أبلة فضيلة العميق البسيط ولاشك أضفى رونق على الكتابة.
بالنسبة لي ارتبطت باسمها وصوتها لأنها كانت أبلة - يرجع البعض الكلمة إلى اللغة التركية ومعناها العمة أو الخالة- مختلفة غير أبلة المدرسة التي كن يلزمنا بالواجبات المدرسية ثم الامتحانات في شدة وحزم، في حين أبلة الإذاعة تحكي لنا حواديت جميلة وأغنيات نرددها ونرقص على أنغامها وأحيانا كنت أحزن لأن حدوتة يوم المدرسة نفوتني فقد كانت تذاع قبل العاشرة صباحا، وكثيرا ما أتاحتها لنا إذاعة المدرسة أثناء وقت الفسحة ونحن نجري ونمرح على أنغامها في الفناء الفسيح.
وقد سعدت أيما سعادة حين التقيت بها في مهرجان الإذاعة والتليفزيون عام 2009 وكنت في إحدى لجان التحكيم، وكانت رئيسة إحدى اللجان، كنت أراقب كيف تقضي الوقت في العمل بتركيز شديد وحوار هادئ مع أعضاء اللجنة ،لكن ذلك لم يمنعني من بثها محبتي وسعادتي بلقائها وكانت تبتسم في حياء وكأنها اعتادت ذلك من أجيال من الأطفال كبروا يرافقهم صوتها، لذا يتضاعف الحزن على من أعطت لبلدها كل هذا العطاء أن لا يضمها ثراه.
أظن أن قرار وزير إعلام سابق بحرمان أعلام الإذاعة من بث برامجهم وحرماننا من أصواتهم بدعاوى سخيفة، كان قرارا غبيا، أتصور أنها تركت مصر وذهبت هناك بسببه، آن الأوان لإلغاء هذا القرار، دعونا نستمع لأصوات أمينة صبري وحكمت الشربيني وفهمي عمر وعمر بطيشة وإيناس جوهر وصبري وهدان وغيرهم لنستمتع بخبرة وثقافة ومهنية مفتقدة.
وثمة قضية أخرى يثيرها رحيل أبلة فضيلة وهو تراث الإذاعة وبينه برنامجها، فهناك آلاف الحكايات بصوت أبلة فضيلة ليتها تكون مازالت محفوظة في أرشيف الإذاعة المصرية، أحسنت شركة صوت القاهرة صنعا أن أنتجت بعض الحكايات بالرسوم المتحركة، لا أعرف عددها ولا كيفية إقتنائها لكنها موجودة على اليوتيوب والحمد لله، فما مصير آلاف الحكايات الأخرى؟ قد يقول قائل إنها حكايات قديمة وأطفال اليوم غيرأطفال الأمس، أكيد لكن الحواديت لاتتقادم يكفى اللغة والأداء والقيم المتضمنة.
أظن اآن الأوان للاستفادة من تراث الإذاعة المصرية العريقة فهذا تراث يحقق ثروات ولا شك تكفي لحل أزمات مالية واقتصادية لهذا الكيان العريق.